أيقظ فيروس كورونا الرأي العام العالمي من سباته العميق، وفضح قدرة “الدول الكبرى” على مجابهة الأخطار التي تحدق بالعالم صحيًا واقتصاديًا، فيما باتت الرأسمالية تعاني بشدة في هذا الوقت العصيب، وسط تحليلات سياسية على أعلى مستوى تتوقع انتهاء حقبة سيطرة الرأسمالية إلى الأبد، وظهور نظام دولي، ما يعني أن فيروسًا مجهريًا سيؤدي إلى تغيير العالم!

sss

مع تفشي الوباء في أنحاء الكرة الأرضية، صارت “قائمة الانتقادات” الطويلة الموجهة إلى الرأسمالية، مادة يومية لصفحات الرأي والاقتصاد في الصحف والمنصات الإلكترونية العالمية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، على مستوى العالم بأسره، إلى حد التبشير بنظام عالمي جديد، حتى وصل الأمر إلى حد الترويج لكون الجائحة أزمة كبرى عالمية مثل “أزمة السويس” عام 1956، التي أسقطت الإمبراطورية البريطانية، وأن العالم بعد كورونا لن يكن مثلما كان قبله، وأن سقوط رأسمالية السوق والاقتصاد الحر أمام امتحان فيروس كورونا يضاهي سقوط “الاتحاد السوفيتي” وانهيار جدار برلين.

 

ثمة تحليلات سياسية تتحدث عن أن جائحة كورونا ستؤدي حتمًا إلى تغيير العالم، وتنحية الولايات المتحدة عن قيادة العالم، عبر إعادة تشكيل النظام الدولي المستقر منذ انهيار “الاتحاد السوفيتي” مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وعودة نظام “القطبين” بجعل الصين قوة عظمى، وهو ما من شأنه أن يُنهي عصر “العولمة” الأمريكي.

جاء ذلك، فيما حذرت صحيفة “التايمز” البريطانية من كورونا بات يقود العالم نحو الركود ويهدد بإصابة النظام الرأسمالي في مقتل، خصوصًا أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو انكماش حاد، بشكل سيقود إلى كساد دولي عميق الأثر.

صحيفة “التايمز”: كورونا بات يقود العالم نحو الركود ويهدد بإصابة النظام الرأسمالي في مقتل

وأكدت الصحيفة أن على صناع السياسة في الغرب الرأسمالي منع هذا التدهور من التحول إلى حالة كساد اقتصادي، وثانيًا، عليهم إثبات أن الأسواق الحرة والتجارة المفتوحة هما النموذج الاقتصادي الأفضل القادر على توليد الثروة وتحسين حياة البشرية، وإن فشلوا في هذين الهدفين وغيرهما فإنهم سيسمحون للأفكار الخطيرة، مثل الحمائية التجارية والدولة الاشتراكية، بالبروز إلى الساحة الدولية من جديد.

ومن جانبها، توقعت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في تقرير نُشر مؤخرًا، أن يؤدى وباء كورونا إلى إعادة تشكيل العالم، حيث تناور الصين بعد تعافيها من الجائحة سعيا إلى قيادة الكوكب الأرضي، في الوقت الذي يتداعى فيه دور الولايات المتحدة على المستوى الدولي. ولفتت المجلة إلى أن “القيادة العالمية” لأمريكا على مدار العقود السبعة الماضية، لم تقتصر على الثروة والقوة فقط، بل على الشرعية التي تأتى من الحكم الداخلي في الولايات المتحدة القدرة، والاستعداد على قيادة وتنسيق الاستجابة العالمية للأزمات.

هل تنتهي العولمة؟

من المعلوم أن أزمة الرأسمالية والدول الغربية ليست وليدة فيروس كورونا فحسب، إنما سبقتها بسنوات عديدة أزمات متكررة، وفي كل مرة كانت تنجح في التغلب على الأزمة بحلول مؤقتة، لكنها لم تنجح إطلاقًا في التخلص من الإرث الرأسمالي الجشع في إرساء مبدأ المساواة بين البشر، وهو الذي كان دائمًا برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي وقت تحت وطأة أي أزمة اقتصادية.

والآن، بات العديد من الخبراء يعتقدون أن النظام الرأسمالي الحالي لن يتجاوز أزمته الراهنة في المدى القريب، بل إنه قد لا يتمكن من ذلك مطلقًا مثل المرات السابقة، عندما أدخل إصلاحات ما بعد الانهيارات، لجهة أن “العولمة” وتشابك اقتصاديات العالم سهلت بشكل كبير عولمة الأزمات وانتشارها بين بلدانه، فصار من الصعب إنقاذه من السقوط.

خبراء: “العولمة” وتشابك اقتصاديات العالم سهلت بشكل كبير عولمة الأزمات وانتشارها بين بلدانه، فصار من الصعب إنقاذه من السقوط

وما زاد من خطورة الجائحة العالمية، هو أنها تتزامن مع تراجع نمو الاقتصاد العالمي، وظهور مؤشرات ركود وانكماش منذ عام، وضعف وتراجع الأسواق المالية، وأسعار العملات، والحرب التجارية بين أكبر اقتصاديين في العالم، أمريكا والصين، ما يهدد نظام “العولمة”، والأسواق المفتوحة، فضلًا عن التوترات الجيوسياسية في مناطق متعددة بالعالم.

وتشير معظم الدلائل، وفق المعلقين السياسيين، إلى قرب نهاية حقبة “العولمة” الرأسمالية، مؤكدين أنه سيكون هناك تراجع في الانفتاح الدولي، وسيتم تقيد حركة التجارة بين الدول، بل وحركة السفر نفسها بما يعني أن الاقتصاد الحر سيصبح في مهب الريح، كما أن التحديات التي سيواجهها النظام الرأسمالي جراء الأزمة الحالية لن يقتصر على إيجاد التمويل اللازم له لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والمصرفية من الإفلاس والتعثر، إنما سيكون أمام تحد كبير في تأمين فرص عمل والحفاظ على استمراره إلى الأبد.

ويرى الدكتور عمرو حمزاوي، الباحث في “مركز كارنيغي للشرق الأوسط” بالولايات المتحدة، أن “الرأسمالية العنيفة” في الولايات المتحدة تستغل الرئيس دونالد ترامب، ومعه “اليمين المتوحش”، لإنكار خطر الفيروس القاتل، ولتمرير تقديم الفقراء والضعفاء والمهمشين قربانًا لآلة الرأسمالية الوحيد، وهو الربح. لذلك قاومت الرأسمالية تعطيل الاقتصاد واستخدمت “ترامب” ويمينه، من أجل ترديد مغالطات علمية خالصة وخطيرة بشأن توفر عقاقير طبية وبروتوكولات علاجية قادرة على القضاء على الفيروس ومرض كوفيد-19.

عودة “نظام القطبين”

من السيناريوهات المطروحة على الساحة العالمية، عودة “نظام القطبين” ليحكم العالم من جديد، خاصة بعد تضرر القوة الأمريكية، مع تصاعد النمو الصيني اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا. وحسب هذا السيناريو الذي يطرحه الكثير من المؤسسات والخبراء والمتابعين، ستنتهي “المناوشات” الإعلامية إلى مفاوضات بين واشنطن وبكين، يتفقان خلالها على اقتسام قيادة العالم بين الطرفين مناصفة، ليعود نظام القطبين من جديد كما كان في السابق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي.

 

تتمثل أبرز ملامح النظام العالمي الجديد، حسب هذه التحليلات، في عدم التفرد في قيادته من طرف واحد، وإنما التكامل البشري في تحقيق الخير البشري، إعادة إحياء الروح الإنسانية بربطها بمنظومة القيم الأخلاقية المشتركة مع الاحتفاظ بالخصوصيات الحضارية والهوية الثقافية لكل مجتمع.

وإلى ذلك، رأى هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في مقال له بصحيفة “وول ستريت جورنال”، أن جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد. وأوضح كيسنجر أن الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة.

في المقابل، يشير الكاتب د. عبد المنعم سعيد إلى أن صعود قوة الصين، والآن ترشيحها للقيادة في العالم في زمن «كوفيد – 19» يبدو كما لو كان طريقًا آخر إلى جهنم. وربما كان ذلك أحد عيوب الأمثلة التاريخية، فلا أميركا هي أثينا، ولا الصين هي إسبرطة، ولا الزمن زمن الإغريق، إنه القرن الحادي والعشرون.