وقعت الإدارة الأمريكية وحركة «طالبان» الأفغانية في 29 فبراير الماضي، اتفاقا وصفه المراقبون السياسيون بـ «التاريخي» في العاصمة القطرية الدوحة، سيتم بموجبه إجلاء القوات الأمريكية من أفغانستان خلال 14 شهرًا، مقابل ضمانات أمنية من «طالبان»، وتعهدات بعقد محادثات سلام مع حكومة كابول.

sss

أنهى الاتفاق حربًا مستمرة منذ عام 2001، شنتها واشنطن بذريعة «الحرب على الإرهاب» إثر هجمات 11 سبتمبر من نفس العام، حيث تم نشر أكثر من 775.000 جندي أمريكي في أفغانستان. ومن بين هؤلاء قُتل 2300 مجند وضابط، وأُصيب 20586، وذلك استنادًا إلى إحصاء رسمي أعلنت عنه وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» مؤخرًا.

 

كانت هذه الحرب مثار جدال سياسي وإعلامي في الولايات المتحدة على مدار الأعوام الماضية، حيث أظهرت مجموعة سرية من الوثائق الحكومية حصلت عليها صحيفة «الواشنطن بوست»، أن كبار المسؤولين الأمريكيين «فشلوا في قول الحقيقة» حول الحرب في أفغانستان طوال فترة الحملة التي استمرت 18 عامًا، إذ أصدروا تصريحات «وردية» يعلمون أنها كاذبة، وأخفوا أدلة لا لبس فيها على أن الحرب أصبحت يومًا بعد يوم غير قابلة للفوز بها أبدًا!

 

«ابن لادن» يضحك في قبره

قالت الصحيفة إنه «منذ ذلك التاريخ، لم تقدم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بيانًا شاملًا حول ما أنفقته على الحرب في أفغانستان، لكن التكاليف باهظة. ومنذ عام 2001، أنفقت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو خصصت ما بين 934 مليار دولار و978 مليار دولار، أي ما يقرب من تريليون دولار».

جيفري إيجرز: بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان!

وتساءل جيفري إيجرز، وهو ضابط كبير متقاعد من قوات البحرية عمل في البيت الأبيض خلال حقبتي جورج بوش الابن وباراك أوباما، وفق الوثائق التي كشفت عنها الصحيفة: «ماذا جنينا من وراء هذه التريليون دولار؟ هل كان الأمر يستحق تريليون دولار؟. الحقيقة أنه بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما كان يضحك في قبره المائي بالنظر إلى ما أنفقناه على أفغانستان»!

ورغم ذلك، لا يشمل هذا الرقم المعلن عنه من قبل «البنتاجون»، تلك الأموال الطائلة التي أنفقتها وكالات أمريكية أخرى في سياق الحرب الأفغانية العبثية، ومن تلك الجهات مثل وكالة الاستخبارات المركزية، وإدارة شؤون المحاربين القدامى، المسؤولة عن الرعاية الطبية لقدامى المحاربين الجرحى.

وأضافت «الواشنطن بوست»: «في البداية، على سبيل المثال، كان للغزو الأمريكي لأفغانستان هدف واضح ومعلن، وهو الانتقام من القاعدة ومنع تكرار هجمات 11 سبتمبر 2001. ولكن تُظهر المقابلات أنه مع استمرار الحرب، استمرت الأهداف والمهمة في التغير، وترسخ انعدام الثقة في الاستراتيجية الأمريكية داخل البنتاجون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. وبقيت الخلافات الأساسية دون حل، فقد أراد بعض المسؤولين الأمريكيين استخدام الحرب لتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية، وأراد آخرون تغيير الثقافة الأفغانية وتمكين المرأة، بينما أراد فريق ثالث إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بين باكستان والهند وإيران وروسيا».

من جانبه، قال جيمس دوبينز، وهو دبلوماسي أمريكي رفيع سابق، خدم كمبعوث خاص إلى أفغانستان في عهد بوش وأوباما: «إننا لا نغزو البلدان الفقيرة لجعلها غنية، أو البلدان الاستبدادية لجعلها ديمقراطية، بل نغزو الدول العنيفة لجعلها سلمية، وقد فشلنا بوضوح في أفغانستان».

والمثير للدهشة، بحسب الصحيفة، أن الرئيس السابق باراك أوباما، قال في خطاب ألقاه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في نيويورك، مطلع ديسمبر 2009 «لقد انتهى التوقيع على بياض، يجب أن يكون واضحًا أن الأفغان يتعين عليهم تحمل مسؤولية أمنهم، وأن أمريكا ليست لديها مصلحة في خوض حرب لا نهاية لها في أفغانستان».

 

الكذب العلني

وعد كل من بوش الابن، وأوباما، ودونالد ترامب الجمهور الأمريكي بالشيء نفسه، في خطبهم الرسمية، وهو تجنب الوقوع في فخ محاولة «بناء الأمة» في أفغانستان. غير أن الرؤساء الثلاثة كذبوا على الشعب الأمريكي، وفشلوا – على التوالي- فشلًا ذريعًا، وخصصت الولايات المتحدة أكثر من 133 مليار دولار لإعادة بناء أفغانستان، أي أكثر مما خصصت لإحياء أوروبا الغربية بأكملها بخطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما دعا بعض المعلقين الساخرين في أمريكا إلى وصف ذلك الفشل المتعاقب عل مدار 3 عهود رئاسية بـ«الفشل الثلاثي»!

 

كما مارس الجنرالات الأمريكيون أيضا الكذب العلني، ففي تصريحاتهم على الملأ، قالوا إنهم يحرزون على مدار السنوات الماضية تقدمًا مطردًا في الهدف المركزي لاستراتيجيتهم، وهي تدريب جيش أفغاني قوي وقوة شرطة وطنية يمكنها الدفاع عن البلاد دون مساعدة أجنبية. أما في الوثائق السرية، فقد وصف المدربون العسكريون الأمريكيون قوات الأمن الأفغانية بأنها «غير كفؤة وغير صادقة». كما اتهموا القادة الأفغان بتحصيل رواتب لعشرات الآلاف من «الجنود الأشباح».

عملية «الحرية الدائمة»

تحولت حركة «طالبان»، التي برزت كقوة عسكرية مؤثرة خلال فترة الحرب الأهلية الأفغانية عقب الغزو السوفيتي (1979- 1989)، من مجرد حركة «جهادية» أنشأتها مجموعة من «الطلبة» الذين تلقوا تعليمًا دينيًا لمقاومة الغازي الشيوعي، إلى أهم الجهات السياسية الفاعلة في البلاد على مدار السنوات الـ 25 الماضية، فقد صنعت الحرب مع السوفييت من «طالبان» كيانًا استطاع أن يحكم معظم أقاليم دولة عريقة مثل أفغانستان. 

 

وفي عام 1989، بعد انتهاء الاحتلال السوفيتي لأفغانستان الذي دام 10 سنوات، شهدت البلاد اندلاع حرب أهلية عام 1992 بين جماعات «المجاهدين». وجرّت الحرب الأهلية الأفغانية البلاد التي خرجت لتوها من معارك كانت تستهدف القوات السوفيتية، إلى بيئة صراع وحالة من عدم الاستقرار.

جرّت الحرب الأهلية الأفغانية البلاد التي خرجت لتوها من معارك كانت تستهدف القوات السوفيتية، إلى بيئة صراع وحالة من عدم الاستقرار

ومع انسحاب السوفييت، خلَّفت الحرب «أمراء» لهم قواتهم وأسلحتهم، ومن ورائهم دول تدعمهم، وصارت لكل قوة سياسية أو قبلية مناطق تسيطر عليها وتحكمها كما تشاء، ولا حدّ آنذاك للنزاعات المسلحة بين الجماعات متضاربة المصالح والأهداف.

وفي حالة الانقسام الواسع هذه، وانعدام الأمن داخل المدن وعلى مستوى أفغانستان كلها، جاءت «طالبان» بأهداف دينية، تتمثل في إنشاء «نظام إسلامي قائم على الفقه الحنفي» في البلاد المضطربة. وقبل ذلك جاءت الحركة بأهداف سياسية، ببساطة كان شعارها: «استعادة الأمن والاستقرار» ونزع السلاح المنتشر في كل مكان، وتأمين الطرق العامة والخارجية. وهذه الأهداف لا تخدم «طالبان» أو أفغانستان فحسب، وإنما باكستان الحليف الأكبر للحركة التي سعت وقتها لتأمين جارتها بهدف الوصول لأسواق دول آسيا الوسطى. لذلك، اعترفت بها إسلام أباد، فقال أعداء الحركة إنها صنيعة وكالة الاستخبارات الباكستانية، التي كانت تتمتع بدعم كبير من نظيرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية.

 

لم تشكل «طالبان» أي تهديد للولايات المتحدة، حتى وقوع هجمات 11 سبتمبر. وعلى الفور توجهت أصابع الاتهام إلى «ابن لادن»، زعيم تنظيم القاعدة، الذي كان مقيما في أفغانستان تحت حماية «طالبان»، باعتباره المتهم الأول في الهجمات التي كان له صدى عالمي، وبدأت واشنطن على إثرها حربها الطويلة ضد الجماعات الراديكالية في العالم الإسلامي، حيث قال الرئيس بوش في خطاب شهير ألقاه من العاصمة واشنطن: «إما أن تكونوا معنا، أو مع الإرهاب».

وفي السابع من أكتوبر 2001، أي بعد أقل من شهر على هجمات 11 سبتمبر، أطلقت الولايات المتحدة هجماتها على أفغانستان، تحت اسم «عملية الحرية الدائمة»، لمواجهة قوات «طالبان» على الأرض، فأصبحت أفغانستان عامًا بعد عام بمثابة «فيتنام جديدة» لواشنطن، لكن 19 عامًا من الحرب الضروس بين الحركة والجيشين الأمريكي والبريطاني، انتهت أخيرًا على مائدة التفاوض. 

 ـــــــــــــــــــ

المصادر: