تُثير الصّور الفوتوغرافية -القديمة والحديثة- كثيرًا من التّأملات والمشاعر المختلفة.. فكلُّ صورة لها دلالتها وسيرتها الخاصة، ويمكننا دائمًا الحديث عن حكاية الصورة أو عن سرديتها. فكل صورة تتكون من عالم مركَّب من الرموز والعلامات، يمكننا مثلا أن نسأل: من صاحبها؟ وما هدفه من الصورة؟ وهل هي صورة رسميّة التقطت وفق شروط مؤسسة ما أم هي مجرد صورة شخصية عفوية؟ وإذا كانت الصورة لأكثر من شخص، فقد تسأل: من هم؟ هل هم عائلة أم مجرد أصدقاء؟ وهل تدلّ ملابسهم على انتماء طبقيّ أو ثقافيّ محدَّد؟ يمكنك أن تتوسع أكثر فتسأل عن طموح الصورة ونموذجها الذي تسعى لأن تتصل به أو أن تكون جزءًا منه.. إلخ.
من الجيد هنا أن نتعامل مع الصورة باعتبارها نصًّا تتوفر له كل شروط النصية، وكما تعلم، فإنّ كل نصٍّ يختلف عن غيره من النصوص، ويتصل بها في الوقت نفسه، كل نص له عالم ظاهر يدرك مباشرة، وله باطن لا يُدرك إلا بعد التأمل.. ولك أن تقول: لكل نص عقل واعٍ، تمامًا كما أنّ له عقلًا مضمرًا (لا وعي النص)، ولا يخفى على المُحلِّل المُدقِّق رؤية النص من زاويتيه أو من جانبيه: الظاهر والباطن، وما بينهما من انسجام أو تناقض، وطبيعة علاقته بنوعه أو جنسه.. إلخ
الصورة الفوتوغرافية نصّ يصعب علينا قراءته بمعزل عن السياقات الاجتماعية والتاريخية والتطلعات الطبقية والثقافية والأخلاقية.. إنها جزء من كُلّ أكبر منها، وهي علامة تختلف عن غيرها من العلامات، وتتصل بغيرها في الوقت نفسه.. وهذا لا يعني أنها لا تحمل مضمونًا في ذاتها؛ فالصورة –دائمًا- لها مركز أو لها موضوع تتجه إليه عين الكاميرا وتغمره بالضوء، ولا أحد يخطئ اتجاه الضوء أو موضوع الصورة.. ورغم ذلك فإن هذا المركز المغمور بالضوء كثيرًا ما ينال منه ما يقع على هامش الصورة: الأشياء أو البشر الذين يظهرون عَرَضًا، وفي أحيان غير قليلة قد يشغل الهامش قرّاء الصورة بأكثر مما يشغلهم متنها أو موضوعها، تشغلهم الظلال لا الضوء.. وبعض الصور تكتسب ثراءها من الجدل العميق بين مركزها وهامشها.
أحاول هنا أن أتأمّل قيمة الهامش؛ أتابع قيمة درجات الظلال المحيطة بالكتلة الأساسيّة، أحاول أن أصف الجدل القوي بين المتن والهامش، وأن أقول لك: إن ما نراه هامشيًّا وعابرًا كثيرًا ما يكون ضروريًّا وأساسيًّا، وأننا لا ننتبه بما يكفي إلى قيمة الهوامش في حياتنا، بعض الهوامش أساسية في وجود المركز أو في منحه دلالته وقيمته.
لقد أدرك صُنّاع الصّورة أهمية الهوامش والخلفيات، ووضعوا لها اشتراطات محدَّدة، فمثلًا في الصّور الرّسمية لكبار السّاسة والقادة يبرز الهامش قويًّا ومؤثرًا، فخلفية الصّورة أو هامشها لا يُترك للمصادفة وإنما يخضع لبروتوكول دقيق؛ فأنت تشاهد كيف توضع الأعلام بالتبادل خلف رؤساء الدول حين تكون الصّورة خاصة بمؤتمر ثنائيّ، فخلفيّة الصّورة هنا لا يمكن أن تكون أهم من الكلام الذي سيقوله الرئيسان، ولكنها أيضًا ليست عارية عن الدلالة، إنها تبعث برسالة محددة عن عمق العلاقات بين البلدين؛ فحين يضعُ رئيس بلد عَلَم بلد آخر خلف ظهره فهذا يعني أنّ العلاقات بينهما تقوم على التعاون والتكافؤ، وأنهما يسعيان معًا إلى تحقيق مصلحة مشتركة.. وقُلْ مثل ذلك عن الصّور الشخصية التي توضع فوق أوراق رسمية، كجواز السفر، وشهادات التخرج من الجامعة.. إلخ.
جدل الهامش والمتن!
وبعيدًا عن الصّور الرسمية، يمكنك أن تتابع عشرات الصور التي يتراجع فيها المتن لصالح الهامش، بمعنى أن الهامش يتقدم ليغدو هو الموضوع، وذلك حين تشاهد صورة لأحد زوّار هذا الأثر العالمي أو ذاك، فمن السّهل أن نجد لأهرام الجيزة أو برج إيفل أو سور الصين العظيم كثيرًا من الصّور التي التقطها مصورون عالميون ومن زوايا مختلفة، إنها آثار دالة بذاتها، ولكنك حين تزور الأهرام مثلًا ومعك كاميرا الموبايل فحتمًا سترغب في التقاط صورة لنفسك أمام هذا الأثر العظيم؛ فليس سهلًا على الزائر أن يطرد فكرة توثيق هذه اللحظة من رأسه، وهنا ستأخذ الصّورة معناها من القيمة التاريخية لهذا الأثر، سوف يُهيمن هامش الصورة على متنها، فأنت تريد أن تقول لأصدقائك: لقد كنت “هناك” وأن هذا الـ”هناك” هو مركز الصورة، أو هو الموضوع!
وإذا تجاوزنا الخلفيات التّاريخية إلى صورتك أنت على شاطئ النهر، أو في الحقول الخضراء المنبسطة، حيث الفراغ الممتد خلفك بلا نهاية، هنا ستكون الخلفيّة بجوار المتن، ستدلّ (هي) عليك بقدر دلالتك (أنت) عليها، فصورتك في الحقول قد تشير إلى أصلك الريفي، وإلى اعتزازك بهذه الأصول، وقد تشير إلى روحك التّواقة، وإلى تقديرك الكبير للطبيعة مقابل المدينة.
صورة لشاعرين وكاتبة
وحتى لا يكون كلامنا مرسلًا يمكننا هنا أن نتوقف إزاء صورة محددة نحاول فيها مناقشة العلاقة بين المتن والهامش، ولنأخذ هذه الصورة النادرة التي التقطت -بعفوية واضحة- للشاعرين محمود درويش وعبد الرحمن الأبنوديّ تتوسطهما الكاتبة صافيناز كاظم، لقد التقطت الصورة في أحد شوارع القاهرة عام 1970، وهذا تاريخ مهم، بعد هزيمة 1967 وقبل انتصار أكتوبر المجيد، لقد بدت الصّورة عفويّة إلى حدّ كبير؛ فقد كان الأبنودي يسير بجديّة وهو ينظر إلى الأمام، في حين انهمك الشاعر درويش مع الكاتبة كاظم في حديث وديّ ضاحك.
في مثل هذه الصورة لا يتصور أحد أن ينشغل المتلقي بغير المتن الاستثنائي؛ فنحن إزاء صورة تضم ثلاثة أسماء شهيرة في دنيا الشعر والصّحافة، والمؤكد أن صداقتهم قوية؛ فقد كانوا يسيرون بأريحية في شارع يميل إلى الزّحام، وهذا يعني أنّهم يسيرون في طريق سبق لهم السير فيه من قبل؛ فهم يعرفونه جيدًا.. لقد هيمن هذا المتن على روّاد وسائل التواصل الاجتماعي الذين بادروا وشاركوا الصورة التي توثق لحظة رمزية فريدة.
ولا تحتاج الصورة إلى تأمل كبير لترى هيمنة أجواء فصل الشّتاء؛ فالثلاثة يرتدون ملابس أوروبية ثقيلة، وبدت الكاتبة كاظم كفتاة أوربية متحررة وهي تسير بين الشاعرين، وخلف هذه الصورة هامش عاديّ، ممتدّ وطويل، بالتأكيد لم يخطر ببال من التقط هذه الصورة أن هامشًا كهذا قد يعني شيئًا. ورغم ذلك فقد منحها بتلقائيته بُعْدًا إنسانيًا دافئًا، كما منحها بُعْدًا فكريًّا إشكاليًّا؛ حيث أطّرها بالعابرين الذين وجدوا في هذه اللحظة بالمصادفة، وهم بالتأكيد لا يعلمون شيئًا عن هذه الصّورة، ولا يعرفون القيمة الثقافية الكبيرة لهذه الرموز.
وعلى يمين الصورة يمكنك أن تشاهد دكانًا صغيرًا لبيع الملابس الشعبية، ولا يظهر من يافطته الكبيرة غير الجزء الأخير من اسمه، يليه دكان آخر مُتهدِّم الواجهة، ولا تُظهر الصورةُ نوعَ النشاط الذي يقوم عليه.. تهيمن على الهامش من اليسار- صورة امرأتين مصريتين ترتديان “المَلَس” الأسود، وهو زيّ مُغْرق في محليته، وربما لم يعش طويلًا بعد تاريخ هذه الصورة؛ فقد اختفى بعد سنوات قليلة من انتصار أكتوبر وحلّت مكانه أزياء أخرى، تناسب انفتاح الاقتصاد وهجرة المصريين إلى دول الخليج عقب الحرب وارتفاع أسعار البترول وحاجة اقتصاديات دول الخليج إلى الأيدي العاملة.
وإذا أعدت النظر إلى المرأتين فسوف تلاحظ أنهما تسيران بمحاذاة بعضهما، وإنما تتقدَّم إحدهما على الأخرى قليلًا، تبدو المرأة المتقدمة –لعلها وحدها من انتبهت إلى عين الكاميرا فابتسمت على استحياء– في العشرينيات من عمرها، تليها الأخرى التي تكبرها بمقدار الضعف تقريبًا، ورغم ذلك فالسيدتان تنتميان إلى طبقة واحدة، وترتديان زيًّا شعبيًّا واحدًا، وبالتالي فهما تحملان قيمًا واحدة حول وجود الجسد الأنثويّ في الفضاء الاجتماعيّ، وهي قيم مستقرّة، يلتزم بها الصغار والكبار جميعًا، وهي بالتأكيد تبتعد عن القيم التي يمثلها الجسد الأنثويّ المُتحرِّر للكاتبة صافيناز كاظم بملابسها الحديثة وضحكتها الواثقة التي تخلَّلت الحوار بينها وبين الشاعر محمود درويش، لا تشبه الكاتبة كاظم أيًّا من المرأتين اللتين في الهامش، تمامًا كما أن درويش والأبنوديّ لا يشبهان الرّجال الذين تزدحم بهم خلفية الصورة، باستثناء رجل واحد يرتدي الزّيّ الأوربيّ، ولا يكاد يظهر في الزّحام!
يمثل المتنُ برموزه المُهمّة الثقافةَ الحديثة، فهم يتحركون بثقة ورشاقة إلى الأمام.. إنهم يعرفون وجهتهم جيدًا، ولكنهم –بكل أسف– يسيرون بمعزل عن الناس، وكأنّ إبداعهم -الشعري والنثري- يخصهم وحدهم، أو كأنهم يخاطبون به فئة أخرى ليست في هذه الصورة، ولا علاقة لهذه الجموع التي تتحرك في الهامش بها.. فالشاعران والكاتبة لا يشبهون هؤلاء الناس، ولا أحد من هؤلاء الناس يُدرك أن هذا الشارع يسير فيه –الآن- شاعران كبيران وكاتبة؛ فالهامش مشغول عنهم بحاجاته إلى أقصى حد، كما أنه منهك الحركة ثقيل الخطى!
وحده الرجل ذو الزِّيّ العسكريّ على يمين الصورة يسير بخطى منضبطة، ولكن في مسار معاكس لمسار هذه الطّليعة المثقفة، إنه لا ينظر إليهم ولا يراهم، مثله في ذلك مثل باقي المدنيين في الهامش، ولكن اللافت أنه يسير باتجاه الناس أو باتجاه الجموع حتى وإن بدا غير منشغل بشيء، بخلاف النخبة المثقفة التي تسير وظهرها للجميع!
الصورة إذن تشبه واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي. إنها صورتنا بهامشها ومتنها معًا، بما قصدته عين الكاميرا وبما لم تقصده، ولعلك تفكر الآن وتسأل نفسك: ماذا لو كان المتن (الشاعران والكاتبة) يسيرون في الاتجاه المعاكس؟ ماذا لو اتجهوا بخطابهم المثقف إلى هذه الجماهير التي لا تهتم لوجودهم؟ ماذا لو بدوا أكثر انسجامًا معهم؟
لقد مضى على هذه الصورة أكثر من نصف قرن، ولا زلنا حتى الآن نعيش الصورة ذاتها أو اللحظة الحضارية ذاتها: نُخب مثقفة، وجماهير لا تجد نفسها فيما نقدمه لهم من ألوان الإبداع والأدب!
من خير الكلام:
إن ما تظنه مصادفة قد لا يكون كذلك دائمًا، وإن ما يبدو لك عفويًّا وغير مُرتّب قد يكون جزءًا من عدة أنساق مركّبة.