«رجل لا علاقة له بزماننا ولا بالأفكار المؤثرة والفاعلة فيه.. يبدو وكأنه رصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت في قلب القرن العشرين»، لم يكتف الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل بهذه العبارة لوصف الفقيه الشيعي الثمانيني المعمم الذي التقاه في منفاه بالعاصمة الفرنسية باريس نهاية عام 1978.
بدا المرشد الأول للثورة الإيرانية آية الله روح الله الموسوي الخميني، وكأنه شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام، «عادت الحياة بمعجزة لتقود معسكر (علي بن أبي طالب) بعد انتصار الأمويين وبعد مصارع الشهداء من آل البيت وبعد ثلاثة عشر قرنا من الزمان أوصلتنا بعد مسيرة تاريخية وطويلة وشاقة إلى عصر الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، والسباق على الأسلحة النووية والمنافسة للسيطرة على الفضاء وفض أسرار الخلايا والتحكم في الإلكترونات!».
كان هيكل قد التقى الخميني مرتين، الأولى عندما كان المرشد في منفاه بباريس فيما كان أنصاره وأتباعه يشعلون المدن الإيرانية بالثورة وينزعون الحكم من الشاه محمد رضا بهلوي، والثانية بعد عودته إلى بلاده وهو يرتب أوراق النظام الجديد في مدينة قم المقدسة.
جمع هيكل ما دار باللقائين في كتابه «مدافع آية الله.. قصة إيران والثورة»، الذي نشره للمرة الأولى باللغة الإنجليزية عام 1981 تحت عنوان «عودة آية الله» وتناول فيه قصة الثورة الإسلامية وتحليل أسبابها، ثم ترجمه إلى العربية الدكتور عبد الوهاب المسيري والأستاذ شريف خاطر عام 1982، بعنوانه الأصلي.
في اللقائين سعى هيكل إلى تكوين صورة عن هذا الرجل الذي هز العالم وحول إيران من شرطي الشرق الأوسط التابع للولايات المتحدة والحليف الأقرب لإسرائيل بالمنطقة، إلى الجمهورية الإسلامية التي رفعت منذ تأسيسها شعار «الموت لأمريكا وإسرائيل».
«يفكر الخميني ويتحدث بأسلوب المطلق، وتهيمن عليه رؤيته لتاريخ الشيعة هيمنة كاملة فهو لا يمكن أن ينسى قط موقعة صفين – دارت بين جيشي علي ومعاوية وهزم فيها جيش الأول بعد اللجوء إلى التحكيم- لذا رسخ في نفسه شك عميق من أي شيء له علاقة بالتحكيم والحلول الوسط، وقد تسبب عجزه عن التوصل إلى حلول وسط إلى تعقيدات عديدة في الشئون الخارجية والداخلية».
في اللقاء الأول حاول هيكل استنطاق الخميني ليتعرف على خططه لما بعد نجاح الثورة، فطرح عليه سؤالا ليستشف من إجابته شكل وطبيعة نظام الحكم الجديد، «ليس عندي أدنى شك في مقدرتك على القضاء على النظام القديم، لكنني لست واثقا بنفس الدرجة في قدرتك على تشييد النظام الجديد»، يقول هيكل، مضيفا «إذا جاز لي استخدام الاصطلاحات العسكرية فإنك قد أظهرت مقدرتك على استخدام المدفعية بكفاءة عالية، لكن بعد أن انتهت مدفعيتك من أداء مهمتها، ألست في حاجة إلى المشاة ليحتلوا المواقع التي تم الاستلاء عليها. فأين مشاتك؟».
«لم يكن لدى الخميني في هذا الوقت إجابة مقنعة على هذا السؤال»، ويبدو أن الإجابة فرضت نفسها بعد عودة الرجل الذي يرفض الحلول الوسط إلى طهران، فاتخذ قرارا سريعا بتأسيس «الحرس الثوري»، لتكون مهمته الأولى حماية نظام الجمهورية الإسلامية في الداخل والخارج، ومنع التدخل الأجنبي ومواجهة أي انقلابات أو تمردات أو احتجاجات من شأنها تهديد نظام ولاية الفقيه أو المس بموقع المرشد الأعلى واستهداف صلاحياته.
«عندما تحدثت مع الخميني فيما بعد في مدينة قم أبدى إيمانا طوباويا بمقدرة المجتمع على الحياة في وئام بدون قسر خارجي، وقال لي: يقينا، بإمكاني أن أفرض القانون والنظام على البلاد اعتبارا من الغد، لكن لا يمكن إنجاز ذلك دون الاستعانة بالجيش وشرطة جديدة تشبه السافاك».
كانت الأوضاع الداخلية في إيران مضطربة والقوى الدولية تتربص بالنظام الجديد الذي أصر على استعداء الجميع، ولم يفعل الخميني ولا المحيطون به أي شيء لإصلاح الأوضاع، «قبض على الناس بشكل تعسفي وقدم للمحاكمة ما يقرب من 55 ألف شخص، بُرئ منه عشرات الآلوف، لكنه أعدم 350 شخصا في الشهور الثلاثة الأولى واستمر في تنفيذ أحكام الأعدام منذ ذلك الوقت بعد تقديم أوهى الاتهامات».
منذ ذلك الوقت، ومدافع آية الله ومشاته لم تسمح بأي تهديد يقوض صلاحيات نظام ولاية الفقيه أو يمس ثوابته، سحقت قوات الحرس الثوري كل الحركات التي نزل فيها الإيرانيون إلى الشوراع، للمطالبة بتغيير البنية السياسية والدستورية لنظام الملالي، أو للدعوة إلى تحسين الأحوال المعيشية، أو توسيع مساحات الحريات الاجتماعية والشخصية.
وفي كل خروج أو محاولة للتعبير عن رفض سياسات وتوجهات نظام ورثة الخميني الذي حكم البلاد بالحديد والنار، يُواجه المحتجون بقوة أعنف من قوة «السافاك» الذي أسسه الشاه لمواجهة معارضيه قبل اندلاع الثورة الخمينية.
ويبلغ تعداد الحرس الثوري نحو 125 ألف عنصر، بحسب تقارير لوسائل إعلام إيرانية ودولية، ويتلقى أوامره من المرشد الأعلى مباشرةً ولا يخضع لأية رقابة، ومع الوقت تحول من مجرد ذراع عسكري، إلى مجموعة من المؤسسات تسيطر على كبرى المناصب السياسية والإعلامية والاقتصادية.
وتذهب بعض التقارير إلى أن الحرس الثوري يسيطر على ثلث الاقتصاد الإيراني من الداخل عبر مئات الشركات التي تقُدر قيمتها بأكثر من 100 مليار دولار، والتي تستحوذ على مجال النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية، بالإضافة إلى المجال الأبرز في مشاريع البنية التحتية عبر شركة «خاتم الأنبياء» التي يبلغ تعداد العاملين بها نحو 160 ألف.
نفوذه تعدى حدود رؤساء وقادة الدولة، فعقب موت الخميني عام 1989، حاول الرئيس الإيراني وقتها على أكبر هاشمي رفسنجاني تحييد الدور السياسي للحرس الثوري، إلا أنه محاولته باءت بالفشل، كما أخفقت محاولة نائب الخميني المعزول المرجع حسين على منتظري وعراب الحركة الإصلاحية والذي كان يسعى إلى جعل رجال الدين خبراء وفقهاء يُستفتون ويُسألون، وألا يكون لهم دور تنفيذي مباشر في إدارة شؤون البلاد.
وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي، وإثر إغلاق الحكومة الإيرانية صحيفة «سلام» الإصلاحية، انطلقت احتجاجات من جامعة طهران، أدت إلى مواجهات مع قواته التي سحقت المتظاهرين في 6 أيام، وتكرر الصدام عام 2002 لكن هذه المرة بالرئيس محمد خاتمي الذي تم تهديده إذا استمر في مساعيه الإصلاحية.
وفي عام 2009 سحقت قواته المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوراع للاحتجاج على تزوير الانتخابات الرئاسية التي نجح فيها أحمدي نجاد بولاية ثانية على الإصلاحي مير حسين موسوي وعرفت تلك الاحتجاجات باسم «الثورة الخضراء».
وفي نهاية عام 2017 ومطلع عام 2018 شهدت مدن إيران تظاهرات واسعة ضد غلاء المعيشة، بعد رفع الحكومة أسعار المحروقات، وهو ما تكرر في 2019 وكالعادة أخمدت الاحتجاجات بنفس الطريقة.
وكعادة الأنظمة المستبدة التي ترى أن أي خروج عليها خيانة وأي دعوة إصلاحية تآمر، لم يسلم المشاركون في كل موجات الاحتجاج التي اندلعت في إيران من اتهامات العمالة والتبعية لأمريكا وإسرائيل، حتى أنها طالت ساسة ورجال دين من داخل النظام لكنهم ليسوا محسوبين على الحرس الثوري.
الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت قبل أكثر من شهرين بعد مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني والتي احتجزتها شرطة الأخلاق بدعوى عدم التزامها بارتداء الحجاب، وصفها المرشد الأعلى علي خامنئي بأنها «أعمال شغب»، ملقيا باللوم على المحرضين الغربيين.
رفع المتظاهرون في تلك الاحتجاجات شعار «المرأة، الحياة، الحرية» للتنديد بقوانين الجمهورية الإسلامية الصارمة بشأن الحجاب والحريات الفردية، وانتقلت روح التمرد من مدينة إلى آخرى حتى أنها وصلت مسقط رأس الخميني -مدينة خمين في محافظة مركزي-، وفيما بدا أنها رسالة رفض وتمرد على هيكل النظام الذي أسسه المرشد الأعلى الأول للثورة أقدم المتظاهرون على إشعال النار في منزل أجداد الخميني.
سبقت تلك الرسالة رسائل أخرى مثلت تحديا لإيديولوجيا النظام، منها استهداف طلاب الجامعات والمدارس الثانوية لرجال الدين في الشوارع وخطف عمائمهم وإلقائها على قارعة الطريق، وخلع النساء للحجاب في الأماكن العامة وحرقة وقص شعورهن، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
ورغم طول مدتها واتساع رقعتها وتنوع مطالبها، إلا أنه ليس من المتوقع أن تنال من بنية نظام ولاية الفقيه المتسلح بحراسه مسلحة تدافع عنه بشراسة ولديها استعداد للموت في سبيله، ليس فقط لأنها تصون العقيدة والمبادئ والأفكار بل لأنها لا تقبل أن يمس أحد مصالحها. لذا سحق هؤلاء الحراس 400 مواطن إيراني قضوا خلال الأسابيع الأخيرة، وأصيب الآلاف واعتقل عشرات الآلاف، ولا يزال الحبل على الجرار.
ولأن ملالي إيران كما قائدهم ومؤسس نظامهم لا يقبلون بالحلول الوسط، فليس من المتوقع أن يُسمع لأصوات المحتجين أو أن يراجع النظام سياساته وتوجهاته، والأقرب أن تهدأ الأحداث الأخيرة وتتراجع وتيرتها كما حصل في الاحتجاجات السابقة دون تنازلات كبيرة من النظام أو حتى محدودة فيما يتعلق بتقليص فرض اللباس والمظهر الخارجي، فالمدافع جاهزة لاستخدام مستوى أكبر من العنف لإخمادها.