رغم ترجيح العديد من المعلقين والمراقبين إلى أن المسار الكارثي الذي تتخذه روسيا في حربها جعل أيام الرئيس فلاديمير بوتين معدودة. مجادلين بأن القادة الذين عانوا من هزائم مروعة في ساحة المعركة من غير المرجح أن يستمروا لفترة طويلة في السلطة. يلفت جون مولر، أستاذ السياسة في جامعة أوهايو، والزميل أول في معهد كاتو. إلى أن قادة مثل بوتين يستطيعون تحمل الهزائم الكبرى.
يقول: كان هذا هو الحال مع الزعيم الباكستاني يحيى خان في أوائل السبعينيات، وزعيم المجلس العسكري الأرجنتيني ليوبولدو جاليتيري بعد عقد من الزمان، الذين أُجبروا على الاستقالة بعد مغامرات عسكرية مذلة. وبالتالي، يُقال إن غزو بوتين سيؤدي على الأرجح إلى سقوطه. لكن قد يكون هذا التقييم سابقًا لأوانه.
يجادل مولر، في مقاله المنشور في فورين أفيرز/ Foreign Affairs، بأنه “على الرغم من وجود أسباب للتشكيك في طول عمر بوتين في المنصب، فإن التاريخ يشير إلى أن احتمالات بقائه أفضل بكثير مما يُفترض عمومًا”.
يرى مولر أنه بغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها، من المرجح أن يحكم التاريخ على حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا على أنها كارثة. لكن “في الواقع، في العقود الأخيرة، حتى القادة الذين عانوا من انتكاسات عسكرية مذهلة، فشلوا في كثير من الأحيان في الإطاحة من السلطة، سواء عن طريق التمرد الشعبي، أو عن طريق انقلاب النخبة من الداخل”.
اقرأ أيضا: بوتين الطاغية الذي يستنسخ ستالين.. جنون العظمة وعبادة الشخصية
فلاد المخوزق
يقول مولر: تضمنت أهداف موسكو منع أوكرانيا من احتضان حلف شمال الأطلسي والغرب. وإنشاء نظام متوافق في كييف، منع القوميين الأوكرانيين -يسميهم بوتين “النازيين الجدد”- من الازدهار، الحد من كراهية روسيا في أوكرانيا، منع أوكرانيا من مواصلة التسلح، إعادة تشكيل الاتحاد السوفيتي -أو الإمبراطورية الروسية- بشكل ما تحت سيطرة الكرملين.
أيضا، يهدف بوتين- وفق مولر- إلى تقسيم الغرب زيادة مكانة روسيا ونفوذها في المنطقة وحول العالم، تدمير أو على الأقل تقويض الديمقراطية. وتعزيز استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا، مع جعل الأوكرانيين يتماهون أكثر مع روسيا والروسية. وإظهار براعة وجلالة الجيش الروسي.
لكن، بدلاً من ذلك، بعد أن أنفقت كميات هائلة من الدماء والأموال، ظهرت روسيا أضعف وأكثر عزلة، وأكثر كراهية من أي وقت مضى. في حين أن أوكرانيا، ظهرت مسلحة بأسلحة متطورة بشكل متزايد، ومدعومة بهوية وطنية معززة حديثًا، تقترب أكثر من الغرب.
وأضاف: إلى هذه الدرجة، أثبت مشروع بوتين بالفعل أنه فشل بنتائج عكسية إلى حد كبير، وقد يسجل التاريخ باسم “فلاديمير الأحمق”، أو لتحديث اللقب الخامس عشر سيئ السمعة، مثل “فلاد مخوزق الذات”، في تنويع متهكم على الأمير الروماني “فلاد المخوزق”، الذي اشتهر شعبيا باسم “دراكيولا”.
يوضح أستاذ السياسة أنه “في العديد من البلدان الاستبدادية، كان للخسائر الكارثية في كثير من الأحيان تأثير ضئيل على سيطرة الزعيم على المنصب”. ضاربا مثال بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
يقول: في وقت الهزيمة، لم يكن من غير المألوف سماع تنبؤات مثل تلك التي صدرت في صحيفة نيويورك تايمز من قبل ضابط بالخارجية الأمريكية ومتخصص في الشرق الأوسط. أكد أن صدام “قد هُزم وأُهين وسيموت قريبًا في أيدي شعبه ما لم تمنحه دولة غير مرجحة الملاذ”. كان ذلك في أعقاب الحرب العراقية مع إيران. لكن، على العكس من ذلك، سيبقى الطاغية العراقي في منصبه لمدة 12 عامًا أخرى، إلى أن أُطيح به بالقوة في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
وتابع: حدث شيء مشابه مع عمر البشير في السودان، الذي ظل في منصبه لمدة 14 عامًا بعد الفشل عام 2005 في حربه ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان، والتي أدت إلى استقلال جنوب السودان.
الديمقراطيات تنحني أبضا
مع هذا، ليست الدولة النامية أو التي تُعاني من الاستبداد وحدها التي عانت من بقاء الحاكم مهما بلغت هزائمه. حتى في الديمقراطيات، حيث من المتوقع أن يُعاقب القادة على سجلاتهم في صناديق الاقتراع، غالبًا ما أفلت السياسيون من الهزائم العسكرية المحرجة.
يضيف مولر: خذ الولايات المتحدة على سبيل المثال. في عام 1982، أرسل رونالد ريجان قوات للمساعدة في السيطرة على الحرب الأهلية في لبنان، معلنا بشكل كبير أنه “في عصر التحدي النووي والاعتماد الاقتصادي المتبادل، تشكل مثل هذه الصراعات تهديدًا لجميع شعوب العالم، وليس فقط للشرق الأوسط نفسه”.
لكن في العام التالي، بعد قصف إرهابي لثكنات مشاة البحرية الأمريكية هناك، وقتل 241 من أفراد الخدمة الأمريكية، سحب ريغان القوات الأمريكية. ومع هذا، في عام 1984، أعاد الناخبون انتخابه بأغلبية ساحقة، بعد حملة نادراً ما تم ذكر الكارثة فيها.
أيضا، حدث شيء مماثل للرئيس بيل كلينتون بعد عقد من الزمان، بعد أن عانت القوات الأمريكية من نكسة مدمرة في الصومال قتل فيها عشرات الجنود الأمريكيين في تبادل لإطلاق النار. لم يكن للانسحاب اللاحق تأثير ملحوظ على حظوظ كلينتون السياسية.
بل، كانت فيتنام أكبر كارثة، حيث مات فيها عشرات الآلاف من الأمريكيين، وأدت في عام 1975 إلى انتصار حاسم للشيوعية الدولية -العدو الرئيس للولايات المتحدة لعقود- ومع ذلك، في الحملة الانتخابية الرئاسية في العام التالي، لم تحدث الهزيمة إلا عندما ذكرها جيرالد فورد كنقطة لصالحه. عندما تولى منصبه، قال، كانت البلاد “لا تزال منخرطة بعمق في مشاكل فيتنام. لكنها الآن في سلام”.
في النهاية، خسر فورد الانتخابات، لكن النتيجة كانت تحددها إلى حد كبير قضايا أخرى. مثل التضخم، ووترجيت، وعفو الرئيس عن ريتشارد نيكسون.
يقول مولر: لم يجد الديمقراطيون المعارضون ذلك في صالحهم. ولم يكن لنتيجة الانتخابات علاقة تذكر، أو لا علاقة لها بحقيقة أن أعظم كارثة في السياسة الخارجية في التاريخ الأمريكي، قد حدثت على مرأى من الرئيس الحالي.
اقرأ أيضا: مناورات بوتين وأردوغان في دول الغبار البشري
الدب النازف
لفهم كيف يمكن أن تؤثر هذه الأمثلة على الحرب الروسية في أوكرانيا، يوضح مولر أنه “لا يحتاج المرء إلى النظر إلى أبعد من تاريخ روسيا. بالعودة إلى بداية القرن العشرين. يمكن ملاحظة أن القيصر نيكولاس الثاني نجا من كارثة مروعة في حرب روسيا مع اليابان في 1904-1905. ولم يكن الدكتاتور جوزيف ستالين أسوأ حالًا في حربه الكارثية ضد فنلندا في 1939-“1940.
لكن فيما يتعلق ببوتين، يبدو أن حلقتين أخريين لهما صلة خاصة. أولهما الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979. وقد شُنت الحرب ظاهريًا للحفاظ على عقيدة بريجنيف، وهي مبدأ مركزي للأيديولوجية السوفيتية: فبمجرد أن يصبح بلد ما شيوعيًا، لا يمكن السماح له بالعودة.
في ذلك الوقت، كان ميخائيل جورباتشوف عضوًا صغيرًا في الحزب الشيوعي الذي وافق على الغزو، ولكن فيما بعد -كقائد- اعتبر الحرب “جرحًا نازفًا”، وفي عام 1988 أمر بالانسحاب الأفغاني.
على الرغم من أن الحرب ربما تكون قد ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي. إلا أن قرار الانسحاب وقبول الهزيمة كان مقبولًا على نطاق واسع ولعب دورًا ضئيلًا أو معدومًا في خسارة غورباتشوف لمنصبه بعد ثلاث سنوات.
أمّا الحرب الشيشانية بين عامي 1994-1996، فقد تكون هي أكثر أوجه التشابه ذات الصلة مع مغامرة بوتين في أوكرانيا. حيث كانت موسكو قلقة بشأن وجود حركة انفصالية في الشيشان قد تنسخها كيانات أخرى في الاتحاد الروسي. أرسل الرئيس الروسي بوريس يلتسين قواته بتأكيدات من جيشه بأنه يمكن أن يستعيد بسرعة السيطرة على المنطقة.
لكن، بدلاً من ذلك، تكبدت القوات الروسية آلاف الضحايا، وأدى أداؤها أيضًا ضد مقاومة حازمة كما فعلت في عام 2022 في أوكرانيا. ليتوصل يلتسين -بشكل يائس- إلى اتفاق للانسحاب تكون الشيشان بموجبه قادرة في النهاية على الانفصال رسميًا.
نحو الكارثة
يشير مولر إلى أن الغرب يمكنه أن يدفع بوتين إلى تخيلاته التي تبرر الكارثة “تشير التجربة إلى وجود احتمال جدي بأن يظل بوتين في منصبه خلال أي فترة تسوية بشأن الحرب في أوكرانيا، وأنه سيظل هناك بعد ذلك. كما يشير إلى أن بوتين سيكون قادرًا على قمع أي إغراء لتصعيد الحرب بشكل كارثي”.
ويؤكد أنه بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها، فإن هذا يحمل آثارًا “ليس من الواضح على الإطلاق أن بوتين يحتاج إلى تنازلات لحفظ ماء الوجه للتراجع عن كارثته والانسحاب من أوكرانيا. قال إن هجومه كان يهدف إلى منع الناتو من إقامة وجود عسكري في أوكرانيا يمكن من خلاله مهاجمة روسيا في النهاية. هذا هو الوهم بالطبع، ولكن يمكن تشكيله في ادعاء النصر، الذي قد يتبناه بسهولة من قبل الروس المنهكين من الحرب”.
أيضا “إذا كان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى انسحاب روسي، فقد يسعى الناتو إلى دفع بوتين إلى الأمام في هذا الخيال الذي يبرر الكارثة، من خلال الانخراط في العديد من الإيماءات المجانية. يمكن أن يشمل ذلك إصدار تعهد رسمي بعدم الغزو، وإعلان وقف عضوية الناتو لأوكرانيا ربما لمدة 25 عامًا – بسبب الفساد المتفشي والعيوب- والسعي إلى تسوية واسعة في المنطقة لإنشاء أوكرانيا آمنة ولكنها محايدة رسميًا، وفقًا للآلية المستخدمة في الخمسينيات من القرن الماضي في النمسا.
ولكن، إذا استمر الغرب بدلاً من ذلك في بناء حساباته على توقع أن سلطة بوتين معرضة للخطر، وأنه قد يحتاج إلى تقديم تسوية كبيرة للكرملين اليائس والخائف من الهزيمة، لتجنب التصعيد الجذري من قبل الزعيم الروسي. فقد يقوض في النهاية الهدف ذاته الذي تسعى إليه، وهو إنهاء الحرب بسرعة وبطريقة ناجحة.