عصفت المستويات القياسية للتضخم عالميًا بالأجور الحقيقية للعمال والموظفين حول العالم، لتزيد متاعب الطبقات الوسطي والأقل في السلم الاجتماعي، وتهدد العالم باضطرابات اجتماعية في أنحاء عدة. مع تزايد معدلات الفقر المدقع عالميًا بنحو 9.3% عام 2020 مقابل 8.4% عام 2019، بزيادة قدرها 70 مليون نسمة في عام واحد فقط.
لا يمثل ارتفاع معدلات الفقر وانخفاض الدخول ظاهرة مؤقتة. فالبنك الدولي يرجح وصول عدد الفقراء المدقعين إلى 7% من سكان العالم، أي 574 مليون نسمة في 2030. وهو يزيد كثيرًا عن الرقم العالمي المستهدف السابق، المقدر بنحو 3% خلال العام ذاته.
والزيادة في الفقر العالمي لا تقتصر على النوع “المدقع” الذي يُقاس على ” 3.6 دولارات للفرد” يوميًا. فالشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل المحسوبة ضمن السكان المدقعين، ارتفعت من 23.5% في 2019 إلى 24.8 % في 2020.
أما خط الفقر المُحسوب بـ” 6.8 دولارات” للفرد يوميًا، والذي يخص الشريحة الأعلى من الفقراء بالبلدان متوسطة الدخل، فزاد بنحو 1.2 نقطة مئوية عام 2020. ما يعني زيادة عدد الفقراء بهذه البلدان بمقدار 134 مليونًا.
انخفاض أجور وفقر
وسط تلك المؤشرات، أكد تقرير منظمة العمل الدولية انخفاض قياسي للأجور الحقيقية عالميًا، ما يتطلب سياسات تمنع تعميق المستويات الحالية للفقر وتقلل من عدم المساواة والاضطرابات الاجتماعية، المتزامنة مع انخفاض القوة الشرائية للطبقات المتوسطة، والتي تسبب التضرر الشديد للأسر ذات الدخل المنخفض.
الأجر الحقيقي هو مقدار السلع والخدمات التي يمكن شرائها من أجر العامل لإشباع حاجاته. ما يعني القوة الشرائية التي يحصل عليها العامل بالراتب الذي يحصل عليه. وقد تراجعت تلك القوى مع تسجيل التضخم عالميًا مستوى قياسي بنسبة 12.1% في أكتوبر/ تشرين الأول وفق تقديرات وكالة “موديز“.
في تقرير الأجور العالمي 2022-2023، قالت المنظمة إن الأجور الشهرية العالمية انخفضت بالقيمة الحقيقية إلى 0.9% في النصف الأول من عام 2022. وهي أول مرة خلال القرن الحالي يكون فيها نمو الأجور العالمي سلبيًا.
لم تعرف تداعيات التضخم العالمي حدودًا بين الدول الفقيرة والغنية. ففي مجموعة العشرين “المتُقدمة” (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وكندا وكوريا الجنوبية)، تشير التقديرات إلى أن الأجور الحقيقية انخفضت إلى -2.2%.
وفي بلدان مجموعة العشرين الناشئة (تركيا والصين واليابان والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك)، ارتفعت الأجور بنسبة 0.8%، أي أقل بنسبة 2.6% مما كانت عليه عام 2019 (العام الذي سبق تفشي جائحة كورونا).
التضخم يعصف بالأجور
يُظهر التقرير ارتفاع التضخم بشكل أسرع نسبيًا في البلدان ذات الدخل المرتفع منه في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. ففي أمريكا الشمالية (كندا والولايات المتحدة) انخفض متوسط نمو الأجور الحقيقية إلى الصفر عام 2021 وانخفض إلى -3.2% في النصف الأول من عام 2022.
أما في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، فانخفض نمو الأجور الحقيقية إلى -1.4% عام 2021 و-1.7% في النصف الأول من عام 2022.
وفي الاتحاد الأوروبي، حيث تحمي خطط الاحتفاظ بالوظائف وإعانات الأجور إلى حد كبير مستويات التوظيف والأجور، ارتفع نمو الأجور الحقيقي إلى 1.3% عام 2021 وانخفض إلى -2.4% في النصف الأول من عام 2022، وفي أوروبا الشرقية تباطأ نمو الأجور الحقيقية إلى 4.0% عام 2020 و3.3% في 2022.
اقرأ أيضًا: مؤسسات دولية: 2023 الأسوأ.. التضخم يتعاظم والفقر يتفاقم والأجور تنخفض
بالنسبة لآسيا والمحيط الهادئ، فارتفع نمو الأجور الحقيقية إلى 3.5% عام 2021 وتباطأ في النصف الأول من عام 2022 إلى 1.3% عندما يتم استبعاد الصين من الحسابات -بالنظر إلى الوزن الكبير الذي تتمتع به الدولة في المنطقة- زاد نمو الأجور الحقيقي بنسبة أقل بكثير. حيث بلغ 0.3% عام 2021 و 0.7% في النصف الأول من عام 2022.
وفي آسيا الوسطى، زاد نمو الأجور الحقيقية بقوة بنسبة 12.4% في عام 2021، لكنه تباطأ إلى 2.5% خلال النصف الأول من 2022.
أما في إفريقيا، فتشير الدلائل إلى حدوث انخفاض في نمو الأجور الحقيقية إلى -1.4% عام 2021 وتراجع إلى -0.5% في النصف الأول من عام 2022.
أزمات متتالية
الخبير الاقتصادي، محمد كمال، يقول إن التضخم العالمي نابع من سلسلة أزمات متتالية بداية من أزمة كورونا وتوقف المصانع العالمية حينها. ثم حدوث أزمة الشحن مع بدء التعافي الاقتصادي، والعوة مجددًا لأزمة الإغلاقات المتتالية في الصين ضمن سياسة “صفر كورونا”، وأخيرًا الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار الحبوب والمنتجات الأساسية.
ويراهن فريق من الباحثين على بداية انخفاض وتيرة التضخم عالميا، ما يبشر ببداية استقرار الاقتصاد العالمي وتحسن الرواتب الحقيقية. لكن محمد العريان، الخبير الاقتصادي الدولي، يرى أن هشاشة النظام المالي تعقد عمل البنوك المركزية. فعوضًا عن مواجهة المعضلة العادية، المتمثلة بكيفية خفض التضخم من دون الإضرار بالنمو الاقتصادي والتوظيف، يواجه الاحتياطي الفيدرالي معضلة ثلاثية: طريقة خفض التضخم، وحماية النمو والوظائف، وضمان الاستقرار المالي.
ولا توجد وسيلة سهلة للقيام بالأمور الثلاثة معًا، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم، وفق “العريان”. الذي يتفق مع “كمال”، فيقول إن العالم يمر بظروف استثنائية غير معتادة منذ 3 أعوام. وهو أمر انعكس على الدخول والاستثمار. وإن كانت بعض الحكومات ومنها مصر حاولت امتصاص أثر الصدمة بتحمل الجزء الأكبر من رفع الأسعار، ومنح زيادات في الرواتب، وطرح سلع مدعمة بالمنافذ من أجل تقليل التأثير على الطبقات الأضعف اجتماعيًا.
السلام الاجتماعي مهدد
المدير العام لمنظمة العمل الدولية، جيلبرت هونجبو، يقول إن وضع عشرات الملايين من العمال عالميًا صعب. لأنهم يواجهون مخاوف متزايدة من ارتفاع التفاوت في الدخل والفقر. ذلك حال عدم اتخاذ قرارات للحفاظ على القوة الشرائية لأدنى الأجور.
ويُحذر المدير العام للمنظمة من أن التعافي المطلوب بشدة بعد جائحة كورونا، يمكن أن يتعرض للخطر. ما قد يؤجج المزيد من الاضطرابات الاجتماعية بجميع أنحاء العالم، ويقوض هدف تحقيق الرخاء والسلام للجميع.
ولارتفاع التضخم تأثير أكبر على تكلفة المعيشة بالنسبة لذوي الدخل المنخفض. لأنهم ينفقون معظم دخلهم المتاح على السلع والخدمات الأساسية، والتي تشهد عمومًا زيادات في الأسعار أكبر من السلع التكميلية.
و”يقضم” التضخم ـبحسب منظمة العمل الدوليةـ القوة الشرائية للحد الأدنى للأجور في العديد من البلدان التي تتوفر عنها بيانات. ما يتطلب تدابير سياسية جيدة التصميم للمساعدة في الحفاظ على القوة الشرائية ومستويات المعيشة للعاملين بأجر وأسرهم.
الأجور بحاجة لتعديلات
يمكن أن يكون التعديل المناسب لمعدلات الحد الأدنى للأجور أداة فعالة، بالنظر إلى أن 90% من الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية لديها أنظمة الحد الأدنى للأجور، إلى جانب الحوار الاجتماعي الثلاثي القوي (العمال والحكومة ونقاباتهم)، والمفاوضة الجماعية أيضًا الرامية لتحقيق تعديلات مناسبة للرواتب.
تقول روزاليا فاسكيز ألفاريز، إحدى معدي تقرير منظمة العمل الدولية، إن مكافحة تدهور الأجور الحقيقية له منافع اقتصادية وليس أعباء اقتصادية. إذ يحافظ على النمو الاقتصادي، والذي بدوره يمكن أن يساعد في استعادة مستويات التوظيف التي كانت سائدة قبل جائحة كورونا.
تشمل السياسات الأخرى التي يمكن أن تخفف من تأثير أزمة تكلفة المعيشة على الأسر، تدابير تستهدف مجموعات منتقاة، مثل منح “كوبونات” للأسر ذات الدخل المنخفض لمساعدتها على شراء السلع الأساسية، أو خفض ضريبة القيمة المضافة على هذه السلع لتقليل يضع التضخم عبئًا على الأسر، بينما يساعد أيضًا في خفض المستوى العام للأسعار.
ويطالب باحثو منظمة العمل الدولية بمنح اهتمام خاص للعمال في المنطقة الوسطى والدنيا من جداول الأجور. وهو أمر ينعكس على النمو الاقتصادي عبر تقليل احتمالية أو عمق حالات الركود في جميع البلدان والمناطق.