يبدو مؤلما وموجعا في بعض الأحيان الانتباه لحقيقة تراجع سقف الطموحات والأحلام إلى حدوده الدنيا، في ظل الأوضاع الراهنة، سواء على المستوى المحلى أو المستويين الإقليمي والدولي، فالجيل الذى تفتح وعيه واشتبك مع العمل العام والسياسي في بدايات القرن الحالي مع الانتفاضة الفلسطينية فانحاز إلى قضية تحرير فلسطين، وصولا إلى دوره الفاعل والجوهري الرئيسي والمبادر والفاعل في ثورة يناير وما بعدها فبلغت أحلامه عنان السماء، هو نفسه الجيل الذى بعد اختبارات صعبة وتجارب مريرة وسنوات شهدت تقلبات حادة وتغيرات كبيرة، أصبح الآن في كثير من الأحوال يبحث عن الأمان وينادى بالحرية لفلان ممن دفعوا أثمانا من حريتهم في السجون.

من حرية فلسطين إلى حرية سجناء الرأي فارق شاسع، رغم أن كلاهما قضية تستحق الانحياز لها والدفاع عنها، ومن تصور أن مصر على وشك دخول عهد جديد في مسارها ومسيرتها ببناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة بعد ثورة يناير مباشرة لأن يصبح الطموح في الوقت الراهن فتح المجال العام ورفع القيود عن الأحزاب والصحافة والإعلام وتعديلات في قوانين الانتخابات والحبس الاحتياطي وغيرها، هذه مؤشرات على ما وصل إليه الوضع على مدار السنوات الماضية.

وإن كان التعامل مع الواقع وإدراكه وفهم موازين القوى فيه أمرا بالغ الأهمية سياسيا، وإذا كانت الاستفادة من الأخطاء والتجارب السابقة تعني في جانب منها استيعاب أهمية الحاجة لتغيير الآليات والأدوات التي سبق استخدامها بما يواكب اللحظة، وإذا كان واضحا أن غالبية المعارك الكبرى سواء فيما يتعلق بفلسطين أو بالحريات أو بغيرها لا يمكن أن يتصور أحد أنه يمكن كسبها بضربات قاضية أو بمعارك صفرية، إلا أن هذا كله لا ينفي ضرورة التمسك بالأحلام الكبرى حتى وإن لم تكن مواتية للحظة الراهنة والسياق الحالي، لأنها في ذاتها هي الدفاع والحافز لكل من يرغب ويسعى لاستمرار ومواصلة مسارات السعي لوطن أكثر ديمقراطية وعدالة وأمة أكثر قدرة على النهوض والتقدم ومواجهة أعدائها وعالم أكثر إنسانية.

يبدو لافتا هنا مثلا، ومثيرا للأمل والبهجة، رغم كل ما قيل وكل ما جرى في السنوات والعقود الماضية في محاولات تشويه القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني الذي بلغ مرحلة الهرولة في السنوات السابقة، مشاهد الرفض من المواطنين العرب على هامش فاعليات كأس العالم للحديث مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، وبعض المشاهد المصورة سواء للرفض الحاد والقاطع والحاسم للتعامل مع الصهاينة، أو لرفع أعلام فلسطين والهتاف لها، أو ما شابه من مشاهد، تشير لأن فلسطين بعد كل ما جرى لا تزال القضية التي توحد موقف ومشاعر ووجدان أغلبية الشعب العربي بغض النظر عن مواقف الأنظمة.

ويبدو لافتا أيضا التضامن الواسع والنداءات المتكررة بضرورة الإفراج عن سجناء الرأي، وبالذات مؤخرا فيما يخص علاء عبد الفتاح بعد إعلانه الدخول في إضراب عن الطعام وشرب المياه قبل أن ينهى هذا الإضراب، ثم أحمد دومة بمناسبة مرور 9 سنوات كاملة متصلة على سجنه، وبغض النظر عن الآراء المتفاوتة والتقديرات المختلفة إلا أن اللافت أيضا هو حجم التضامن الواسع بما في ذلك من أجيال أصغر ربما لم تعرفهما ولم تشهد حضورهما في ثورة يناير وما بعدها.

المقصود هنا، أن هذه المشاهد الدالة والموحية، بأن القضايا الكبرى والرئيسية لا تموت ولا يتغير الاتجاه العام بشأنها مهما بدا على السطح من انكسارات أو تراجع أو ضعف أو تهميش، وأن الحقوق تظل تجد من ينحاز لها ويدافع عنها.

إذا كان ما يمكن تسميته جيل يناير قد ناله من الإحباط والهزائم الكثير على مدار السنوات السابقة، إلا أنه لا يزال حاضرا في الوعى العام وفى الأدوار الفاعلة، ورغم تراجع دوره وتأثيره بل وحماسه في كثير من الأحوال، إلا أنه لا يزال رقما في المعادلة، لكن الأهم أنه يبدو تحت السطح أن هناك كثيرين من الأجيال الجديدة ينحازون لنفس القيم والأفكار والحقوق حتى وإن لم تكن هناك صلة مباشرة لهم بالأطر السياسية القائمة، كما يبدو أن قضية الوعي العام لدى الأجيال الجديدة لا تزال حاضرة وبقوة فيما يتعلق بالحقوق والحريات وحتى البعد القومي ولو ممثلا في القضية الفلسطينية، ومن هنا فإنه رغم الإحباطات، ورغم تراجع أسقف الطموحات، إلا أن هناك ضرورة وواجب لخلق مساحات تواصل وأطر للعمل ما بين جيل يناير والأجيال اللاحقة، حتى وإن لم تكن رهانات حالة وحاضرة، وإنما تأسيسا لما قد يحتاجه الوطن وقضاياه في المستقبل.

قد تكون خطوة على هذا الطريق الطويل الذي يحتاج جهدا وتفكيرا جماعيا، هو أن يبادر هذا الجيل لطرح رؤيته وتصوراته عن اللحظة الراهنة وعن القضايا الأساسية المطروحة فيها، وربما تكون الدعوة لحوار وطني بغض النظر عن تفاوت التقديرات بشأنه والرهانات عليه والحماس له فرصة لطرح تلك الرؤية والتصورات، وأن يقدم هذا الجيل للمجتمع صورة تشير لأنه قادر على أن يقدم أفكارا وحلولا لا أن يكون ناقدا ومحتجا فحسب حسب الانطباعات التقليدية والصورة الذهنية التي تشكلت عنه بسبب طبيعة وشكل المرحلة السياسية التي تصدر فيها هذا الجيل الأحداث، وربما تكون خطوة تالية ولاحقة أن يفكر هذا الجيل في بلورة وتأطير أشكال منظمة تخلق مساحات من التفاعل والتواصل مع الأجيال الجديدة ومع قطاعات مجتمعية مختلفة، بالذات إذا أسفر الحوار الوطني عن نتائج معقولة أدت لتعديلات تشريعية مصحوبة بممارسات سياسية وانفتاح ولو نسبي في مساحات العمل العام، والحديث هنا ليس بالضرورة عن الأشكال التقليدية –وإن كان ليس ضدها بالضرورة– من أحزاب وجمعيات ومنظمات وما شابه، وهو أمر كما أشرت سابقا يحتاج جهدا وتفكيرا جماعيا.

هذا بعض من كثير مما أتصور أن اللحظة الراهنة بكل تشابكاتها وتعقيداتها، بكل فرصها ومخاطرها، وبكل التفاوت في تقديراتها وتفاعلاتها، تحتاج لأن يشتبك جيلنا معها، ومرة أخرى لا رهانا على اللحظة الراهنة رغم ما قد يبدو فيها من فرص وإن كانت محدودة مقارنة بحجم الأحلام والطموحات، وإنما على الأقل حفاظا على ألا تنكسر تلك الأحلام والطموحات تماما في ظل تراجعها الكبير، وأملا في لحظات أخرى مقبلة ولو بالتراكم ولو بالمكاسب الجزئية ولو بالتقدم خطوة خطوة، لعلنا نكتشف أنه لا تزال الأحلام الكبرى ممكنة ولو بعد حين.