تتجه السودان نحو استئناف العملية السياسية التي تجمدت لأكثر من عام بعد فض الشراكة بين المكونين المدني والعسكري في أكتوبر 2021. خلال هذا العام جرت مياه كثيرة في النهر، تغيرت تحالفات سياسية، وانقلب تموضع المكون العسكري أكثر من مرة، وتدخلت قوى دولية وإقليمية بمشروعات للتوافق السياسي.
العنوان الجديد لهذه العملية السياسية هو اتفاق إطاري من المفترض أن يتحول إلى نهائي خلال أسابيع، بعد الاتفاق على خمس أبواب رئيسية هي تحديات معقدة تحتاج إلى توافق المكون المدني المنقسم حاليا بين ثلاث أطراف.
في هذا السياق تكون أهم التساؤلات المطروحة حاليًا هي: هل يمكن إنجاز حالة توافق مدني يسفر عن توقيع الاتفاق أولا، وتحقيق وزن مطلوب للمكون المدني ثانيا خلال بقية الفترة الانتقالية بما يحقق تحجيم هامش المناورة أمام المكون العسكري، وينتج التزاما من هذا المكون ببنود الاتفاق وحذافيره .
وقد يكون من المهم التساؤل أيضا عن إمكانية أن تدعم أو لا تدعم دول الجوار المباشر. لاسيما مصر هذا الاتفاق وذلك بعد مجهودها في بلورة الكتلة الديمقراطية المناهضة للاتفاق الإطاري حتى الآن، وكذلك ترؤس جعفر الميرغني لها في خطوة كانت ومازالت محل استهجان قدر لابأس به من القوي السياسية السودانية .
١. ملامح الاتفاق الإطاري
حدد الاتفاق ملامح مرحلة الانتقال في عشر نقاط أهمها إصلاح أمني وعسكري يبلور جيش قومي واحد، وقد تكون أكثر النقاط حساسية في هذا البند حظر قيام الجيش بالأعمال الاستثمارية والتجارية فيما عدا التصنيع الحربي والمهمات العسكرية شرط أن يكون ذلك تحت ولاية وزارة المالية. وكذلك تصفية الوجود السياسي في جهازي الشرطة والجيش لأي من الفصائل السياسية وهو ما يعني تصفية الإسلامويين من مفاصل الأجهزة الأمنية والسيادية، حيث تم تفصيل هذا الهدف في بند خاص من البنود العشرة تحت عنوان نصفية نظام ٣٠ يونيو أي نظام البشير، ومراجعة قرار إنهاء أعمال لجنة إزالة التمكين الذي خلال العام المنصرم .
من البنود الحساسة أيضا في النقاط العشر بالاتفاق الإطاري هي مسألة العدالة الانتقالية، حيث يتحدث النص عن الالتزام بكشف الجرائم ومحاسبة مرتكبيها وإنصاف الضحايا وعدم الإفلات من العقاب. وبطبيعة الحال يبدو هذا النص بهذه الكيفية يحتاج الي التفاوض عليه إجرائيا، وذلك في ضوء ارتباط العدالة الانتقالية بمسألة طبيعة المحاسبة والعقاب المترتبان على الانتهاكات التي تمت منذ اندلاع ثورة ديسمبر وحتى اللحظة الراهنة وهو باب مشرع تسوية حقوق الشهداء ومحاولة القفز على المزايدات السياسية من جانب القوي المناوئة للاتفاق التي تستخدم هذا الملف ضد العملية السياسية برمتها.
وأخيرا فإن فكرة التوازن الإقليمي من أهم النقاط التي تؤرق القوي المدنية خصوصا، وهي مسألة تحتاج إلى احترافية سياسية في توقيت صعب محليا وعالميا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وإعادة تشكل النظام الدولي، وربما هذا ما يجعل التوافق السوداني الداخلي في هذه المرحلة موضوعا إقليميا ودوليا بامتياز.
الاتفاق تقف ضده حاليا ثلاث قوي، أهمها الإسلامويون المؤطرون تحت مظلة مبادرة نداء أهل السودان والتي التي تضم تيارات إسلامية وقوى سياسية حليفة لحزب المؤتمر الوطني “المحلول” مهددة بالنفي خارج المعادلة السياسية المستقبلية وتفكيك مصالحها الاقتصادية، وهي تقاوم ذلك باحتجاجات أسبوعية بالشارع صعدت بنقلها مؤخرا لمقر القيادة العامة للجيش السوداني، كما تصعد قوي نداء السودان بتظاهرات ضد البعثة الأممية لدعم الانتقال الديمقراطي يونيتامس وتطالب بطرد رئيس البعثة من السودان احتجاجا على اتجاه الجيش لإبرام الاتفاق السياسي مع قوي الحرية والتغيير المركزي.
الكتلة الديموقراطية هي ثاني الرافضين للاتفاق الإطاري، وهو ائتلاف تشكل حديثا من قوى التوافق الوطني التي تضم كل من مني أركو منياوي حاكم إقليم دارفور وجبريل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة بدارفور أيضا وقد شكل الاثنان حاضنة سياسية لما جرى في أكتوبر ٢٠٢١ ولكن سرعان ما انضم اليه الحزب الاتحادي الأصل عبر ممثله جعفر الميرغني. بل وترأس هذه الكتلة التي انضم لها أيضا ناظر نظارات البجا، في خطوة تحوز كثير من الجدل في شرق السودان قسمت مجلس النظارات، كما تلقي بأثقال سياسية على القاهرة التي ساهمت في رجوع مولانا محمد عثمان الميرغني راعي الطائفة الختمية الي السودان، كما سهلت لقاءات سابقة له بكل من الفريق عبد الفتاح البرهان، ورعت اتفاقا بين الحزب الاتحادي ومني أركو مناوي حاكم دارفور قبل أكثر من عام .
القوى الثالثة الرافضة للاتفاق هي قوى التحالف الجذري أي الحزب الشيوعي وبعض لجان المقاومة وقد بلورت موقفها عشية التوقيع على الاتفاق الإطاري بأنه لا تفاوض مع العسكر ولا مساومة حول جرائمهم ولا شرعية لهم ولا لمن يشاركهم، كما أوضح البيان إن تسمية الاتفاق بالإطاري أو النهائي لا تغير من طبيعته “فهو في كل الأحوال شرعنة لسلطة انقلاب، وهو منحةٌ ممن لا يملك لمن لا يستحق فالشرعية هي حَقٌّ للشارع الثائر يمنحها من يشاء”، بحسب تعبيره، ولم يوضح البيان آليات محددة لتحقيق أهدافه وإن قد أشار لوحدة القوي الثورية كسبيل لتحقيق هدف إزاحة المكون العسكري بالكامل !!
هل من فرص في الأفق؟
على الرغم من حالة انقسام القوى المدنية عشية الاتفاق، فإن ذلك لا يعني أنه انقسام لا يمكن تجاوزه ذلك أن بعضا من هذا الانقسام هو تضاغط طبيعي بين الأطراف السياسية حيث يريد كل طرف أن يكون وزنه السياسي مستقبلا مساويا لطموحاته أو مصالحه التي قد يغيب عنها أحيانا المصلحة الوطنية السودانية.
في هذا السياق، فإن إدارة قوي الحرية والتغيير (المركزي) الموقعة علي الاتفاق الإطاري لتفاعلات ما بعد التوقيع المبدئي المنتظرة خلال الساعات القادمة سوف تكون أساسية في ترميم بعض صدوعات المكون المدني وليس كلها، كما أنه باستطاعتها توظيف موقف التحالف الجذري لصالحها دون أن تتفق معه، أو دون أن يوقع هذا التحالف بالضرورة على الاتفاق، حيث أن سخونة الشارع الاحتجاجي مطلوبة للاتفاق وذلك لضمان عدم الخروج عليه أو المرواغة في تنفيذه .
تحقيق مجمل هذه الأهداف سوف يكون مرهونا بمدي نضج ومرونة وكفاءة الحرية والتغيير(المركزي) في تقريب وجهات النظر بين الأطراف، وعدم الاستقواء على الأطراف المعادية حاليا للاتفاق بالمكون العسكري ولا بأي اتفاقات معهم، فقيمة وحدة المدنيين هي كبيرة وأساسية لمصالحهم الجماعية إن هم أدركوا ذلك وتخلي البعض منهم عن فكرة تصفية الحسابات مع من شكلوا حواضن سياسية لـ 25 أكتوبر وتخلي الأخيرين أي من مارس التحالف مع المكون العسكري عن العنترية المؤسسة في تقديري علي قوي إقليمية أكثر منها مراكز قوة على الأرض .
في الأخير يبدو أن موقف القاهرة يحوز الكثير من الجدل الي حد إقدام وزارة الخارجية المصرية عشية توقيع الاتفاق الإطاري على إصدار بيان أكدت فيه على أن مصر على مسافة واحدة من كافة الأطراف السودانية، وذلك في أعقاب لقاء تم بين السفير المصري حسام عيسى مساعد وزير خارجية مصر، مع المبعوث البريطاني للسودان وجنوب السودان روبرت فيرويزر، ونظيره النرويجي جون أنطون جونسون، وسفير بريطانيا في الخرطوم جايلز ليفر.
ويبدو لي أن هذا اللقاء قد يكون هدفه أن يتم تقريب وجهات النظر بين الكتلة الديمقراطية وتحالف الحرية والتغيير لتتحلي الأولي يقدر من مرونة مطلوبة في هذه المرحلة، بينما قد يكون الهدف المصري الاستراتيجي طبقا لتحليلي مرتبط بعاملين الأول الحسابات الانتخابية لما بعد فترة الانتقال، والثاني لتحقيق تقارب مع النخب غير العربية وضمان وجود فريق سوداني متنوع إثنيا قريب من القاهرة .
وأي ما كانت حسابات القاهرة التكتيكية أو الاستراتيجية فإن دعم القاهرة لكل القوي المدنية يكون مطلوبا والتقارب مع الحرية والتغيير المركزي يكون لازما، في ضوء طبيعة المعادلة السودانية المختلفة جذريا عن مفردات المعادلة المصرية التي غالبا ما تؤثر على ذهنية من يصنعون السياسات الرسمية المصرية في السودان.