تحمل القيادة الحالية للكنيسة القبطية أجندة إصلاح متعددة الأوجه، على مستوى ترتيب البيت من الداخل تعليميا، رهبانيا، طقسيا، إداريا، وعلى مستوى الخارج من فتح الحوارات بقوة مع الكنائس الغربية ومحاولات التقريب المستمرة. وهو الأمر الذي يواجه بانتقادات وتكتلات من التيار القديم، الذي سيطر على أروقة المقر البابوي بالعباسية لما يقارب الثلاثة عقود.
ومع نهاية كل عام، ينعقد الاجتماع السنوي للمجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ليتشاور البطريرك والآباء المطارنة الأساقفة (رتب كنسية) في مستقبل كنيسة مارمرقس العتيدة. غير أن موعد الاجتماعات تلك مؤخرا صار عنوانًا للشقاق في كنيسة ما بعد البابا شنودة الثالث (توفي في 2012) التي تموج بالتحولات ويشوبها الاستقطاب ما بين البابا تواضروس وأجندته الإصلاحية وما بين تركة الصقور من الحرس القديم الذين شكلوا لفترة المحاكمات الكنسية لكل المختلفين مع الرؤية التقليدية لهم.
غير راديكالية
قبل عشر سنوات من الآن، صعد البابا تواضروس الثاني إلى سدة الكرسي المرقسي. جاء من الصفوف الخلفية لمقدمة المشهد. فالبطريرك كان أسقفًا مساعدًا في البحيرة، لا تاريخ جدالي ولا جماهير خلفه، ولا فضائيات قبطية تحاصره. رجل انشغل بتعليم النشء وبالإدارة الكنسية، بعيدًا عن دوائر الضوء والصراع، ليجد نفسه في مقدمة المشهد وسط أساقفة أداروا الكنيسة في سنوات مرض البابا شنودة، يسيطرون على مقاليد الأمور المالية والسياسية معا.
أراد البابا تشكيل فريقه الخاص، أساقفة في منتصف العمر أو في بداية الستينيات ربما أحدث سنا من الجيل الذي عاصر البابا شنودة، ليعاونوه على حمل تلك الأعباء الثقيلة التي ورثها غير أن القانون الكنسي لا يمنح البطريرك أدوات كافية تسمح له بإبعاد مثيري القلاقل فالأسقف ” كنسيا” متزوج من إيبراشيته “مقر إدارته وهي تشبه فكرة المحافظ في الترتيب الإداري للدولة” لا يبرحها إلا بوفاته.
أمام القانون الكنسي لم يجد البابا تواضروس مخرجًا إلا في تقسيم الإيبراشيات بالشكل الذي يسمح له بزيادة عدد الأساقفة الجدد في المجمع المقدس مع الاستفادة من الإيبراشيات التي بلا رئيس نتيجة وفاة قادتها لتتم رسامة أساقفة من اختيارات البابا الجديد. غير إن تلك الاختيارات لم تكن في صالحه بالشكل الذي أرداه فمنهم من انضم لصقور التيار التقليدي ومنهم من فضل الصمت.
اقرأ أيضًا: 9 سنوات فوق كرسي مارمرقس.. البابا تواضروس بين طموح التنوير وتركة الصقور
نجح البابا تواضروس ورجاله في استمالة بعض من الأساقفة القدامى لتنفيذ تلك الأجندة الإصلاحية. لاسيما أساقفة المهجر ممن اختبروا الحداثة الغربية ومن ثم فإن أفكارهم ربما أكثر مرونة من أساقفة الداخل، في وقت زاد فيه أعضاء المجمع المقدس إلى 150 مطرانا وأسقفا.
لا تتتسم الأجندة الإصلاحية للبابا تواضروس بالراديكالية، فلا تغييرات ثورية ولا خروجًا عن النص وإن كانت تستعير توجهات جزء من مدرسة الراحل الأب متى المسكين رئيس دير أنبا مقار السابق، في العلاقة مع الكنائس الأخرى إذ يؤمن البطريرك بعالمية الكنيسة القبطية وضرورة خروجها من أفق المحلية لتنضم للحركة المسكونية “وحدة الكنائس” العالمية وهي التوجهات التي كان الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة ( توفى أثناء حضوره العرض العسكري لإحياء ذكرى حرب 6 أكتوبر ١٩٨١) قد بدأها في الستينات من القرن الماضي مثلما تؤكد سناء حسن في كتابها الصادر عن جامعة أوكسفورد بالإنجليزية.
خاض التيار العلماني “العلمانيون بالمعنى الكنسي هم غير رجال الدين” الذي تم إبعاده عن الكنيسة، خلال تلك الفترة حربا شرسة مع الصقور، محاولا إثناء القيادات المتشددة عن الهجوم المستمر على ما اعتبرهم وقتها- التيار العلماني- قادة تنويرين مثل الأب متى المسكين وتلاميذه، وحاول التيار نشر الأفكار التي حاولت الكنيسة وقتها دفنها قبل أن تصل إلى الجمهور القبطي.
يقول كمال زاخر منسق التيار العلماني: لم يغب التيار أبدا عن المحاولات لدفع عجلة الإصلاح إلى الأمام، لكن كان هناك تيار قوي داخل الكنيسة يرفض ذلك. ويضيف: حاولنا وأرسلنا مقترحات وكتبنا في كل النواحي الكنسية لكن لم يسمع أحد حينها”.
الحوار مع الكنائس الأخرى
بدأ البابا تواضروس في الاقتراب من الكنائس الأخرى المختلفة مع الكنيسة القبطية في الإيمان، سلم الأنبا إنجيلوس أسقف لندن مسئولية ملف الحوار مع الكنيسة الأنجليكانية بحكم الجوار إذ تمكن من توقيع اتفاقية إطارية قبل شهرين من أجل البدء في حوار لاهوتي موسع مع التأكيد على موقف الكنيسة القبطية المسبق من قضية طبيعة المسيح التي هي محل خلاف بين الكنيستين.
بينما يتولى الأنبا سرابيون مطران لوس أنجلوس ملف الحوار اللاهوتي مع باقي الكنائس مثلما يشير مراد يواقيم الباحث في اللاهوت بالولايات المتحدة مؤكدًا إن الأنبا سرابيون كان قد انتقد طريقة إدارة هذا الملف الذي أشرف عليه الراحل الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس سابقًا ولم يحرز فيه نتائج بحسب ما قاله الأنبا سرابيون فتم إسناد هذا الملف له.
لعل زيارة بابا الفاتيكان لمصر عام 2017 تشكل أحد أهم لحظات الصراع بين البابا تواضروس والأساقفة الصقور فالكنيسة وقعت اتفاقية تقضي بقبول المعمودية مع الحبر الأعظم بابا الفاتيكان إلا إن هجوم التيار التقليدي على البابا تواضروس تسبب في سحب هذه الاتفاقية وتغيير ألفاظها بطريقة مطاطية تعني إمكانية قبول المعمودية في المستقبل.
وكان الأنبا رافائيل أسقف وسط القاهرة والأنبا أغاثون أسقف مغاغة والأنبا إبرام مطران الفيوم من أشد المعارضين لتلك الاتفاقية مقابل الأنبا إبيفانيوس أسقف دير “أبو مقار” الذي قٌتل في 29 يوليو/ تموز 2018، الذي قدم محاضرة بالأدلة والوثائق تكشف قبول الكنيسة القبطية معمودية الكاثوليك في القرون الأولى ملوحًا بأن هذا التعليم الكنسي الذي يرفض معمودية المسيحيين من بقية الطوائف دخيل على فكر وتعليم كنيسة مار مرقس القبطية.
التعليم الكنسي
فيما يأتي التعليم الكنسي كثاني ملف يسعى التيار الإصلاحي لتطويره وتحديثه إذ يؤمن البابا تواضروس إن التعليم الكنسي من أساسيات حركة الإحياء القبطي التي قامت على يد جيل مدارس الأحد في الأربعينات ولها يدين البابا تواضروس نفسه برهبنته ومسلكه الروحاني ومن ثم فإن الكنيسة قد اتخذت عدة إجراءات لاستنهاض الكليات الإكليريكية من غفوتها وذلك بتعيين هيئات أكاديمية تحكم التعليم الكنسي وتضع له الأسس والمعايير.
وتتطلع الكنيسة لتأسيس أكاديمية للتعليم القبطي تنضم تحتها الكليات الإكليريكية المتناثرة كافة بينما تظل قضية تنقية التعاليم الكنسية مما شابها في السنوات الأخيرة من تغييرات على رأس قضايا الصراع التي تشعل خلافًا تتضح معالمه على مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما رصدته انجي هيو في كتابها الحياة السياسية للقديسين الصادر بالإنجليزية والذي استعرض عبر دراسة اثنوجرافية طبيعة التعليم الكنسي الذي يستند إلى المعجزات والقديسين بشكل أساسي باعتباره رد فعل لما عاشه الأقباط خلال العقود الماضية من عزلة وتمييز.
أما في مجال الرهبنة واقتصاد الأديرة فقد كانت الورقة البحثية التي قدمها الأنبا إبيفانيوس للمجمع المقدس عام 2017 قبل مقتله تستهدف إصلاح الرهبنة القبطية وإبعادها عن الكهنوت وإعادتها لصيرورتها الأولى حيث آباء البرية الأوائل الذين قدموا الرهبنة للعالم كحياة للعزلة والفقر الاختياري بينما تصطدم تلك التعاليم بما آلت إليه الأمور في الأديرة في السنوات الأخيرة إذ تحولت لمؤسسات اقتصادية مثلما يشير كمال زاخر في كتابه الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد.
استعادة العلمانيين
كل تلك التغيرات تتم بمعزل عن تيار علماني قبطي يقدم خبراته الحياتية والعلمية لمجمع الأساقفة بالشكل الذي ينقذ الكنيسة المعاصرة من أزمتها وهو ما أرخت له فيفيان إبراهيم في كتابها الأقباط الصادر بالإنجليزية حيث أشارت إلى الصراع القديم ما بين المجلس الملي الذي يمثل التيار العلماني وما بين المجمع المقدس، صراع تجلى فيمن يملك سلطة تمثيل الأقباط أمام الدولة وكيف تنفق أموال الشعب القبطي.
توضح فيفيان إبراهيم إن العلمانيين الأقباط كانوا قد مارسوا العمل السياسي في الحقبة الليبرالية “قبل 1952” ومن ثم أدوارهم تنوعت ما بين إدارة الشأن المالي وأوقاف الكنيسة من ناحية بالإضافة إلى تمثيل الأقباط سياسيًا أمام الدولة من ناحية أخرى وإبراز مواقفهم في المجال العام السياسي بمصر.
سناء حسن تؤكد في كتابها إن البابا كيرلس السادس حين وطد علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر قد اتفقا على أن توضع كافة مفاتيح الكنيسة في يد البابا البطريرك دون وجود نخبة قبطية تملك أي سلطة إدارية في الكنيسة وهو الأمر الذي ورثه البابا شنودة حين أسس مجلسًا مليًا مدجنًا على حد تعبير أنيس عيسى الباحث في علم الاجتماع الديني.
اقرأ أيضًا: عقد على الكرسي المرقسي.. “بطريرك السلام” يخوض المعارك
في حين جاء البابا تواضروس ليتسلم المجلس الملي معطلًا بفعل انتهاء مدته فلم يسع بأي شكل لإعادة انتخابه بل أعلن أكثر من مرة عن رغبته في استبداله بمجلس استشاري قبطي يضم خبرات مختلفة من المسيحيين يقدمون العون للكنيسة كل في مجاله وهي فكرة قريبة الشبه بما طرحه كمال زاخر منذ أيام عن تأسيس مجلس كنسي يضم نخبة من الأساقفة والعلمانيين يضطلع بمهمة إصلاح الكنيسة القبطية في الفترة المقبلة إلا إن اتهامات التخوين قد طالته من كل اتجاه.
يؤكد زاخر إن المقترح لا علاقة له بدور الأراخنة (كبار العلمانيين ) في ادارة الكنيسة وليس بديلاً للمجلس الملى الغائب والمغيب أو قل المُعَطل مشيرًا: ما اقترحته هو مجلس معاون للبابا في الشق الإداري والعام ويتضمن تخصصات ذات صلة بالملفات الرئيسية بالكنيسة.
يقول زاخر إن هناك أمورا معلقة تستوجب التفكيك باشتراك الإكليروس والعلمانيين منها ما هو كنسي كعلاقة الأسقف بالإدارة المالية ومخصصاته وصلاحياته في هذا الشأن، ومنها ما هو متعلق برعية الكنيسة كقواعد وضوابط الأحوال الشخصية ومنها ما هو مشترك كترتيب إدارة الأوقاف القبطية وإدارة المشروعات الكنسية والديرية.
واعتبر زاخر أن الهجوم على اقتراحه إنما أكد ان هناك أزمة حقيقية في الشارع القبطي والكنيسة فيما يتعلق بمنظومة الادارة.