تعود وسائل الإعلام الروسية بين الفينة والأخرى للحديث عن ممر الشمال البحري الروسي كبديل لقناة السويس، مركزة على أفضليته للتجارة العالمية. هذا الحديث يتردد في روسيا ما بعد السوفيتية بشكل غير عادي، ولكنه بات علامة ملموسة في غالبية وسائل الإعلام الروسية التي تعتبر المشروع في حد ذاته تجسيدا للفكرة القومية الروسية. ومن الصعب أن نفصل ما تستعرضه وتركز عليه وسائل الإعلام عن تصريحات المسؤولين والساسة والمفكرين الروس من جهة، والمشروعات الضخمة (العابرة للقومية) التي تسعى روسيا لتنفيذها في العديد من الدول من جهة أخرى، على اعتبار أن روسيا دولة عظمى لها اقتصاد يمتلك الطابع العابر للقوميات، ويجب أن يخدم أفكارها ومصالحها القومية والوطنية حصرا.
وسائل الإعلام الروسية شددت، وبشكل ملحوظ، على تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أشار فيها إلى أن معظم دول آسيا والمحيط الهادئ مهتمة بتطوير الممر الشمالي البحري، الذي يعد منافسا للممر الجنوبي التقليدي، الذي تمر خلاله السفن عبر قناة السويس. وأكد بوتين، في هذا السياق، على أن تعزيز تطوير “الممر الشمالي البحري هو أمر بالغ الأهمية للبلاد، ومن الضروري بلوغ الهدف الاستراتيجي الرئيسي في أقرب وقت، وهو البدء بإنتاج مجموعة كاملة من السفن ذات الحمولة المتوسطة والكبيرة والمعدات البحرية”. من الواضح أن روسيا تسعى في البداية لاستخدام هذا الممر بسفنها وكاسحات جليدها. إذ أشارت وسائل الإعلام الروسية إلى أن حقيبة طلبيات مجمع “زفيزدا” تبلغ في الوقت الراهن، بحسب رئيس شركة “روس نفط” إيجور سيتشين، 14 سفينة، متضمنة السفن الأربعة التي تبنى لـ”روس نفط”. ويتطلع مجمع “زفيزدا” إلى طلبيات لبناء 188 سفينة.
في السنوات الأخيرة، عادت وسائل الإعلام الروسية بقوة لتكرر نفس الحملة التي تظهر وتختفي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بأن سفن الشحن عادة ما تبحر من دول شرق آسيا مثل الصين واليابان إلى أوروبا عبر المسار التقليدي أو ما يعرف بالممر الجنوبي، وتعبر خلاله قناة السويس، وتستغرق رحلة كهذه نحو 22 يوما. أما الممر الشمالي، فهو ممر بحري يربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي عبر المحيط المتجمد الشمالي، وعادة ما يكون هذا الممر متاحا فقط في الصيف، لكن عملية الاحتباس الحراري، التي تسارعت بنهاية القرن العشرين، منحت كاسحات الجليد فرصة للإبحار عبر هذا الممر على مدار السنة.
وبفضل هذا الممر، حسب الخبراء ووسائل الإعلام في روسيا، ستوفر شركات الشحن الوقت والمال. فعلى سبيل المثال تكون الرحلة البحرية من شنغهاي إلى ميناء هامبورج الألماني عبر الممر الشمالي أقصر بـ 2800 ميل بحري عن الطريق المار عبر قناة السويس. وستكون مسافة الرحلة البحرية من ميناء يوكوهاما في اليابان إلى ميناء روتردام بهولندا، عبر الممر الشمالي، 7300 ميل بحري، في حين تصل إلى 12500 ميل بحري عبر الممر الجنوبي (قناة السويس).
وتأتي تنمية الممر الشمالي ضمن خطة استراتيجية لروسيا تهدف لتطوير القطب الشمالي، وهو المنطقة التي تحتوي على كميات كبيرة من المعادن والنفط الخام والغاز الطبيعي. وفي الوقت نفسه تسعى روسيا إلى مشاريع اقتصادية حيوية في المناطق المحيطة بقناة السويس، كمنطقة التجارة الحرة، إضافة إلى اهتمام روسيا بخطط كل من الأردن وإسرائيل، ومتابعتها تطورات مشاريع البلدين في المناطق القريبة من قناة السويس، والمشاريع الأخرى التي يرغب كل من الأردن وإسرائيل تنفيذها لتوفير المياه والمنافذ البحرية من جهة، ووضع بدائل لقناة السويس من جهة أخرى.
تركز روسيا ووسائل إعلامها، بشكل مثير للتساؤلات، على كل ما يتعلق بقناة السويس من تطويرات وتطورات، ووقوع حوادث، وإيرادات وخسائر، وإقامة مشروعات في المناطق المحيطة بالقناة. بل وتهتم بشكل استثنائي بمشروعات الدول الأخرى التي إما تنافس بها قناة السويس أو تلك التي تسعى لاستخدام ممرات مائية أخرى غير القناة.
وعلى سبيل المثال، ركَّزت موسكو ووسائل إعلامها على أن بكين تحث شركات الملاحة على استخدام الممر الشمالي الغربي، المار بالقطب الشمالي، بهدف توفير الوقت والمال، متفادية بذلك عبور قناة السويس، حيث سيقلل لها الممر الشمالي، الذي فتح بفضل التغير المناخي، الزمن الذي تستغرقه الرحلات البحرية بين المحيطين الأطلسي والهادئ. وبفضله ستتمكن شركات النقل البحري الصينية من توفير الوقت والمال. وستكون الرحلة البحرية من شنغهاي إلى ميناء هامبورغ الألماني عبر الممر الشمالي الغربي أقصر بـ 2800 ميل بحري عن الطريق المار عبر قناة السويس.
وركزت موسكو على أن للصين وجودا متزايدا في المنطقة القطبية الشمالية، إذ تعتبر من أكبر المستثمرين في قطاع التعدين في جرينلاند كما أبرمت اتفاقا للتجارة الحرة مع أيسلندا. واعتبرت أن ذلك “نذير شؤم” لقناة السويس، التي تعتبر أحد مصادر الدخل الرئيسية لمصر بالإضافة للسياحة، مشيرة إلى أن الحكومة المصرية أنفقت نحو 8.5 مليار دولار لتوسعة مجرى قناة السويس بهدف زيادة القدرة الاستيعابية للقناة وخفض مدة الانتظار الناجمة عن اكتظاظ الممر الملاحي للقناة. وذهبت إلى أن انخفاض أسعار النفط العالمية دفعت شركات الملاحة البحرية إلى استخدام طريق رأس الرجاء الصالح بدلا من المرور عبر قناة السويس لتجنب رسوم العبور المرتفعة التي تدفعها خلال مرورها بقناة السويس.
ويصل اهتمام روسيا إلى أمريكا الجنوبية أيضا، حيث تركز باهتمام شديد على مشروعات تطوير قناة بنما، وتطلق الكثير من الحملات الإعلامية التي تقارن فيها بين قناتي بنما والسويس. في هذا الصدد أيضا، وبعد الإعلان عن توسيع قناة بنما، من أجل الربط بين المحيطين الأطلسي والهادي، رأت روسيا أن ذلك سيتيح عبور سفن يزيد حجمها عن تلك التي تعبر القناة حاليا، وبالتالي ستعد قناة بنما منافسا أساسيا لقناة السويس المصرية.
الخبراء الروس يميلون إلى أن “قناة بنما” ستنافس بشكل جدي قناة السويس الجديدة. إذ ستوفر ممرا جديدا للحركة الملاحية بطول القناة، وهو ما سيضاعف سعتها. كما ستفتح طريقا للسفن للعبور عبر المحيط الهادئ إلى القناة لأول مرة، وتتيح عبور السفن، التي على متنها حمولات تقدر بحوالي 13000 حاوية شحن من مقاس 20 قدما. وقد اختيرت سفينة الحاويات “إندرونيكوس” المملوكة لشركة “تشاينا كوسكو” للنقل البحري كأول سفينة شحن صينية تعبر قناة بنما بعد توسعتها. ولكن الخبراء الروس اعترفوا في نهاية المطاف بأن قناة السويس تحتل موقعا جغرافيا متميزا بين 3 قارات (إفريقيا- أوروبا- آسيا)، بينما لدى قناة بنما موقع جغرافي أقل تميزا، وسط قارتي أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية، وأن محور التنافس بين القناتين هو السفن التجارية المنطلقة من وإلى أمريكا وآسيا، حيث أن أمام هذه السفن مساران: إما أن تبحر عبر قناة السويس، وإما عن طريق قناة بنما من الجهة المواجهة للمحيط الهادي مستغلة دائرية الكرة الأرضية.
يبدو أن روسيا تتجه إلى مسارات أخرى لتحقيق فكرتها القومية بشأن ممر الشمال. وذلك عبر إقامة مشروعات صناعة وتجارية أخرى قد تشكل “ممرا” جيوسياسيا وجيواقتصاديا في المستقبل لتمكينها من تنفيذ فكرتها. فقد أفاد تقرير لوزارة التجارة والصناعة الروسية بأن حجم الاستثمارات في المنطقة الصناعية الروسية المزمع إنشاؤها في منطقة بورسعيد المصرية سيبلغ نحو 4.6 مليار دولار بحلول عام 2035، حيث ستقام هذه المنطقة، حسب تقرير أعده خبراء الوزارة الروسية بهذا الشأن، على مساحة ألفي هكتار، ومن الممكن أن توفر 77.5 ألف فرصة عمل.
ولفت التقرير إلى أن معظم هذه الاستثمارات تأتي من القطاع الخاص، حيث ستعود المنطقة بعائدات تصل إلى 11.6 مليار دولار على الشركات والأفراد العاملين فيها. أي أن روسيا تركز على الفوائد الآنية المباشرة على مشاريعها دون التطرق لآفاق هذه المشروعات على قدرة روسيا نفسها في المستقبل من إملاء شروط معينة ليس فقط بشأن الاقتصاد المصري، بل وأيضا بشأن مستقبل قناة السويس التي يبدو أنها باتت تفصل روسيا عن فكرتها القومية التي تلح بشكل دوري على رؤوس وأذهان الساسة والمفكرين والاقتصاديين الروس.
من جهة أخرى، تركز روسيا على جملة من المشروعات التي تدخل في صلب الاقتصاد المصري، وبالذات في ما يتعلق بجانبها القومي والوطني. أي تلك المشروعات التي تمثل البنية التحتية للاقتصاد الوطني المصري، الأمر الذي يستدعي المزيد من الحرص والدقة في صياغة هذه المشاريع، والاهتمام بتنويع المشاركين فيها، والقدرة على الصياغات القانونية الآنية والمستقبلية لشكل الشراكة ومداها وشروطها. وكذلك الشروع بتنفيذ مشروعات موازية قد تكون بديلة في حال تغيرت موازين القوى، أو ظهرت طموحات ما لدى هذا الطرف أو ذاك. فالعلاقات الدولية تحتمل كل شيء، بما في ذلك التحسن والتطور، والعكس. وبالتالي، لابد من توفير البدائل، وتوفير المصادر والموارد الاحتياطية.
لقد تم توقيع مذكرة التفاهم حول إنشاء المنطقة الصناعية الروسية حول قناة السويس أو بالقرب منها في فبراير 2016، على أن تضم مشروعات لإنتاج جرارات زراعية ومنتجات بتروكيميائية، وصناعة الأدوية، وغيرها من المنتجات. ومن الممكن أن يكون لشركات مثل “كاماز” و”أواز” لصناعة الشاحنات والسيارات، وشركة “غازبروم نفط” الذراع النفطي لعملاق الغاز الروسي “غازبروم”، وجود في تلك المنطقة التي ستتمتع بإعفاءات ضريبية. أي أن روسيا لديها توجه بوجود شبه كامل في هذه المنطقة التي ستقام على مساحة 2 مليون مترا مربعا، وستلعب دورا مهما في البنية التحتية للاقتصاد المصري في منطقة تمثل أهمية حيوية واستراتيجية بالنسبة لمصر، من جهة، وتمثل منطقة تنافس في غاية الخطورة بالنسبة لروسيا. والحديث يدور هنا عن “العقدة” الروسية من قناة السويس، وحلم موسكو بتحقيق فكرتها القومية المتمثلة في ممر الشمال.
روسيا هي الدولة الأكثر اهتماما بإغلاق قناة السويس
شرح الدبلوماسي المتخصص بشؤون المنطقة القطبية والمندوب عن وزارة الخارجية الروسية، نيكولاي كورشونوف، أهمية وإيجابيات طريق بحر الشمال مقارنة بطريق قناة السويس. ورأى أن “حادثة أكبر سفينة حاويات في قناة السويس في 23 مارس 2021 أظهرت أهمية تطوير طرق النقل العالمية البديلة، وذلك من حيث تنويع طرق الإمداد، بالإضافة إلى سلبيات الممرات البحرية الحالية”.
وكانت سفينة الحاويات “إيفر جيفن”، التي يبلغ طولها 400 متر وطاقتها الاستيعابية نحو 224 ألف طن، متوجهة من الصين إلى روتردام، وجنحت عند الكيلومتر 151 من قناة السويس، ما أدى إلى إغلاقها لمدة ستة أيام وعرقلة حركة المرور على طولها. إلى أن تم تعويم السفينة، واستئناف حركة الملاحة على طول القناة. وعلى الرغم من تعويم السفينة في واحدة من أكبر التظاهرات العالمية دعما لمصر، إلا أن الجانب الروسي ينظر إلى الأمور بطريقته. فالدبلوماسي الروسي قرر أن يطرح مجددا تلك المفاضلة التقليدية بين قناة السويس وممر الشمال الروسي. فقال إن “طريق بحر الشمال أقصر بنسبة 40 في المائة من طريق النقل عبر قناة السويس وله عدد من المزايا، حيث يسمح طوله الأقصر بتقليل ليس فقط الوقت ولكن أيضا تكاليف الوقود، مما يساعد على تقليل الضغط البشري في الشركات المتخصصة بالنقل”.
من جهة أخرى، كلف نائب رئيس الوزراء الروسي يوري تروتنيف وزارة تنمية الشرق الأقصى الروسي ووزارة النقل وشركة “روس آتوم” بتحليل تكلفة نقل وتسليم البضائع على طول طريق بحر الشمال، مشيرا إلى أن ذلك يجب أن يتم بتكلفة أقل من قناة السويس. أي إجراء تحليل اقتصادي للتأكد من ثمن نقل البضائع على طول طريق البحر الشمالي ومدى قيمته مقارنة بأسعار وضرائب قناة السويس”. وكان تروتنيف واقعيا للغاية عندما قال إنه “من خلال إطلاق مشروع ضخم مثل هذا المشروع، لن نتمكن من تحقيق ربح على الفور وسنضطر إلى استثمار قدر معين من الوقت. وهذا هو الوضع العام لأي مشروع استثماري، لذلك في الفترة الأولية نحتاج إلى تعزيز هذا المشروع ودعمه”. ولكنه أقر بحقيقة مهمة وخطيرة تدور حول أن “تكلفة نقل البضائع على طول طريق بحر الشمال تمت مناقشتها بالفعل في اجتماع بالحكومة، وهي حتى الآن أعلى من تكلفة نقلها عبر قناة السويس”.