يبدو أن الجدل حول المسئولية الطبية في مصر متواصل ولن ينتهي قريبًا. فعلى الرغم من سنوات النقاش السابقة حول نسخ مشروعات القوانين التي قدمت بشأنه وكان آخرها ما قدمه النواب مجدي مرشد، إليزابيث شاكر، وأيمن أبو العلا في فترة انعقاد الدورة البرلمانية الماضية (2015-2020)، قد يعرقل مشروع قانون جديد طرحه رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب حاليًا د.أشرف حاتم، إقرار القانون. ذلك لأن بعض بنوده تثير تخوفات الأطباء من صيغتها التي قد تودي بالطبيب في نهاية المطاف إلى عقوبة الحبس.
يتضمن المشروع الحالي عدة بنود، أبرزها “ضمان تحقيق التوازن بين “مصلحة المواطن” في الحصول على خدمة علاجية متكاملة، وبين “حقوق مقدمي الخدمة” في تقرير الحماية القانونية اللازمة لهم أثناء تأديتهم لمهام عملهم، واستحداث إنشاء صندوق لتعويض الأضرار عن أخطاء المسئولية الطبية، يتحمل عن الأطباء قيمة التعويضات التي يُحكم بها عليهم، وإقرار عقوبات مشددة لكل من يتعدى على الأطباء والمنشآت الطبية لمواجهة الأحداث التي يتعرض لها أصحاب المهنة.
أما البند الذي يعترض الأطباء عليه بخصوص هذا المشروع فيتضمن نصًا بـ”عقوبتي الحبس والغرامة”، بأن حدد عقوبتي الحبس والغرامة كعقوبات تخييرية يقدرها القاضي، حسب جسامة الفعل المرتكب بما مؤداه أن للقاضي توقيع عقوبة الحبس، والذي يبدأ من 24 ساعة حتى 3 سنوات، أو الاكتفاء بعقوبة الغرامة فقط”.
العودة لنقطة الصفر
يعتبر أمين عام اتحاد الأطباء العرب، د.أسامة عبد الحي، مشروع القانون الحالي “عودة لنقطة الصفر”. وهو يلفت إلى أن مسودته لا تحقق طموحًا، ولا تلبي مطالبًا.
ويقول: “إن قانون المسئولية الطبية المعمول به في دول العالم يستهدف محاسبة الأطباء بطريقة حديثة، مستبعدًا الشق الجنائي إلا في حالة ممارسة الطب دون رخصة، أو عمل الطبيب في أماكن غير مرخصة”. غير ذلك، فإن ثمة اتفاق نقابي حول بند “تحديد المسئولية الطبية”، والذي نص صراحة على أنها التزام ببذل عناية، وليس بتحقيق نتيجة. وهو ما يعكس غاية تشريعية من المشروع المقدم لتوفير الحماية القانونية اللازمة لمقدمي الخدمة الطبية أثناء تأدية مهام عملهم.
13 عامًا بلا قانون
يعود تاريخ مشروع قانون المسئولية الطبية إلى عام 2009، وتحديدًا حين تقدم به نقيب الأطباء رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب -وقتئذ- د.حمدي السيد. وقد تسبب حينها في جدل واسع، وأثار موجة غضب بين الأطباء، لتضمينه مادة “الحبس لمدة لا تقل عن سنتين، ولا تزيد عن خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه لمن يخالف أي حكم من أحكام المادتين التاسعة، والعاشرة من قانون المسئولية الجنائية للطبيب، بشأن الأخطاء الطبية التي ترجع إلى الجهل بالأمور الفنية في حدود تخصصه، وعدم الإلمام بأصول المهنة”.
وتكررت محاولات أعضاء لجنة الصحة عامي 2015، 2017 لمناقشة مشروع قانون جديد لـ”المسئولية الطبية”، دون وصول إلى نتيجة واضحة، نظير ملاحظات سجلها قطاع التشريع بوزارة العدل عن بعض المواد التي يشوبها عدم دستورية.
وكان أبرز ما جاء في الملاحظات أن مشروعات القوانين المقدمة -آنذاك- تواترت على إنشاء كيان لتقرير المسئولية الطبية، واختصته دون غيره بإعداد التقرير الفني، وألزمت جهات التحقيق والمحاكم بما ينتهي إليه هذا التقرير. واعتبر قطاع التشريع أن ذلك يعد مخالفة لـ”نص المادة 97 من الدستور”، والتي تحظر تحصين أي عمل أو قرار من رقابة القضاء، وأن إلزام القاضي بما انتهي إليه تقرير فني من شأنه الإخلال بالمبادئ القانونية.
كمت تطرقت الملاحظات المدرجة على “قانون المسئولية الطبية” في نسخته قبل الأخيرة -المطروحة حاليًا- إلى ما تضمنه من طرح للعقوبات السالبة للحرية حال ثبوت الخطأ الموجب للمسئولية الطبية. وهو ما يعد إخلالًا بمبدأ المساواة المنصوص عليه بالمادة 53 من الدستور. وكذلك يمثل خلطًا بين الغرامة كعقوبة جنائية والتعويض المدني.
“الأطباء” ترفض عقوبة “الحبس”
يضيف د.أسامة عبد الحي، في تصريحاته لـ”مصر360″، أن مشروع القانون الحالي، وإقراره بند “الحبس، والغرامة” يعني تطبيقًا لقانون العقوبات الدارج، ويفترض أن الطبيب يدخل غرفة العمليات بنية الإيذاء.
وهو يرى ثمة ضرورة لإجراء تحقيق عبر لجنة فنية حال حدوث أي مضاعفات للمريض، أو عند وقوع الطبيب في خطأ فني. على أن تكون العقوبات تعويضات مدنية فقط عن الضرر الذي يقع على المريض في حالات الخطأ. يقول: “لابد من التمييز بين المضاعفات التي تحدث نتيجة خطأ طبي غير مقصود، والأخطاء المتعمدة.. قانون مزاولة المهنة لسنة 54 أفضل من المسودة النهائية”.
ويتضمن مشروع القانون الحالي فصلًا كاملًا ينظم إنشاء اللجنة العليا، واللجان الفرعية التابعة لها. وهي التي تختص وحدها بإعداد التقارير المتعلقة بشكاوى المواطنين أو الشكاوى التي تحال إليها من النيابة العامة أو الجهات المختصة لتحديد مسئولية الأطباء.
لا إحصاء محدد للأخطاء
حسبما أفادت د.منى مينا، وكيل نقابة الأطباء سابقًا، فإن الأخطاء الطبية المسجلة في مصر أقل من الحقيقة. لأن التسجيل ليس دقيقًا. وهي تلفت إلى أن حالات المشاهير فقط هي التي تظهر، أو نظيرتها التي تلقى رواجًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويشير تقرير صادر عن “مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان” إلى أن تقديرات الأخطاء الطبية تصل إلى 180 ألف حالة سنويًا، وهو إحصاء غير رسمي.
وحسب نقابة الأطباء، فإن نحو 20 طبيبًا يجرى شطبهم من النقابة سنويًا بسبب الأخطاء الطبية. وتتضمن النقابة هيئة تأديبية للتحقيق في شكاوى المواطنين، وحصر حالات الأخطاء الطبية.
وحسبما حكى “رشاد مطراوي” -ولي أمر- فإنه تقدم بشكوى لنقابة الأطباء العام الماضي بعد وفاة ابنه البالغ من العمر تسع سنوات، في أعقاب إجراء جراحة قلب مفتوح بأحد مستشفيات الأطفال الشهيرة. وأقام دعوى قضائية ضد الطاقم الطبي المعالج لشكه في إهمال متعمد في علاج حالة طفله.
اقرأ أيضًا: تأخر 5 سنوات.. قانون “مسؤولية المهن الطبية” في انتظار دوره بالبرلمان
يقول لـ”مصر 360″: “إن الدعوى القضائية المقامة تستهدف شطب الفريق الطبي من نقابة الأطباء، والحصول على تعويض مناسب للإهمال. وقد جمعني لقاء مع مسئولين داخل نقابة الأطباء لاستيضاح الموقف. لكن ذلك لم ينه إجراءات التقاضي”.
وتعد واقعة الفنانة “ي. ع” 41 عامَا، أشهر وقائع الإهمال الطبي، حين تعرضها لغيبوبة عقب إجراء عملية “تكيس المبايض” أجراها أحد الأطباء في يوليو/ تموز قبل الماضي بأحد المستشفيات الكبرى. إلى جانب عملية “شد بطن”، أسفرت فيما بعد عن زيادة عدد ضربات القلب ونقص بالأكسجين، ما استدعى إقامتها بالعناية المركزة لمدة 10 أيام، حتى تعرضت لتسمم في الدم استدعى سفرها إلى “سويسرا” للعلاج، وإحالة طاقم المستشفى للتحقيق.
وحسب “عبد الحي”، فإن عدد الشكاوى المقدمة شهريًا يتراوح بين 350 إلى 400 شكوى شهريًا. ويحفظ ما يقرب من 85% لـ 90% لعدم استيفاء الإجراءات المطلوبة من إرفاق تقارير وأشعة، وعدم متابعة الشاكي لملف الشكوى المقدمة.
غير أن ثمة مبالغة –على حد قوله- في تقديرات الأخطاء الطبية المشار إليها في تقارير سابقة، وعدد المشطوبين سنويًا من كشوف النقابة. لافتًا إلى أن العدد في العامين الأخيرين لم يتجاوز نحو 3 أطباء.
أهمية وجود قانون لـ”المسئولية الطبية”
وترى منى مينا أن أهمية إقرار قانون المسئولية الطبية تتبلور في التفرقة بين “المضاعفات، الخطأ، والإهمال”، شأن قوانين عديدة في دول مثل إنجلترا، والإمارات”.
وهي تفرق بين الخطأ الطبي والإهمال بمثال: “إذا كان هناك ممارس عام، وتدخل في عملية جراحية، أوعملية في العين مثلًا، فهذا إهمال، مثل من يعمل في مكان غير مؤهل طبيًا، أو من يترك مريضًا في حالة تستوجب متابعته”.
أما الخطأ الطبي، فتراه وارد الحدوث أثناء ممارسة العمل. فلا يوجد طبيب دون خطأ، لأنه في النهاية منتج بشري. وهذا لا يستدعي إلا التعويض وفقط. وإذا كانت ثمة تعمد فإن الأمر يتحول من مسئولية طبية إلى مسؤولية جنائية.
وكيلة نقابة الأطباء السابقة تضيف، في حديثها لـ”مصر360″ أيضًا، أن نسبة الأخطاء الطبية في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية كبيرة. وكذلك نسب وفيات الأخطاء الطبية. لكنها في النهاية تُعلن وتجرى دراستها لتجنبها فيما بعد، وليس للتشهير بالأطباء، على حد قولها.
لذا، فإنها تؤيد إقرار مشروع القانون الحالي، بشرط تضمينه بما ينفي الحبس والحبس الاحتياطي في حالات الخطأ، حتى لا يأخذ الأطباء إلى ما أسمته “الطب الدفاعي”. بما يعني امتناع الأطباء عن معالجة الحالات المعقدة، والتي قد تحدث فيها مضاعفات متوقعة، خوفًا من المساءلة التي تنتهي بالحبس. “القانون بصورته المطروحة الحالية لا يلبي الحماية للطبيب ولا للمريض”؛ تقول منى مينا.
المضاعفات ليست خطأ طبيًا
وتقول النائبة د.إليزابيث شاكر -مقدمة مشروع قانون المسئولية الطبية عام 2017- إن المضاعفات لا تندرج تحت بند الخطأ الطبي أو الخطأ الفني. مشيرة إلى ما تدفعه شركات التأمين من تعويضات للمريض الذي يتعرض لمثل هذه الأخطاء، دون مساءلة الطبيب نهائيًا.
وتضيف، لـ”مصر360″، أن لجنة المسئولية الطبية حسب مشروع القانون ستكون مسئولة عن تحديد نوع الخطأ، وفي حال ثبوت خطأ جنائي يحال المخطئ للمحاكمة.
وهي تعرب عن أسفها إزاء دمج ثلاثة مشاريع قوانين إبان الدورة البرلمانية الماضية، ومراعاة الملاحظات الواردة من مجلس الدولة على المشروع المجهز، دون اتخاذ خطوات جادة حتى الآن لإقرار القانون، رغم المناقشات التي استغرقت سنوات.
وترى عضوة لجنة الصحة السابقة بمجلس النواب أن إقرار القانون سيمنح كل الأطراف حقوقهم، سواء الأطباء أو المرضى، تفاديًا لأي خروقات قانونية قد تحدث.
حوار مجتمعي مطلوب
وتترقب نقابة الأطباء لقاء رئيس لجنة الصحة د.أشرف حاتم، مقدم مشروع قانون المسئولية الطبية الحالي، لإجراء حوار موسع حول بنود مختلف عليها.
وقالت د. إيناس عبد الحليم، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، إن مشروع القانون في طور الحوار المجتمعي، نافية أية اعتراضات عليه. وأضافت أن هذا المشروع المزمع مناقشته يحمي الطبيب والمريض على حد سواء، ولا علاقة له باستقالات الأطباء من وزارة الصحة. مؤكدة أن عدد الأطباء المستقيلين يصل إلى نحو 11,900، ومعظمهم من الخريجين الجدد.
واستطردت: “لم نتطرق لدخول الأطباء في مشروع قانون المسئولية الطبية.. سيجرى كل شيء في وقته”.