قبل عام واحد من حصوله على جائزة نوبل في الآداب، أصدر الأديب الكولومبي الأشهر جابرييل جارسيا ماركيز روايته “قصة موت معلن” (أو كما في ترجمات أخرى “سرد أحداث موت معلن” أو “وقائع موت معلن”). في الرواية المستوحاة من أحداث حقيقية، يتوجه الأخوان، التوأمان بابلو وبيدرو بيكاريو، من أجل قتل صاحب المزرعة الناجح سانتياجو نصار ذي الأصول العربية، بسبب اتهام ملفق من أختهما “أنخيلا”، التي وجدها زوجها في ليلة زفافهما غير عذراء، فاتهمت سانتياجو – الذي حضر حفل الزفاف- بأنه من أفقدها عذريتها. وهكذا، انتقاما – كما يظنان – لشرف العائلة،  توجه الأخوان إلى البلدة التي يعيش فيها سانتياجو نصار من أجل قتله، بواسطة سكينين كبيرين يستخدمان عادة لذبح الخنازير.

اقرأ أيضا.. “الرياضة والسياسة”.. ماذا نريد منهما؟

لندع جانبا الآن ملاحظة أن الأخوين ذهبا لقتل “الجاني” بدلا من أن يقتلا أختهما كما كان سيحدث في بلاد أخرى، فنحن لا نريد أي قتل على أية حال خصوصا فيما يسمى زورا جرائم “شرف”، ولنتابع ما جرى في تلك القصة التي كتبها ماركيز بطريقة غير تقليدية، فهو يخبرك منذ الصفحة الأولى، بل منذ السطر الأول، بما سيقع في الصفحة الأخيرة، لقد تمكن الأخوان، رغم أنهما لم يكونا في حقيقة الأمر جادان تماما في نواياهما، من قتل سانتياجو نصار. هذا رغم أنهما أرادا أن “يبدو عليهما” أنهما سيثأران لشرف العائلة المزعوم، أكثر مما انتويا ارتكاب الجريمة نفسها، وهكذا، لم يتوقفا عن إخبار الجميع بنواياهما، أثناء المشي في البلدة، أثناء شحذ السكينين في سوق اللحوم، لقد نشرا تهديدهما في كل مكان، حتى صار الجميع في البلدة عارفين بأن الأخوين بيكاريو سوف يقتلان سانتياجو نصار، ما عدا شخصا واحدا لم يكن يعرف، هو سانتياجو نصار نفسه!

لويس جارثيا ماركيز

حين تم تداول تسجيلات شهادات أولياء أمور الأطفال الذين تعرضوا لاعتداءات مروعة في إحدى الحضانات الخاصة بالإسكندرية، ثم ما ورد في تحقيقات النيابة، لم أستطع منع نفسي من تذكر أهالي بلدة سانتياجو نصار في رواية ماركيز، فقد علم أهل البلدة بالجريمة وهي مجرد فكرة، ثم وهي على وشك الحدوث، إلى أن حدثت فعلا، من دون أن يتحرك أحد لتحذير أو إنقاذ الضحية. ثم إذا بنا نقرأ فيما كشفت عنه النيابة العامة، أن بعض الجيران قد استمعوا من قبل “أصوات صراخ واستغاثة الأطفال داخل الحضانة وتعنيفهم من مديرتها”، كما أن الحضانة “سبق تقديم شكوى ضدها عام 2020 في واقعة مماثلة”. فضلا – بالطبع – عن العاملين بالحضانة، الذين أدلى منهم “معلمتان وعاملة” بأقوال تفيد “تكرار تعدي مديرتها على الأطفال”. رغم ذلك التكرار، رغم الأصوات التي وصلت إلى الجيران، رغم وجود العاملين بالحضانة، رغم الشكاوى السابقة، فإن الضحايا لم يتم إنقاذهم، حتى قررت إحدى المعلمات، قبل استقالتها، أن تسجل مقطعا صوتيا لتعذيب واحدة من الأطفال وإيصاله إلى أولياء الأمور، فبدأ تحريك البلاغات.

لا يحب المرء أن يكون جلادا، فليس منّا من هو بلا خطيئة، ولا شك أن أولياء أمور الأطفال المعنفين، لديهم الآن، كما أفصح بعضهم بالفعل، إحساسا بالغا بالذنب  نتيجة ما تعرض له أطفالهم، ونحن نعلم أن الأم، أي أم، غالبا ما تعيش أحاسيس الذنب تجاه أطفالها على أية حال. ولكن يحق لنا مع ذلك أن نتسائل، كيف لاعتداءات جماعية مثل تلك “حرر أولياء أمور 10 أطفال المحضر ضد إدارة الحضانة برقم 10515 لسنة 2022 قسم شرطة باب شرق” أن تمر طوال تلك “الفترة الكبيرة، على حد قول المعلمة التي سربت المقطع الصوتي” من تحت أعين أولياء الأمور، رغم ما ورد فيما بعد في شهاداتهم بأن أطفالهم كانوا يعودون من الحضانة مصابين بكدمات، وأن بعض الأطفال كان يستيقظ ليلا في صراخ وبكاء، وبعضهم كان يرفض العودة إلى الحضانة. ورغم ذلك فقد مر كل ذلك تحت فرضية “يمكن بيتدلعوا”! وذلك إلى أن أرسلت المعلمة المقطع الصوتي الفظيع فلم يعد في الأمر شك.

مرة أخرى لسنا ملائكة. كما لا ننكر أن الطفل يمكن أن “يتدلع” أو “يتكاسل” في بعض الأحيان، مثلنا بالظبط فما هو إلا إنسان صغير. لكن يحتاج المرء إلى قدر هائل من “الافتقار إلى المعرفة” (أحاول استخدام تعبير مهذب) كي يظن أن تواتر كل هذه الإشارات ليس إلا “دلع”. وألا يحاول التأكد بجدية مما يحدث في الحضانة رغم بكاء وكدمات الأطفال.

الأسئلة عديدة، منها ما لا بد أن يتركز على الشكوى التي قُدمت مسبقا، وعلى البلاغات التي لم تقدم “رغم أن أصوات تعذيب الأطفال كانت تصل إلى الجيران”، وعلى صمت العاملين إلا واحدة تحركت بعد عام بعد أن اضطرت إلى تسجيل مقطع صوتي. وعن مدى فهم الآباء لأطفالهم، وعن آباء آخرين يمارسون العنف بأنفسهم بعد أن نشأوا عليه. وعن مدى سهولة عملية التبليغ نفسها وحماية القائم بها. كل ذلك، وغيره مما لم يساهم فحسب في أن يحدث ما حدث، بل في استمراره لأمد غير قصير، ضد أطفال في عمر الهشاشة لم يميزوا الزمن بعد، وبالنسبة لهم، كل دقيقة من التعنيف تساوي عمرا.

في رواية ماركيز، لم يحذر أهل البلدة “ابنهم” سانتياجو نصار للعديد من الأسباب، فبعضهم ظن أن سانتياجو لابد قد عرف بالفعل بخبر اللذين قدما ليقتلاه، لأن البلدة كلها صارت تعرف. والبعض ظن أن تحذيره مهمة الآخرين.  والبعض بذل جهدا غير كاف لتحذيره، والبعض عجز عن إيجاده، والبعض ظن أن سانتياجو يستحق الموت، والبعض – ببساطة – لم يكن يهتم. كانت تلك أسباب بلدة سانتياجو في عدم إنقاذه، فما هي أسبابنا لنترك ما حدث يحدث؟ وما هو دورنا كي لا يتكرر؟