زاد حجم النفايات الخطرة المتداولة العابرة للحدود 500% خلال الثلاثين سنة الماضية. وتشكل هذه النفايات السامة والمشعة تهديدًا خطيرًا لحياة الناس والأنواع الحية ونظام البيئة. ومع أن الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية تمنع تصدير هذه النفايات الخطرة، تصب الدول الصناعية الكبرى هذه المواد والمخلفات الخطرة صبًا على الدول الفقيرة في الجنوب، ما يعرض سكان هذه البلدان لمخاطر صحية مؤكدة.
اقرأ أيضا.. تغير المناخ وأثره على موارد مصر المائية
وفق ورقة بحثية نشرتها دورية “نيتشر- اتصالات” في الربيع الماضي، يتراوح إنتاج النفايات في العالم ما بين 7 و10 مليارات طن سنويًا، ويتراوح حجم النفايات الخطرة بين 300-500 مليون طن سنويًا. ووفقًا لمجلة “للعلم”- النسخة العربية من مجلة العلمي الأمريكي Scientific American، أكبر الدول المصدرة للنفايات هي الصين والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، وأكبر الدول المتلقية للنفايات المكسيك والهند وأوزبكستان. وللدول العربية، وفق الدراسة، نصيب من هذه الكعكة المسمومة. تتأثر دول العالم العربي بشكل مباشر بمخاطر التجارة الدولية للنفايات، موريتانيا والمغرب وجيبوتي ضمن قائمة الـ 28 دولة الأكثر تعرضًا لمخاطر سوء إدارة النفايات الطبية والمنزلية والنفايات التي تحتوي على معادن ثقيلة خطرة.
وليس جديدًا أن دولًا في شمال إفريقيا، كانت المحطة النهائية لكثير من النفايات الخطرة القادمة من أوروبا والعالم، ففي عام 2013، اعترضت السلطات في الجزائر ثلاث حاويات لنفايات مشعة قادمة من الصين، وفي عام 2016، أعلن عن تصدير الإمارات العربية المتحدة أدوية وسلع غذائية منتهية الصلاحية إلى ليبيا.
وفي مايو عام 2020، رست عدة سفن شحن قادمة من إيطاليا في ميناء “سوسة” التونسي، وأفرغت ما يقرب من 7900 طن من النفايات الخطرة. وفي يونيو 2020، أعلنت السلطات الإسبانية عن تفكيك شبكة للجريمة المنظمة صدرت بشكل غير قانوني 2500 طن من النفايات، بما في ذلك النفايات الإلكترونية الخطرة، من جزر الكناري إلى نيجيريا ودول إفريقية أخرى.
وفي المملكة المتحدة أعلنت وكالة البيئة أكبر قضية على الإطلاق لجرائم النفايات الخطرة في البلاد، وقدمت أربع شركات و11 فردًا للمحاكمة بسبب التصدير غير المشروع للنفايات الإلكترونية إلى دول في غرب إفريقيا. وفي العام الماضي، فرضت السلطات السنغالية غرامة بقيمة 3 ملايين يورو على سفينة شحن ألمانية لتفريغها نفايات سامة في ميناء “داكار”.
من الناحية القانونية قد تبدو مثل هذه الصفقات مشروعًة، حيث تتعاقد الشركات أو الدول من الباطن مع دول أو شركات أخرى، لتقوم بدلًا منها بإعادة تدوير ومعالجة نفاياتها الخطرة. سواءً كان ذلك بسبب عدم القدرة على معالجتها محليًا، أو ارتفاع تكاليف المعالجة مقارنة بالدول الأخرى، أو لأن القوانين هناك تحظر مثل هذه العمليات الخطرة. لكن هذه الصفقات- التي تبدو قانونية- تخفي وراءها أنشطة غير قانونية.
تنظم اتفاقية “بازل” لعام 1989 تداول النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها، وتغطي الإتفاقية سبعة أنواع من النفايات: النفايات السمية، المتفجرة، المواد الآكالة الحمضية أو القلوية والمواد القابلة للاشتعال والمواد السامة للبيئة والمواد المعدية والنفايات ذات السمية العالية نتيجة تركيز المعادن الخطرة. وتحظر الاتفاقية على الدول الأطراف تصدير النفايات الخطرة، إلا إذا كان لدى البلد المستورد القدرات والمعدات اللازمة لإعادة تدويرها. كما تشترط الإخطار المسبق بين الدول قبل تداول هذه النفايات. وبموجب اتفاقية “باماكو” يحظر على الدول الأطراف في الاتفاقية استيراد النفايات الخطرة والمشعة، لأي سبب من الأسباب.
وتمنع القوانين في معظم دول شمال إفريقيا إدخال النفايات الخطرة، مع ذلك تدخل النفايات الخطرة. في بعض البلدان، يكفي الحصول على استثناء من السيد المسئول، أو اللجوء لجماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود. وفي حالات أخرى، يكفي لحل تلك المشكلة “البسيطة”، الحصول على بيان من بلد المنشأ، يشير إلى أن تلك المواد غير ضارة، أو أنها مواد للتدوير.
لفترة قصيرة نجحت اتفاقية “بازل” في وضع حد لتصدير النفايات الخطرة، لكن مع تحول التجارة في النفايات إلى سوق مربحة خلال العقدين الماضيين، والدور المتعاظم لجماعات الجريمة المنظمة في هذه التجارة، بدأت النفايات تصل إلى تلك البلدان بكميات أكبر من ذي قبل. وبحسب منظمة السلام الأخضر، صارت ترد أحيانًا على شكل “مساهمات في مشاريع التنمية” أو “مساعدات إنسانية”.
ازدهرت الجريمة المنظمة العابرة للحدود منذ أوائل التسعينات في القرن الماضي، وعلى الرغم من توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود(UNTOC) في عام 2000، تسارع هذا الاتجاه في العشرين عامًا الماضية. هذه التحولات كانت مدفوعة بالتحولات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي حدثت منذ مطلع القرن، وبالنظام المصرفي العالمي الغامض الذي تطور خلال تلك الفترة.
أدى النمو الهائل في صناعة الإلكترونيات إلى زيادة الطلب على الذهب والكوبالت والمعادن الهامة، لكن سلاسل إمداد هذه المعادن، يتحكم فيها جماعات مسلحة ومسئولين فاسدين، والنتيجة كميات هائلة من النفايات. يقترب حجم النفايات الإلكترونية في العالم من 50 مليون طن سنويًا. وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة 90% من هذه النفايات، تقدر بحوالي 19 مليار دولار، يتم تداولها والتخلص منها بطرق غير مشروعة. وبحسب تقرير “الاقتصاد العالمي الأسود” لعام 2020 فإن أكبر الدول ال إفريقية المتلقية للنفايات الإلكترونية هي غانا ونيجيريا.
لم يكن مفاجئًا أن تتحول جماعات الجريمة المنظمة إلى سوق التخلص من النفايات الإلكترونية الخطرة.
ظهرت في إيطاليا “المافيا البيئية” في إدارة النفايات الخطرة منذ منتصف التسعينات، وبعد الأزمة المالية العالمية 2008 والارتفاع الهائل في أسعار الذهب في أمريكا اللاتينية، تحولت جماعات الاتجار بالمخدرات إلى التعدين وتجارة المخلفات الخطرة. واتسع نشاط المافيا البيئية الإيطالية لدرجة أنه في عام 2018 صادرت السلطات 4.4 مليون طن من النفايات الخطرة من جماعات المافيا البيئية. هذا الرقم، من بلد واحد هو إيطاليا، يكفي للدلالة على الحجم الهائل للنفايات الخطرة في العالم، وعلى الدور المتعاظم لهذه الجماعات الخفية.
وفي عام 2019 ذكرت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “الإنتربول” إن إحدى جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود ضالعة في تهريب كمية كبيرة من الألواح الشمسية منتهية الصلاحية من أوروبا إلى دول إفريقية. وتتوقع المنظمة أن يزداد الاتجار غير المشروع في نفايات الألواح الشمسية منتهية الصلاحية خلال السنوات العشرة القادمة.
في غضون عقدين تقريبًا، أصبحت تجارة النفايات الخطرة صناعة تدر ملايين الدولارات على الشركات وجماعات الجريمة المنظمة والمسئولين الفاسدين. ومن منظور الربح للشركات المنتجة للنفايات الخطرة، يبدو استخدام جماعات الجريمة المنظمة، أرخص بكثير من استخدام الطرق والكيانات القانونية.
هذه الجماعات تعرض أسعارًا أقل، ولا يأبهون بالقوانين المحلية ولا الاتفاقيات الدولية، ولا يعملون إلا في الظلام. يستخدمون كل أساليب الاحتيال، والمستندات المزيفة، ونقاط الضعف في القوانين، وفساد المسئولين الحكوميين، ويوفر لهم النظام المصرفي الغامض الذي تطور خلال العقدين الماضيين، الملاذات الضريبية وسرية الحسابات المصرفية وغسل الأموال، الفرصة لإخفاء أعمالهم غير المشروعة وراء واجهات قانونية.
وفقًا لـ”الإنتربول”: “هذه الممارسات منتشرة في العديد من دول العالم”. يتم شحن هذه النفايات الخطرة تحت مسميات أخرى خضراء براقة، على أنها نفايات بلاستيك لإعادة التدوير، مع إن معظم هذه الدول، لا تمتلك الخبرات ولا الوسائل ولا التقنيات الضرورية لإعادة التدوير والمعالجة النهائية.
بالعودة إلى فضيحة تصدير النفايات الخطرة من إيطاليا إلى تونس، كانت الشركة الإيطالية (SRA) “Sviluppo Risorse Ambientali”، قد وقعت عقدًا بقيمة 5.7 مليون يورو مع الشركة التونسية “سوربلاست (SOREPLAST). بموجب العقد، تجمع الشركة الإيطالية “النفايات البلاستيكية” من منطقة “نابولي”، وترسلها لفرزها وإعادة تدويرها في تونس، ثم بعدها تقوم الشركة التونسية بإعادة تصدير البضائع المعاد تدويرها إلى إيطاليا. ومع أن لدى تونس قانون يحظر استيراد المخلفات الخطرة، ومرسوم يتضمن قائمة بأسماء وصفات هذه المخلفات، دخلت النفايات الخطرة إلى البلاد.
لكن أصواتًا تونسية معارضة ارتفعت، واتهمت الوكالة الوطنية لإدارة المخلفات، التابعة لوزراة البيئة، بأنها سمحت بدخول أول 70 حاوية من النفايات وقدمت إلى سلطات الجمارك وثائق تصرح كذبًا أن الحاويات تحتوي على بلاستيك لإعاد التدوير. وقال نواب في البرلمان أن النفايات لم تكن من البلاستيك ولم تتم معالجتها. وأكدت اللجنة البرلمانية للإصلاح والحوكمة ومكافحة الفساد في تقرير لها، أن الشركة التونسية “لا تملك الموارد المادية والبشرية ولا التكنولوجيا اللازمة لفرز النفايات المستوردة”.
في النهاية، وبعد اعتراضات واسعة على الصفقة، أعيد تصدير النفايات إلى إيطاليا. وبحسب وسائل إعلام تونسية، فقد تورط في القضية مسئولون وسياسيون وموظفون في القنصلية التونسية في نابولي!
وفي مصر، ينظم القانون رقم 202 لسنة 2020 إدارة المخلفات الخطرة، يميز القانون بين المواد الخطرة والمخلفات الخطرة، ويعرف في مادته الأولى المواد الخطرة بأنها المواد ذات الخواص الخطرة التي تضر بصحة الإنسان، أو تؤثر تأثيرًا ضارًا على البيئة، مثل المواد المُعدية أو السامة أو القابلة للانفجار أو الاشتعال أو ذات الإشعاعات المُؤينة. أما المخلفات الخطرة، فهي تلك التي “تحتوي على مكونات عضوية أو غير عضوية أو مركبات، يكون لها ضرر على صحة الإنسان أو البيئة، نظرًا لخصائصها الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية، أو لاحتوائها على صفة من صفات الخطورة، مثل المواد المعدية أو القابلة للاشتعال أو الانفجار أو السُمية”.
تنص المادة 59 من القانون على أنه “مع عدم الإخلال بالاتفاقيات الدولية، يحظر تصدير المواد والمخلفات الخطرة إلا بعد الحصول على موافقة الجهاز، ويصدر قرار من الوزير المختص بالاتفاق مع وزير التجارة والصناعة، بتحديد الاشتراطات والإجراءات الخاصة بإصدار هذه الموافقة”. وتنص المادة 62 “يُحظَر استيراد المخلفات الخطرة أو السماح بدخولها أو مرورها في أراضي جمهورية مصر العربية، كما يحظر مرور السفن التي تحمل مواد أو مخلفات خطرة في البحر الإقليمي، أو المنطقة الاقتصادية الخالصة لجمهورية مصر العربية، أو السماح بمرورها، إلا بترخيص من وزراة النقل أو هيئة قناة السويس، بحسب الأحوال، وبعد موافقة الجهاز على النحو المبين بهذا القانون”.
وبموجب المادة 73، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن خمسمائة ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثة ملايين جنيه، كل من خالف أحكام المادة 62، وتقضي المحكمة بإلزام المحكوم عليه بإعادة تصدير المواد أو المخلفات الخطرة محل الجريمة على نفقته الخاصة خلال المدة التي تحددها.
يتبنى القانون المصري مفهوم المسئولية الممتدة للمنتِج عن منتجاته، وهي مسئولية يتحمل بمقتضاها المنتِج، كليًا أو جزئيًا، تكاليف إدارة المنتَج خلال دورة حياته، بما في ذلك مرحلة ما بعد الاستهلاك مثل عمليات الجمع والتدوير والتخلص النهائي من المنتَج. وصحيح أن القوانين الحازمة والعقوبات المشددة والغرامات المالية الباهظة، يمكن أن تقلل من عمليات الاتجار غير المشروع في النفايات الخطرة، ويمكن للصحافة الحرة أن تكشف عن الفساد، وأن تجعلنا على علم ووعي دائمين بالمخاطر التي تتهددنا.
حتى لا يصبح شمال إفريقيا مدفنًا للنفايات الخطرة، يمكن للإتحاد الإفريقي أن يدعو الدول الإفريقية، التي لم توقع بعد، للتوقيع والمصادقة على اتفاقيتي “بازل” و”باماكو”، وأن تطور الدول تشريعاتها، بما يضمن لها الحق في المراقبة والتحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة مرتكبيها ومطالبتهم بجبر الاضرار والتعويض عن الخسائر.
لكن جماعات الجريمة المنظمة، لا تحترم القوانين ولا الاتفاقيات الدولية ولا تحب الصحافة الحرة. لذلك، علينا أن نضغط على الحكومات حتى تأخذ القضية على محمل الجد، وأن تلزم القوانين الشركات بمعالجة نفاياتها الخطرة. في مواجهة الموت “الساكت” أو السرطان، ينبغي أن نكون حاضرين، وأن يكون لنا صوت.