بعد ما فشلت مساعي القوى الخليجية لبسط نفوذها في دول الصراعات العربية عبر دعم أطراف داخلية طوال السنوات التي أعقبت ثوارت الربيع العربي، نتيجة التنافس والتجاذب بين القوى الإقليمية والغربية، تعمل تلك القوى حاليا على إعادة صياغة أدوارها وأدواتها في المنطقة، وتوطيد نفوذها اقتصاديا من خلال التأثير في مرحلة إعادة الإعمار، بعدما ظلت تلك القوى لفترة طويلة لاعبا أساسيا في صراعات تلك الدول وجزءا رئيسيا من أزماتها.

اقرأ أيضا.. الراجحي: نحب تكنولوجيا إسرائيل “وفق أحكام الشريعة”.. دولارات الخليج تتدفق على الدولة العبرية

سوريا واليمن وليبيا، ومن بعدهم السودان، شهدت هذه الدول خلال السنوات الماضية تحركات على مستويات مختلفة من جانب قوى خليجية، وصلت إلى دعم بعض أطراف الصراع فيها بقوة السلاح، ما تسبب في مزيد من الخراب وإراقة الدماء، قبل أن تغير تلك القوى الخليجية تكتيكاتها على أرض الواقع من أجل ترسيخ نفوذها في دول الصراعات، ولكن هذه المرة عبر الاستثمارات.

ومؤخرا تشهد دول الصراعات العربية تحولات كبيرة في الأدوار من جانب الأطراف الخليجية، التي طالما ساهمت في الصراع.

من التسليح للإعمار

استقبال الرئيس السوري في أبو ظبي
استقبال الرئيس السوري في أبو ظبي

كانت الإمارات من الدول السباقة في توجيه الدعم لفصائل من المعارضة السورية منذ بداية الثورة على نظام بشار الأسد، وجاء هذا الدعم الذي وصل حد تسليح تلك الفصائل ضمن محور “إماراتي – سعودي”، في مقابل محور “قطري- تركي” حتى وصل الأمر، بجو بايدن نائب الرئيس الأمريكي وقتها في 2014، إلى اتهام أبو ظبي بتمويل وتسليح تنظيمات إرهابية.

ومع مرور الوقت واستعادة بشار الأسد توازنه النسبي في أعقاب الدعم الإيراني والروسي الرسميين، وفرض تركيا نفسها لاعبا رئيسيا في المشهد السوري، تراجع الدور الإماراتي الداعم لفصائل من المعارضة، حتى تحول بشكل عكسي لتبدأ أبوظبي مع بداية عام 2021 خطوات عملية لإعادة العلاقات مع النظام السوري، قبل أن يتحول الأمر إلى رغبة إمارتية في شراكة اقتصادية تسمح لها بنفوذ في سوريا.

وفي أكتوبر من العام 2021 قالت وزارة الاقتصاد الإماراتية إن الإمارات وسوريا اتفقتا على خطط لتعزيز التعاون الاقتصادي واسكتشاف قطاعات جديدة، مشيرة في تغريدة على الحساب الرسمي للوزراة، إلى أن هذا الاتفاق جاء خلال لقاء جمع وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله بن طوق المري مع وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام السوري محمد سامر خليل.

وأضافت أن الإمارات تعد أهم الشركاء التجاريين لسوريا على المستوى العالمي، وتحتل المرتبة الأولى عربيا والثالثة عالميا، إذ تستحوذ على ما يتجاوز 14% من تجارة سوريا الخارجية.

وأوضحت أن حجم التجارة غير النفطية بين البلدين بلغ مليار درهم (272 مليون دولار) في النصف الأول من 2021، في حين بلغ خلال العام الماضي 2020 نحو 2.6 مليار درهم. وبحسب وزير الاقتصاد الإماراتي تجاوزت قيمة الاستثمار السوري المباشر في الإمارات 1.5 مليار درهم (408 ملايين دولار) بنهاية 2019.

أما وزير التجارة الخارجية في حكومة النظام السوري، فأكد حرص بلاده على توسيع علاقات التعاون الاقتصادي مع الإمارات، وتطوير الشراكات الاستثمارية.

وفي إبريل/نيسان 2022، أعلن المدير العام لهيئة الاستثمار التابعة للنظام السوري، مدين دياب، أن الإمارات ستنفذ قريباً استثمارات كبيرة في سوريا، موضحا أن هناك مشروعات للطاقة المتجددة مطروحة مع رجال أعمال من الإمارات، ويجري التنسيق مع وزارة الكهرباء في حكومة النظام لبحث إمكانية إقامتها.

ليبيا

محمد بن زايد وخليفة حفتر في أبو ظبي
محمد بن زايد وخليفة حفتر في أبو ظبي

وفي ليبيا لم يختلف النهج الإماراتي كثيرا، فبعد سنوات من دعم معسكر الشرق الليبي بقيادة خليفة حفتر عسكريا حتى دفعته إلى حرب اتجهت فيها قوات شرق ليبيا نحو العاصمة طرابلس لدخولها بالقوة في حملة استمرت لمدة عام سقط خلالها المئات من القتلى في الجانبين.

خلال تلك الفترة سعت الإمارات من خلال شركة مواني دبي التي تمتلك الحكومة 80% من أسهمها في إنشاء شركة متخصصة في إدارة المواني في ليبيا لتكون امتدادا للمواني التي تديرها أبوظبي في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، بالإضافة إلى تواجدها في دول في شمال إفريقيا مثل مصر والجزائر، لتكون امتدادا لمشروعها السياسي الاستراتيجي من جهة، ومنع تركيا التي تسعى هي الأخرى للسيطرة على تلك المواني ضمن مشروع آخر يشكل تهديدا اقتصاديا للإمارات.

ووضعت أبوظبي أعينها على مواني زوارة، وطبرق، وبنغازي، وسرت، والخمص، ومصراتة، وطرابلس، ودرنة، إلا أن الاتفاقات التي وقعتها تركيا مع الحكومة المعترف بها دوليا في غرب ليبيا أفسدت المخطط الإماراتي مؤقتا.

وقبل فشل حملة حفتر العسكرية على العاصمة طرابلس، خططت الإمارات لدفعه إلى إقامة مؤسسة موازية لبيع النفط الليبي بخلاف تلك الخاضعة للحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، بحكم سيطرته على المناطق التي تقع بها الغالبية العظمى من الحقول النفطية، وهي المؤسسة التي ذكرت “وول ستريت جورنال” في حينه أن حفتر كان يسعى للتعاون مع الإمارات وعدد من الأطراف الأخرى، لتوقيع عقود شراكة معها.

كذلك سعت الإمارات للسيطرة على الإعلام الليبي لخدمة أهدافها الاقتصادية بالأساس، وهو الأمر الذي تطرقت إليه دراسة أعدها مركز “إيماسك” في 2018، والتي أشار خلالها إلى سيطرة الإمارات على 70% من الإعلام الليبي عبر امتلاكها بوابة الوسط، وراديو الوسط fm، وصحيفة ليبيا الحدث، وبوابة إفريقيا الإخبارية، وقناة 218، وقناة ليبيا 24، وقناة ليبيا روحها الوطن.

وأمام فشل الحملة العسكرية على طرابلس عملت أبوظبي على تغيير خططها بعد ما تأكد لها عدم قدرة الأطراف التي دعمتها على حسم الصراع لصالحها، فأخذت تمد العلاقات مع معسكر غرب ليبيا، وإقامة علاقات معلنة وغير معلنة مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.

وفي يوليو/ تموز الماضي كشف الموقع الاستخباري الفرنسي “آفريكا انتليجنس” قيادة الإمارات وساطة سرية بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وخليفة حفتر قائد الجيش العربي الليبي (قوات شرق ليبيا)، في أبوظبي، انتهت إلى تعيين فرحات بن قدارة المحسوب على حفتر، رئيسا للمؤسسة الوطنية للنفط مقابل إعادة العمل بالحقول النفطية التي توقفت نتيجة سيطرة محسوبين على معسكر شرق ليبيا عليها.

السودان

محمد بن زايد يستقبل حمديتي في أبو ظبي
محمد بن زايد يستقبل حمديتي في أبو ظبي

وكما كانت سوريا وليبيا ساحتين للتنافس والصراع الخليجي، وبالتحديد بين كل من الإمارات والسعودية وقطر بدرجات متفاوتة، كانت السودان أيضا.

إذ سعى كل طرف من الأطراف الخليجية خلال السنوات الماضية إلى إدارة المشهد في السودان لصالحه عبر دعم اطراف داخلية، فبعدما كانت الدوحة الأقرب إلى الخرطوم في أواخر عهد الرئيس السابق عمر البشير قبل الإطاحة به في إبريل/نيسان 2019، حتى أنها كانت بصدد تنفيذ مشروع متعلق ببناء ميناء ضخم على البحر الأحمر، باتت الإمارات في الوقت الراهن اللاعب الأكبر، عبر دعمها للرجل القوي في السودان محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، ونائب رئيس مجلس السيادة، في وقت تبلغ فيه حجم استثماراتها هناك 7 مليارات دولار عبر 17 شركة إماراتية، حسب إحصائيات شبه رسمية.

وكانت تقارير دولية كشفت عام 2019 أن الإمارات تمول حميدتي وتزوده بالأسلحة الثقيلة، حيث أشارت تلك التقارير إلى أن قائد قوات الدعم السريع تمكن من إقامة علاقات قوية مع السعوديين والإماراتيين، من خلال مشاركة قواته في حرب اليمن تحت القيادة السعودية.

وذكر مركز “بيجن -السادات للدراسات الاستراتيجية” التابع لجامعة “بار إيلان” العبرية، في ورقة بحثية أن الدولتين الخليجيتين تركزان على الطموح السياسي لـ”حميدتي”، كونه لن يسمح بانتقال السلطة إلى القوى المدنية السودانية بشكل كامل.

كما سعت الإمارات في المقابل لتوظيف دعمها لحميدتي في مناطق صراع أخرى، وهو ما كشفه تقرير فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا عام 2019، والذي أوضح أن دولا أعضاء في الأمم المتحدة خرقت منظومة حظر الأسلحة المفروضة على ليبيا، من بينها الإمارات والسودان وتركيا والأردن.

وجاء في التقرير أن السودان وحميدتي لم يلتزما بالعقوبات الأممية التي تقضي بحظر تقديم دعم عسكري لأطراف الصراع في ليبيا، مشيرا إلى أن ألف جندي سوداني من قوات الدعم السريع أرسلوا إلى الشرق الليبي في يوليو/تموز من العام ذاته بإيعاز من المسئولين في أبوظبي.

ولا تخفي الإمارات أطماعها في سواحل البحر الأحمر في ظل حالة الصراع والتنافس على تلك المنطقة، وفي ظل تمدد الإمارات في ميناء عصب بإريتريا وسواحل جنوبي اليمن، وسحب البساط من تحت أرجلها في مواني جيبوتي والصومال، ازداد اهتمامها بالسواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر.

وفي يونيو/ حزيران الماضي كشف تقرير لوكالة رويترز اعتزام الإمارات ضخ 6 مليارات دولار استثمارات في السودان، حيث تستهدف الإمارات بناء ميناء جديد في السودان، فضلا عن منطقة تجارة حرة وإيداع بعض ملايين الدولارات في البنك المركزي السوداني.

وتبع تقرير رويترز، كشف صحف سودانية مساعي أبوظبي لاتمام اتفاق خاص بإنشاء ميناء يحتوي أرصفة عالمية بمواصفات حديثة شمال مدينة بورتسودان بتمويل من شركة أبو ظبي القابضة.

استثمارات سعودية باليمن

القوات السعودية على الحدود اليمنية
القوات السعودية على الحدود اليمنية

وفي مقابل الاستثمارات الإمارتية في السودان، يسعى المستثمرون السعوديون إلى تعزيز استثماراتهم هناك، حيث كشف حسين بحري، رئيس مجلس الأعمال السعودي – السوداني أن هناك توجها لمضاعفة حجم الاستثمارات السعودية في السودان لتصل إلى ثمانية مليارات دولار بدلا من نحو 4 مليارات حاليا.

وفي اليمن التي تعاني من الحرب الأهلية، وتلعب السعودية والإمارات الدور الأكبر بها في مقابل دور إيراني داعم لجماعة الحوثي، تواجه أبوظبي اتهامات بتعطيل الاقتصاد اليمني نتيجة سيطرتها على 9 مواقع اقتصادية مهمة في المخا، وباب المندب، ومدينة عدن، وميناء العاصمة المؤقتة، ومطار عدن، ومطار الريان في المكلا، وسقطرى، وجزيرة ميون، وميناء بلحاف في محافظة شبوة جنوب اليمن.

انتهاء الصراع

ختاما يمكن القول إن إعادة الإعمار بالدول التي تشهد عملية تنافس بين القوى الخليجية والإقليمية، لا تعني بالضرورة انتهاء الصراع، إذ قد تشعل هذه العملية جذوة تنافسات إقليمية جديدة ، من المستبعد أن تُحدث استقرارا مستداما ما لم تقترن بحد أدنى من العملية السياسية التي تتيح إعادة توزيع الخسائر والأرباح.

وفي ضوء هذا الوضع، سيؤدي استمرار صراع القوى الخليجية والإقليمية إما إلى تقويض جهود إعادة الإعمار أو استخدامها كامتداد غير عسكري للنزاع.

وفي مطلق الأحوال، لن يتم على الأرجح إطلاق عملية إعادة إعمار فعّالة في المستقبل المنظور في كل من سوريا واليمن وليبيا، ما يؤدي لاستمرار زعزعة الاستقرار بالمنطقة.