في الأسابيع الماضية بدأت نقابة المحاميين في عملية احتجاج جماعي أمام مبنى نقابتهم، رافضين الخضوع لإجراءات قانون الضريبة الموحد التي تفرضها وزارة المالية عبر آلية الفاتورة الإلكترونية، تبعت تلك الاحتجاجات تضامنًا ودعمًا من نقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة وغيرهم من أعضاء المهن الحرة، رافضين الخضوع لنفس تلك الإجراءات.
حسنًا فعلت وزارة المالية بتأجيل الموعد الإلزامي للتسجيل في المنظومة الإلكترونية إلى شهر إبريل المقبل بدلًا من ديسمبر الجاري في خطوة تبدو كإتاحة فرصة أكبر للنقاش والحوار بين جميع الأطراف قبل البدء الفعلي في تلك المنظومة المستحدثة.
من باب الحق والإنصاف فإنه من غير المعقول أبدًا ألا نتحدث عن تواضع قيمة الضرائب المباشرة في مصر، حيث لا تدفع المهن الحرة بأكملها من محاميين وفنانين وأطباء ولاعبي كرة القدم أكثر من 5 مليارات جنيه كضريبة دخل في أحدث أرقام الموازنة العامة، بينما في ذات البند يدفع موظفو الحكومة والقطاع الخاص أكثر من 90 مليار جنيه بما يعني 18 ضعفًا تقريبًا للمهن الحرة التي تفوق دخولها بالطبع دخول الموظفين الذين تقتطع ضريبتهم من المنبع، بالإضافة لهذا الرقم فإن حجم الضرائب بشكل عام في مصر بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي لا تتخطى الـ 13%، بينما تمثل الضرائب في الدول الشبيهة متوسطة الدخل أكثر من 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فضلًا عن أن المجتمع الضريبي في مصر محدود نتيجة اتساع التجنب الضريبي عبر عدم تسجيل الأنشطة والمعاملات المالية فيما يسمى باقتصاد الظل وهو ما يشمل أنشطة عديدة من الاستشارات غير المسجلة وخدمات العلاج في العيادات الخاصة وتسجيل الشركات في الملاذات الضريبية ومزاولة أنشطة تجارية غير مثبتة ودون أوراق وغيرها من ممارسات التجنب الضريبي.
يضاف إلى ذلك تواضع حجم الممولين الذين يقدمون إقرارات ضريبية بنسبة 45% من إجمالي الممولين المسجلين في قاعدة بيانات ضريبة الدخل، وهي جميعًا أرقام دالة على حتمية تطوير الهيكل الضريبي المصري وتنمية الإيرادات الضريبية عبر تحسين الإجراءات ورقمنتها وتحقيق مبدأ الدفع للجميع، والحكومة محقة تمامًا في ذلك الأمر.
لكن الاحتجاج الذي بدأه المحامون لابد أن يأخذنا لأمر أبعد من بديهية ضرورة دفع الضرائب ورفض الخطاب غير المنطقي باستثناء فئات بعينها من الضرائب باعتبار هذه الفئة أو تلك لديها وضع خاص، ألا وهو النقاش حول كيفية تنمية الضرائب مع تحقيق العدالة الضريبية.
هذه الاحتجاجات الرافضة بشدة لحق ومبدأ أساسي في مبادئ المواطنة وهو دفع الضرائب للحكومة، هو تتويج لحالة من عدم الثقة بين دافعي الضرائب والحكومة لأسباب عديدة لابد أن تخضع لنقاش جاد وموضوعي، فالبعض يرى أنه لا يحصل من الحكومة على خدمات كافية أو مناسبة تجعله متحمسًا لدفع ضرائب في حين أنه يتحمل بنفسه تكلفة خدمات العلاج والتعليم والنقل والمرافق بشكل كامل، والبعض يرى أنه يدفع أشكال متعددة ومختلفة من الضرائب مثل القيمة المضافة ورسوم تنمية الموارد والدمغات المختلفة والتي تجعل كاهله مثقلا بالفعل بضرائب غير مباشرة وبالتالي لا يستطيع تحمل أعباء إضافية، والبعض يرى أنه لا يشارك بشكل حقيقي في مناقشة أولويات الإنفاق الحكومي أو لديه ترتيب آخر لأولوياته فبالتالي يتجنب دفع الضرائب.
كل تلك الأسباب وما زاد عليها لها جذور حقيقية بدرجات متفاوتة، مما يجعل المهمة السامية لدى صناع القرار والبرلمانيين والأحزاب السياسية والنقابات هو في تكوين مسارات وساطة ونقاش بين جميع أطراف المصالح المختلفة للوصول لصيغ توافقية مرضية وتحقق العدالة الضريبية، خاصة وأن الحكومة بشكل عام ووزارة المالية بشكل خاص لا تزال خاضعة لفكرة الحصول السريع على التدفقات المالية على المدى القصير بأكثر مما تبحث عن استدامة الموارد وبناء جسور الثقة مع المواطنين، ويظهر هذا جليًا بالنسبة لي في الجدال الحالي الدائر حول الفاتورة الإلكترونية وفي جدال سابق يتعلق بتسجيل الثروة العقارية.
من شروط النظام الضريبي الكفؤ والعادل هو “الاقتصاد في تكلفة جلب الضريبة”، بمعنى أن النظام الضريبي يمتاز بالكفاءة في التحصيل ولايحتاج لتكلفة كبيرة على الممولين أو جامعي الضرائب، وهو بالضبط ما يجب أن يناقش مع وزارة المالية، فهذه التكلفة الكبيرة للغاية التي يفترض تحملها على الشركات والأفراد في المجتمع الضريبي تمثل إرهاقًا على الممولين، ومن غير المعقول أن يكون بعض أصحاب المهن الحرة من أصحاب الدخول القليلة أن يطالبوا بدفع ثمن أداة التسجيل الإلكترونية بهذا المبلغ الكبير، مع تكلفة سنوية لنظام التشغيل، مع غرامات لعدم التنفيذ تصل لـ 100 ألف جنيه، بالإضافة لإرهاق إضافي يتعلق بتقديم الملف الضريبي إلكترونيًا رغم وجوده في مصلحة الضرائب، وضرورة الذهاب إلى المصلحة لتقديم أوراق الملف الضريبي مرة أخرى، وهي عملية شديدة الإرهاق على ما يزيد على عدة ملايين من المحاميين والأطباء والمهندسين، وهي تكلفة تستدعي الانزعاج فعلًا ولدى النقابات المهنية كل الحق في الاعتراض عليها.
الملاءمة هي أيضًا من شروط عدالة النظام الضريبي، بمعنى أن يتم تحصيل الضريبة من المكلف بها بالطريقة المناسبة بدون معزل تام عن القوانين الأخرى، ويعتبر جزءا من اعتراضات المحاميين تحديدًا تحملهم العديد من الضرائب والرسوم غير المباشرة في مهام عملهم اليومية أثناء تقديم الدعوات القضائية والملفات وغيرها، بالإضافة للعديد من الرسوم النثرية التي يصعب إثباتها وهي تتخطى بكثير حاجز الـ 10٪ التي حددتها وزارة المالية، وهي أيضًا إجراءات واعتراضات جديرة بالنقاش والحوار.
إذًا الحاجة ضرورية وماسة لبدأ حوار حقيقي حول عدالة الإجراءات الضريبية وضرورة إبداء مرونة من جميع الأطراف للوصول لتوافق يضمن إخضاع المهن الحرة للضريبة مع ضمان عدالة تلك الضرائب وسهولة إجراءاتها.
ما أتبناه بشكل شخصي هو ضرورة أن تلتزم الحكومة ووزارة المالية تحديدًا بعبء تسجيل المجتمع الضريبي والثروة الضريبية، فليس من المعقول أن تشتكي الحكومة من ضعف تسجيل الثروة العقارية بأقل من 5٪ من إجمالي الثروة العقارية وبالرغم من ذلك لا تخرج مبادرة “ذهبية” بالتسجيل العقاري تختصر الإجراءات وبشكل مجاني وإلكتروني يستطيع إنهاء هذا الملف المتراكم بدون تحميل المواطن أعباء إضافية جديدة، وذلك بالرغم من تعديل إجراءات قانون الشهر العقاري هذا العام لكن لم يتحقق نجاح كبير على حد علمي في هذا الأمر.
كذلك الحال في مبادرات أخرى كان يمكن أن تحقق نجاحاً أكبر في تحقيق المستهدف منها مثل مبادرة استيراد السيارات للمصريين في الخارج، والتي حرصت بعض الجهات على إضافة بنود خاصة في اللائحة التنفيذية أو اقتصار المبادرة على فترة محددة أو التفرقة في المعاملة بين مغتربي الخليج ومغتربي أوروبا، أضاعت بكل أسف حصيلة دولارية نحتاج إليها بشدة الآن بسبب التمسك ببعض البيروقراطيات غير المجدية التي تفرغ المبادرات من مضمونها.
ولعل احتجاجات المحامين والمهنيين في الوقت الحالي تدفع الحكومة ووزارة المالية للتفكير خارج الصندوق قليلًا، بخلق منظومة إلكترونية للتسجيل الضريبي لا تحمل الممول عبئًا جديدًا، وتقدم الخدمة مجانًا لمن قدمو بالفعل إقرارات ضريبية لمصلحة الضرائب في وقت سابق، كبادرة شكر لهؤلاء المواطنين على التزامهم وتعاونهم وامتثالهم الضريبي، فبالتأكيد ما ستجنيه الحكومة من حصيلة ضريبية على المدى الطويل من خلال بناء جسور الثقة والتعاون مع المواطنين ودفعهم للامتثال الضريبي، أكبر بكثير من إجراءات أقل مرونة يتصور البعض تحقيقها لقدر أكبر من الموارد في المدى القصير لكنها تتسبب في إحداث هوة واسعة في الثقة بين المواطن والحكومة، وغضب مما يتصور المواطن أنها جباية بأكبر ما تكون ضريبة يحصل بموجبها على الخدمات العامة، وهو ما يتطلب قدر كبير من الحكمة والمرونة وسياسات التحفيز من الحكومة -ولاسيما مع الضغوط الاقتصادية الآنية- بأكبر بكثير من سياسات الجزاء والعقاب.