بعد ما يقرب من عشر سنوات على ما يسمى بالجمهورية الجديدة -وهي الطبعة الأحدث- من حكم يوليو 1952 فإن المصريين عاجزون عن تدبير وجبات الفطور، تدبير ما يلزم من فول وعدس وبيض وجبن ولبن وعسل وخبز للصغار والكبار، وما ينطبق على وجبة الفطور يسري على الغداء والعشاء، نصف الشعب تدحرج تحت خط الفقر، ونصفه المستور يخاف مما يحمله الغد من مخبوء يتوقعونه لكن لا يعلمونه على وجه التدقيق.
الجمهورية الجديدة هي خليط من قدرة يوليو على الكذب والتضليل، مع طبع الخديوية في الاستدانة من أجل مشروعات ليست لها الأولوية، مع حداثة محمد علي باشا التي تركزت على تقوية الدولة بإضعاف المجتمع وتفكيكه، مع تراث بكوات المماليك الذي يجعل مصالح طبقة الحكم ومطامعها ومطامحها فوق مصلحة عموم الشعب، باختصار شديد: الجمهورية الجديدة هي النقيض المضاد لكل ما خرج لأجله المصريون في ثورتهم المجيدة في 25 يناير 2011، الجمهورية الجديدة استعادت أسوأ ما في الجمهورية القديمة ثم زادت عليه وذهبت به إلى آفاق بعيدة، إلى آفاق كابوسية لم يكن من الوارد أن تجول في خواطر أشد المصريين تشاؤما قبل عشر سنوات.
عندما خرج المصريون في 25 يناير 2011 لم يخرجوا فقط ضد شخصين هما الرئيس ونجله ومن حولهما من رجال ومؤسسات وتكتلات ومصالح، لكنهم خرجوا ضد منظومة الحكم في جوهرها العميق الذي تأسس مع تحرك الدبابات عند منتصف الليل مع دقات الساعة الأولى لميلاد 23 يوليو 1952، حيث السيادة الفعلية للدبابة وما الانتخابات والاستفتاءات إلا إجراءات شكلية محضة تعكس موازين القوة التي تحكم ولا تعبر عن إرادة الشعب التي تم نزعها وتجريدها من لحظة نزول الدبابات في تلك الليلة البعيدة، لافرق بين استفتاءات وانتخابات عبدالناصر، ولا السادات، ولا مبارك، مبارك حكم مصر ثلث قرن باستفتاءات مزورة ثم ختمها بانتخابات مفبركة، ثم كانت الثورة أمرا طبيعيا ولو أنها تأخرت كثيرا.
سقطت يوليو بسقوط مبارك سقوطا حاسما بين صلاتي الجمعة والعصر 28 يناير 2011 حين عجزت الشرطة -الذراع الفعلي للنظام- عن أن تصد طوفان الجماهير التي انسالت في ربوع البلاد، ثم قبل صلاة المغرب كان النزول الثاني للدبابات مكتوبا على بعضها يسقط مبارك، اعتقد كثيرون أن الدبابات مع الثورة، كان محض اعتقاد خاطئ، الدبابات نزلت لتبيع مبارك وتشتري الدولة، تبيع الحاكم وتشتري جوهر الحكم، تضحي بفرد أو مجموعة وتنفذ أصل المنظومة، تضحي بقفص من أقفاص يوليو من أجل تأسيس قفص جديد أشد إحكاما وصرامةً، الدبابات نزلت لتحصد ثمرات الثورة في التخلص من حاكم ضربته الشيخوخة حتى صار عبئا على الجيش والدولة ثم للتخلص من وريث لن يكون إلا خطرا على الجيش الذي يعتبر حكم البلاد حقه الحصري من ليلة 23 يوليو 1952 وحتى قبل سقوط الملكية وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953. نزلت الدبابات لتقف بالثورة عند هذه الحدود فقط -التخلص من التمديد للحاكم والتوريث لنجله- ولأن الثورة كانت عفوية بلا تنظيم ولا تخطيط ولا رؤية مستقبلية فقد كان من السهل كسب ودها ثم خداعها ثم احتوائها ثم إفشالها ثم تشويهها ثم عقابها ثم جعلها عبرة لمن يعتبر. لقد تم التحالف مع الميدان حتى أسقط الحاكم ونجله، ثم تم التحالف مع الإخوان بتفريغ الميدان، ثم استجاب الإخوان لفخ الحكم فاستحوذوا على كل شيء: رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس الشعب، رئاسة مجلس الشورى، رئاسة مجلس الوزراء، رئاسة كل شيء، استلذوا الفخ المنصوب لهم بإحكام، لم يتركوا لغيرهم شيئاَ، خاضوا الانتخابات بتكتيك ديمقراطي لكن بعقل حربي، ونظروا للفوز بالأغلبية كنصر في معركة، واعتبروا المناصب غنائم حرب لا مسؤوليات جسام، كتلوا الجميع ضدهم، تكتل ضدهم كل المتناقضين، اجتمع عليهم كل شامي ومغربي، من قوى الثورة إلى قوى الثورة المضادة، وذهب كل هؤلاء يتوددون للدبابات أن تنزل من جديد، فكانت أم الكوارث في 30 يونيو 2013م التي كشفت عن وجه صريح في بيان وزير الدفاع في 3 يوليو 2013م فدخلت مصر في ديكتاتورية عسكرية جديدة أشد قسوة من كل ما قد سبق، وقد اختارت أن تحمل لقب الجمهورية الجديدة، وهي ليست أكثر من خلاصة مركزة لبؤس الجمهورية القديمة . وكما يقول مونتسكيو 1689 – 1755 في ص 129 من كتابه “تأملات في تاريخ الرومان” فإن “شر الطغيان ذلك الذي يُمارس في ظل القانون وتحت رداء العدالة”.
هجمة الإخوان المباغتة على كل المناصب دون استثناء دفعت الكثيرين نحو الخيار الأسوأ: استدعاء العسكريين للحكم من جديد، وبالتحديد استدعاء القائد الذي اختاره الإخوان وقبل هو أن يكون أول وآخر وزير دفاع مع أول وآخر رئيس من الإخوان، كانت لحظة ضعف وتحلل واضمحلال في تاريخ الدولة المصرية في القرن ال 21 تكررت ثلاث مرات، لحظة ظهور مشروع التوريث، لحظة انقضاض الإخوان على الدولة، لحظة استدعاء قائد عسكري للحكم من جديد، ليمسح ما بقي من الثورة، وليستعيد الدولة القديمة، وليؤسس ديكتاتورية عسكرية جديدة، حذر هو نفسه منها، حذر من كانوا يتوددون إليه أن ينزل حلبة الصراع، كان أذكى الجميع، كان أبصر الجميع بمعنى استدعاء الجيش في أمر مدني، كان أبصر الجميع بمعنى دخول الجيش في صراع سياسي، كان يبصر وكانوا لا يبصرون، كان يبصر حقيقتين: الأولى أن الجيش إذا نزل فلن يعود إلى الثكنات. الثانية أن الجيش إذا حكم فسوف يحكم بثقافته وخبرته أي بالانضباط العسكري أي بالديكتاتورية المشفية لا شغت فيها ولا عظم.
قال وزير الدفاع في حكومة الإخوان الفريق أول عبدالفتاح السيسي في 12 مايو 2013″ الجيش نار، لا تلعبوا به، ولا تلعبوا معه، لازم تبحثوا عن صيغة للتفاهم فيما بينكم، البديل سيكون خيارات في منتهى الخطورة، الجيش لو نزل خلاص، بلاش نتكلم عن مصر كمان ثلاثين أو أربعين سنة” شيء من ذلك، حدث بالفعل، في الجمهورية الرومانية، بعد اغتيال يوليوس قيصر عام 44 قبل الميلاد، حيث لجأ الرومان إلى أحد القادة العسكريين الكبار وهو بومبيوس 106 – 57 قبل الميلاد يتوسلون إليه التدخل لإنقاذ الجمهورية التي آلت إلى التداعي والسقوط، وفي ص 104 من كتابه “تأملات في تاريخ الرومان” علق مونتسكيو على ذلك بالقول: “طلب الرومان من بومبيوس أن ينقذ الجمهورية، ولا يصح أن تُسمى جمهورية دولة تستجدي الحماية من أحد مواطنيها”.
***
ثلاثون عاما من حكم الرئيس حسني مبارك 1981 – 2011 وهو قائد متوسط في كل شيء إلا في مهارة الحفاظ على التوازنات سواء محلية أو إقليمية أو دولية، ثلاثون عاما منحت مصر قدرا من الأمن والسلام والاستقرار لم تستمتع به في أي حقبة من أحقاب تاريخها الحديث، لكن هذه المزايا ذاتها كان لها وجه آخر، فقد سلمت مصر بالتدريج إلى حقبة ضعف واضمحلال عبرت عن نفسها في أشكال عديدة: غيبة البدائل المدنية غير الجيش والإسلاميين، ظهور مشروع التوريث، وقوع البلد بكل مافيها وبكامل رضاها وعبر انتخابات حرة بين يدي الإسلاميين والإخوان في مقدمتهم، ثم وقوعها الثاني في فخ الديكتاتورية العسكرية الجديدة، ثم غياب كافة البدائل بعد أن وصلت الديكتاتورية الجديدة أو الجمهورية الجديدة قبل أن تكمل عشر سنوات إلى حائط مسدود، ومازال الضعف والاضمحلال اللذان صنعهما استقرار وأمان وسلام حقبة مبارك قائما يفعل فعله حتى اليوم والغد. فكما قيل بحق على لسان الكاتب الأشهر محمد حسنين هيكل 1923 – 2016 فإن عصر مبارك كان عصر التجريف النهائي لمصر.
فقط ومن باب الإنصاف يلزم إضافة أن هذا التجريف اكتمل في حقبة مبارك لكنه كان قد بدأ مع حكم ضباط الجيش من ليلة 23 يوليو 1952 ومازال مستمرا حتى هذه اللحظة، وجزء من أسباب ضعف الكفاءة لدى نخبة الحكم من الإخوان ثم ضعف الكفاءة لدى نخبة الحكم في ظل الجمهورية الجديدة وحتى ضعف المعارضة على العموم فكل ذلك مرده إلى ما أتقنه مبارك من تجريف ضمن له البقاء ثلث قرن ولولا مشروع التوريث لكان احتفظ بالكرسي حتى آخر يوم في حياته أي إلى 25 فبراير 2020. حقبة مبارك هي الأطول في الدولة الحديثة بعد حقبة محمد علي باشا 1805 – 1848، مع ملاحظة أن محمد علي باشا – بكل هيلمانه وصولجان كمستعمر جبار نافس الإمبراطوريات الاستعمارية العاتية في القرن الـ 19 – وجد من داخل الدولة من يطلب منه ترك السلطة حين أدركه الخرف، وقبل ولو على مضض أن يحكم نجله ثم حفيده في حياته وهو الأمر الذي كان مستحيلا في عهد مبارك الذي أصابه الاكتئاب بعد وقاة حفيده فاعتكف في غرفته ولم يكن يجرؤ أركان الدولة الكبار على طرق بابه ليذكره بزيارة سنوية مهمة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن.
كما أن حقبة مبارك تعادل الحقبة الملكية من تصريح 28 فبراير 1922 حتى عزل فاروق في 26 يوليو 1952، كما أنها تزيد على حقبتي عبدالناصر والسادات مجتمعين، حينما قامت ثورة 25 يناير 2011 المجيدة كان مبارك وحده يمثل ثلاثين عاما هي نصف حكم يوليو كله أي الستين عاما، حقبة مبارك أخذت معايب يوليو وتربعت عليها وتمتعت بها وشخصتها خير تشخيص وجسدتها في اطمئنان ويقين، ويوم سقط مبارك كانت دولة يوليو ذاتها قد سقطت معه، وكل ما حاولته الجمهورية الجديدة هو إحياء دولة ماتت بالفعل وتحللت بالفعل واضمحلت بالفعل وزالت بالفعل، كل ما فعلته الجمهورية الجديدة بعد 30 يونيو 2013 هو أن تحمل على أكتافها وأعناقها جثمان دولة لم يبقى منها شئ صالح للبناء عليه، المدارس لا يذهب إليها التلاميذ، المستشفيات ليس فيها علاج، البرلمان بلا قيمة، الحكومة بلا سلطة بجانب سلطة الرئيس، كل شيء من رئاسة الدولة إلى رئاسة الجامعات ومن عمدية القرية إلى عمادة الكليات أدركه التحلل والاضمحلال حتى فقد جدارته وهيبته وأهليته في أعين الناس، ولأن حقبة مبارك كان ترتيبها الثالث بعد عبدالناصر ثم السادات وكانت تعادل فترتيهما معا فهي – بهذا المقدار – كانت تمثيلا أمينا وتجميعا تراكميا لكل ما نخر في عظام دولة يوليو من سوس بحيث لم تنهض بها ساق ولا قدم أمام زحف المصريين ما بين صلاة الجمعة وصلاة العصر 28 يناير 2011.
صحيح أن الأمريكيين كان لهم مزاج في إسقاط مبارك، وكذلك كانت للجيش مصلحة في التخلص، وكذلك عجز تحالف البوليس مع رجال الأعمال مع الحزب الوطني عن حمايته، حدث كل ذلك فسقط مبارك، لكن الأخطر من كل ذلك، وقبل ذلك، وبعد ذلك، هو الطابع الملكي – الإقطاعي – الارستقراطي – الرأسمالي الذي انتهت إليه دولة يوليو في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، هذا الطابع الملكي – الاقطاعي – الارستقراطي – الرأسمالي ترجم نفسه في مشروع التوريث وصعود رجال الأعمال بصورة أنتجت -على نطاق واسع- ما يمكن تسميته “حقد الرجل العادي” حقد عامة المصريين الذين أحسوا أن غيرهم يستأثر من دونهم بالخيرات، وقد اقتبست مفهوم “حقد الرجل العادي” من المؤرخ الانجليزي هربرت فيشر 1865 – 1940 في ص 19 من كتابه “عصر النهضة والإصلاح الديني والاحتكام إلى العقل” وهو يفسر لماذا انتشرت البروتستانتية بسرعة على حساب الكاثوليكية في أوروبا القرن السادس عشر فقال: “وما فتئ ساعد الحركة البروتستانتية يشتد طيلة قرن من الزمان، فقد تحولت من حركة دينية إلى حركة شعبية تتغذى على حقد الرجل العادي، هذا الحقد يحركه ما غرقت فيه الكنيسة الكاثوليكية من بهارج وسلطان وثروات يُساءُ استخدامها، إذ تحولت الكنيسة من مركز ديني وروحي إلى حالة واسعة من الأنانية والجشع”.
وإذا كانت حقبة مبارك قد حركت حقد الرجل العادي لأنها تركت قوى المال تزحف عليها فيما اشتهر من زواج السلطة والثروة، فإن الجمهورية الجديدة كل يوم تستفز المزيد من حقد الرجل العادي ليس لأن قوى الثروة تزجف عليها ولكن لأنها هي ذاتها تقفز على كل شبر تظن فيه القليل أو الكثير من الثروة، جمهورية شبقة إلى المال شبقها إلى السلطة، مبارك كان يستأثر بالسلطة ويترك منها هوامش وحواف وعظام يمصمص فيها الشعب، واستأثر رجاله في السنوات العشر الأخيرة بالثروة لكنه ضمن للفقراء خمس خدمات أساسية بمقابل زهيد وهي: الخبز والماء والكهرباء والغاز والبنزين، حقبة مبارك اجتهدت في ألا تقترب من الرغيف، الجمهورية الجديدة لم ترحم الرغيف ولا الغموس.
حقد الرجل العادي في حقبة مبارك تحمله هو شخصيا ونجله وكبار رجاله والداخلية وعدد من رجال الأعمال، أما حقد الرجل العادي في الجمهورية الجديدة فلا يتوقف فقط على رئيس الجمهورية ولكن يمتد بصورة عميقة إلى الجيش ذاته، الذي تم تصدير صورة عنه أنه مؤسسة حكم وبيزنس وإدارة وسلطة واقتصاد إلى جوار كونه مؤسسة حرب وسلاح وعسكرية.
مأزق الجمهورية الجديدة مأزق وجودي يضربها في صميم عظامها وأعصابها وعمودها الفقاري، مأزق عبدالناصر في هزيمة 5 يونيو 1967 أمكن للأمة أن تحشد طاقتها على الجبهات في سبع سنوات نوجت بنصر عظيم في 6 أكتوبر 1973، مأزق السادات في خريف 1981 الذي انتهى باغتياله وسط جنوده أمكن علاجه بانتقال سلس وسلمي وهادئ للسلطة في 14 أكتوبر 1981 أي بعد أسبوع فقط من اغتياله، مأزق مبارك استدعى ثورة شعبية، ثم استدعى تعجل الإخوان للقفز على السلطة، وذلك بدوره استدعى تعجل العسكريين لعودة القفز على السلطة من جديد حتى أعلنوا الجمهورية الجديدة، ثم الجمهورية الجديدة تكلست قبل أن تكمل عشر سنوات، عجزت عن التطور من داخلها لأنها قامت على حكم فردي تسلطي طغياني مطلق لا مكان فيه لأي رأس لها معنى أو قامة لها قيمة حول الرئيس فكل من حول الرئيس يدورون في أفلاك الرئيس، ثم عجزت كذلك عن التطور من خارجها لأنها دأبت على الاستئصال القاسي الحاسم الفوري لكل صوت مختلف، وإذا كانت حقبة مبارك قد قامت على التجريف فإن الجمهورية الجديدة قامت على الاستئصال من الجذور.
ظنت الجمهورية الجديدة أنها قادرة على إحياء الدولة القديمة فعجزت عن إحيائها ثم أماتت نفسها، أماتت نفسها بما أثقلت به عاتق الدولة من ديون فوق قدرتها على السداد، ثم بما أثقلت به الشعب من سجون تفوق قدرته على التحمل، الجمهورية الجديدة قهرت ملايين الناس بأكثر مما أرضت، كما أفقرت الملايين من الناس بأكثر مما أغنت، استنفدت رصيدها بسرعة لدى الدولة، كما استهلكت رصيدها بصورة أسرع لدى الشعب، فلم تكمل عشر سنوات حتى اتسعت الفجوة بينها وبين الناس بأكثر كثيرا جدا من أي فجوة سابقة بين نظم الحكم السابقة والشعب.
نبع المأزق الوجودي الذي تورطت فيه الجمهورية الجديدة يتجاوز الخلاف التقليدي حول الديمقراطية والديكتاتورية، فطول عمر الدولة الحديثة وهي كثيرة الديكتاتورية قليلة الديمقراطية، نبع المأزق الوجودي للجمهورية الجديدة يكمن في افتقادها لألف باء الحكم التقليدي الذي يوازن بين الواقع والمثال، بين الواردات والمصروفات، بين الإمكانات والطموحات، بين صبر الشعب وغضبه، الجمهورية الجديدة حكمت كيفما تشاء طليقة من الحسابات ومتحررة من المواءمات فأنفقت بغير حساب وبطشت بطش الجبارين وهي في مأمن من رد الفعل ناهيك عن الحساب والعقاب.
باستكمال الجمهورية الجديدة عشر سنوات في صيف 2024 يكون حكم الضباط قد استهلك من عمر مصر 70 عاما وعلى أقل تقدير سوف تنقضي مثلها – أي حتى آخر القرن ال 21 – حتى يتسنى لمصر أن تبدأ في التعافي مما آلت إليه مصر تحت حكم دولة الضباط من تراجع تدريجي، فلم تعد تتنافس على النفوذ فيها إمبراطوريات عظمى فرنسية وبريطانية في القرن الـ 19، ولم تعد تتنافس عليها إمبراطوريات جبارة سوفيتية وأمريكية في القرن العشرين، وإنما باتت تتنافس عليها دويلات وإمارات ومشيخات النفط والغاز على الشاطئ الشرقي من الخليج، لم تعد المدرسة ولا المعلم المصري هو الأفضل في العالم العربي، لم تعد الجامعة المصرية ولا الأستاذ المصري هو الأفضل في العالم العربي، لم تعد الصحيفة المصرية ولا الإعلام المصري هو الأفضل في العالم العربي، وقس على ذلك كل ما يرد في بالك من الرصيف في الشارع حتى المدرج في المطار فسوف تصل إلى موقع مصر ومكانتها بعد سبعين عاما من حكم دولة يوليو بكل أحقابها وأجيالها ورجالها .
***
الجمهورية الجديدة ليس لها مخرج وليس منها مخرج إلا بالخروج من أقفاص يوليو مرةً واحدةً وإلى الأبد.