في مسعى بارز يعكس المحاولات الأمريكية لإعادة استقطاب الدول الإفريقية تعقد بالعاصمة الأمريكية واشنطن القمة الأمريكية الإفريقية، وذلك في ظل التغيرات المتسارعة الطارئة على المشهد العالمي والنظام الدولي في السنوات القليلة الأخيرة.
يعتبر مراقبون، القمة الأمريكية الإفريقية حدثا نوعيا يعكس منهجية جديدة في تعامل الإدارة الأمريكية مع الملف الإفريقي، بعد غياب 8 سنوات منذ انعقاد الأولى في 2014. كما تعكس أيضا الرغبة الأمريكية في فرض النفوذ في القارة السمراء لمواجهة التواجد الصيني المتنامي والنفوذ الروسي في القارة.
اقرأ أيضا.. «القمة الأمريكية الإفريقية».. واشنطن تسعى لتجنب أخطائها في الشرق الأوسط
وقبل القمة التي انطلقت أمس الأول بحضور ما يقارب من 50 رئيسا إفريقيا، والتي تستمر حتى اليوم، أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” تقديم الدعم للاتحاد الإفريقي ليصبح عضوا دائما في مجموعة العشرين. في خطوة أوضحت المحاولات الأمريكية لاستعادة الاهتمام والنفوذ الاستراتيجي في هذه المنطقة من العالم.
وهو المعنى الذي يؤكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنغازي خالد السحاتي، قائلا إنه من المتوقع أن تعمل القمة على استعادة النفوذ الأمريكي في القارة الإفريقية، خصوصا في مواجهة المنافسة الصينية الروسية.
ما بين القمتين
حملت فترة الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” طموحات كبيرة بشأن آفاق العلاقات الأمريكية الإفريقية، باعتباره أول رئيس أمريكي من أصول إفريقية، وفعّل أوباما قنوات الاتصال السياسي مع الدول الإفريقية فقام بزيارة غانا ومصر، وأطلق عدة مبادرات لترسيخ العلاقات مع الأفارقة مثل مبادرة Power Africa والتى تختص بحشد الموارد من المنظمات الدولية لتوفير سبل الوصول للكهرباء، ومبادرة التجارة مع إفريقيا والقادة الأفارقة الشباب في 2013.
وشكلت القمة الأمريكية الإفريقية الأولى، بداية حقبة جديدة في العلاقات الأمريكية الإفريقية، بما تضمنته من جلسات حوار حول أمن الطاقة والغذاء، وكذلك زيادة الاستثمارات كقضايا رئيسية.
ترامب وسياسة الانعزال
في المقابل، لم تول إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي خلف أوباما، اهتماما كبيرا بالسياسة الخارجية لاسيما تجاه إفريقيا، حيث شكل مبدأ “أمريكا أولا” الذي أعلنه، بداية الانكفاء الأمريكي على الملفات الداخلية.
كما تقلص الوجود الأمريكي في بعض الدول (أفغانستان، العراق، الصومال) باعتبارها حروب لا نهاية لها، ما أوقع تلك الدول في أزمات أمنية متراكمة نتيجة فشل الاستراتيجية الأمريكية في تحقيق أهدافها من حيث تجفيف منابع الإرهاب.
كما عارض ترامب اتفاقيات التجارة الدولية، وحظر دخول مواطني 7 دول متوسطية وإفريقية إلى أمريكا، التوجه الذي عدّه الخبراء بمثابة خطأ جسيما في الاستراتيجية الأمريكية حيث أفسح المجال للقوى المنافسة للاستحواذ على حصة النفوذ الأمريكي في القارة.
وعلى مدار ما يقترب من العامين، لم تشكل إدارة الرئيس بايدن تغيرا جوهريا عن فترة سلفه، كما لم يقم بأي زيارة إلى أي دولة إفريقية حتى الآن باستثناء زيارته لمصر في قمة المناخ الأخيرة، ما ترك شعورا لدى الأفارقة بأنهم لازالوا على الهامش بالنسبة للبيت الأبيض.
استراتيجية جديدة
لكن خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي الحالي آنتوني بلينكن للقارة في أغسطس/ آب الماضي، أعلنت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة التي احتلت فيها إفريقيا مكانة مختلفة. حيث وعدت بعلاقة مثمرة تقوم على الشراكة والتعاون. كما أكدت الاستراتيجية أن إفريقيا تعتبر قوة جيو سياسية لا غنى عنها. كذلك أظهرت أمريكا التزاماتها تجاه القارة، حيث تعهدت بخطة استثمار بـ 11 مليار دولار على مدى خمس سنوات مع عدد من الدول من بينهم 16 دولة إفريقية، بهدف تعزيز الأمن الغذائي وكفاءة سلاسل التوريد في مواجهة الجفاف ومشكلات المناخ إلى جانب تعهدها بالاستثمار في البنية التحتية ودعوتها لإشراك القطاع الخاص وهو بمثابة تطور في الاستجابة الأمريكية للتحديات الإفريقية.
التنافس الدولي
توسع الصراع الدولي على المصالح العسكرية والتجارية والدبلوماسية في الساحة الإفريقية، التي هيمنت عليها الصين منذ بداية القرن الحالي، وأدركت الصين أهمية إفريقيا في استراتيجيتها المستقبلية، خاصة على المستوى الاقتصادي. حيث أرسى منتدى التعاون الصيني الإفريقي “فوكاك” عام 2000، قواعد العلاقة بين بكين وشركائها الأفارقة.
وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الإفريقية رقم قياسي بنحو 261 مليار دولار في 2021، وهو حجم ضخم خاصة بالمقارنة بحجم التجارة الأمريكية مع إفريقيا الذي لا يتعدى 64 مليار دولار.
يأتي ذلك، إلى جانب روسيا التي تٌصنف نفسها كشريك عسكري مع الدول الإفريقية. حيث تعتبر أكبر مورد أسلحة في القارة، وتنتشر قواتها العسكرية من خلال ميليشيا فاجنر (التنظيم العسكري الذي نشرته روسيا في إفريقيا لوقف تمدد الجماعات المتطرفة) في عدد من الدول الإفريقية كما في موزمبيق وليبيا وإفريقيا الوسطى وكثير من دول غرب إفريقيا. إلى جانب العديد من القوى الإقليمية البارزة لا سيما تركيا التي لعبت دورا حاسما في الحرب الأهلية في إثيوبيا وليبيا من خلال نشر درونز “بيرقدار”.
استياء إفريقي
وهذا السباق الصيني الروسي أتى ويأتي في ظل شعور القادة الأفارقة لسنوات عن إحباطهم من استبعادهم من المناقشات حول الشئون العالمية لا سيما أزمة فيروس كورونا وأزمة الأمن الغذائي العالمية، بل أن هذا الاستياء لم يستثن الإدارة الأمريكية الحالية بل امتد اليها، إذ لم يشر الرئيس بايدن إلى أي اهتمام خاص بإفريقيا، حيث التقى حتى الآن بعدد محدود من رؤساء الدول الإفريقية، كما لم يحدد البيت الأبيض أي زيارة رئاسية إلى إفريقيا حتى الوقت الراهن، وهي ركيزة تقليدية للعلاقة بين الولايات المتحدة والقارة، بل وحتى فى القمة لم تعلن الإدارة الأمريكية عن لقاءات ثنائية حتى الآن.
وصرحت موريثي موتيجا، مديرة قسم إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية crisis group: “لقد اعتادت الولايات المتحدة على النظر إلى إفريقيا على أنها مشكلة يجب حلها.. لكن منافسيها ينظرون إلى إفريقيا على أنها مكان للفرص، وهذا هو سبب تقدمهم”.
أجندة القمة والبيئة المحيطة
يبدو أن الولايات المتحدة تحاول تدارك أخطاءها، حيث أعلنت أجندة تتضمن التحديات الراهنة للدول الإفريقية، مثل تعزيز السلام والأمن والحكم الرشيد، ودعم وتعزيز التعليم والقيادة الشبابية.
وبالطبع فإن هذا التدارك يدفعه ويحفزه انتباه الولايات المتحدة لعدد من العوامل المحيطة ذات الحيوية والتأثير الكبير وبالأخص الاقتصاد.
إذ تدرك الولايات المتحدة أهمية الآلية الاقتصادية كأحد أدوات السياسة الخارجية مع الدول الإفريقية”، هذا في وقت يبلغ حجم الدين العام لإفريقيا نحو 546 مليار دولار، كما تتوسع الصين إفريقيا، سواء بالمشاريع أو المساعدات، مما يركز حضور بكين في القارة.
فانتبهت أمريكا، ووضعت المدخل الاقتصادي أولوية في إعادة تفعيل علاقتها بالقارة، وأعلنت قبيل القمة عن جهودها لدفع الاتحاد الإفريقي داخل مجموعة العشرين، كما أكد البيت الأبيض إنه سيستخدم القمة لتنشيط المبادرات الأمريكية القديمة مثل قانون فرص النمو في إفريقيا.
وتشكل افريقيا مصدراً للمواد الخام، منها الكوبالت والليثيوم الضروريين لصناعة السيارات الكهربائية سريعة التوسع في أمريكا.
وللإلمام السريع بالبيئة المحيطة التي تعقد فيها القمة من الضفة الإفريقية هنا بعض الملامح واللمحات السريعة.
في تقريرها لعام 2021، صنفت منظمة فريدوم هاوس 8 بلدان فقط في إفريقيا جنوب الصحراء على أنها ديمقراطية، وفي الوقت نفسه، ارتفع عدد البلدان الإفريقية غير الديمقراطية من 14 دولة في 2008 إلى 20 دولة عام 2021، نتيجة ممارسات قمع جماعات المعارضة. وتأجيل الانتخابات، وإلغاء قيود الفترة الرئاسية، وإساءة استخدام حقوق الإنسان للحفاظ على السلطة. ويقود هذا الاتجاه المتنامي، التراجع الديمقراطي في القارة. كما تجلى عدم الاستقرار السياسي في إثيوبيا وموزمبيق ونيجيريا، والانقلابات العسكرية المتكررة في غرب إفريقيا (مالي، بوركينافاسو، غينيا).
كما تواجه إفريقيا تهديدات صحية كبيرة، ووفقًا لتقارير برنامج الأمم المتحدة المشترك لفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (UNAIDS)، تضم منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ثلثي الإجمالي العالمي للإصابات بفيروس الإيدز في العالم. وأشارت التقديرات إلى أن فيروس نقص المناعة البشرية أصاب نحو 43.8 مليون شخص بحلول نهاية عام 2021. إلى جانب التحديات المتعلقة بفيروس كورونا حتى الآن، قامت القارة بتطعيم 17% فقط من سكانها بشكل كامل مقارنة بنسبة تطعيم بلغت 60% في جميع أنحاء العالم.
ووفقا لأحدث التقارير عن منظمة الفاو في 2022، يعاني 346 مليون شخص في إفريقيا أزمة في الأمن الغذائي، أي أن هناك واحد على الأقل من كل خمسة أفارقة يواجه انعدام الأمن الغذائي، ويواجه أكثر من 80 مليون شخص في منطقة شرق إفريقيا وحدها نقص الغذاء لا سيما في المناطق المتضررة من الجفاف في إثيوبيا وكينيا والصومال بما يتضمن نحو 7 ملايين طفل يعانون من سوء التغذية.
ويكشف تقرير حالة المناخ في إفريقيا 2021 عن سوء أنماط هطول الأمطار، واختفاء الأنهار الجليدية، وتقلص البحيرات الرئيسية، وصرح الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) بيتيري تالاس: “تُظهر الأزمة المتفاقمة والمجاعة التي تلوح في الأفق في منطقة القرن الإفريقي المتضررة بالجفاف كيف يمكن لتغير المناخ أن يؤدي إلى تفاقم الصدمات المائية، مما يهدد حياة مئات الآلاف من الناس ويزعزع استقرار المجتمعات والبلدان والمناطق بأكملها”. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يؤثر الإجهاد المائي المرتفع على حوالي 250 مليون شخص في القارة.
نتائج القمة
في ظل هذه التشكيلة من العوامل البنيوية المحيطة والمعطيات التي تشي بها القمة الأمريكية الإفريقية، تقول الخبيرة في الشأن الإفريقي الدكتورة أماني الطويل، إنه لا يمكن الحديث عن أثر للقمة المنعقدة بأمريكا قبل تفعيل السياسات الخاصة بها. بمعنى أن هناك انتظارا لتحقق التعهد الأمريكي في القمة بتمويل 55 مليار دولار للقارة الإفريقية. بجانب التعهدات بشأن انضمام الاتحاد الإفريقي لمجموعة العشرين.
وأضافت الطويل أن هذه القمة لن تكشف عن نتائجها قبل خمس سنوات على الأقل خصوصا أن القمة الأمريكية الإفريقية التي عقدت في 2014 لم تحقق نجاحات ملموسة. هذا على الرغم من أن التموضع الأمريكي الآن في إفريقيا يبدو جادا لكن قياس أثر القمة يحتاج إلى بعض الوقت.
الرئيس جو بايدن قال خلال كلمته في القمة: “نعمل مع إفريقيا لتعزيز الحكومات الرشيدة، وعلى إطلاق الشراكات مع إفريقيا. وسندعم منطقة التجارة الحرة الإفريقية. إن الولايات المتحدة عملت مع الاتحاد الإفريقي لتعزيز الديمقراطية والمبادئ الجوهرية التي توحد الشعوب، ونسعى لاستثمار 350 مليون دولار لدعم الاقتصاد الرقمي في القارة، وقد تسهم هذه الأجندة في حشد الزخم الإفريقي نحو واشنطن”.
تشير بعض التحليلات إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية ربما تكون نقطة بداية لنظام عالمي جديد، ذلك على خلفية مواجهات بين القوى العظمى لتحقيق مصالحها، وهو الوضع الذي بدوره يخدم الدول النامية لاسيما إفريقيا. حيث يتيح العديد من الفرص ويسمح لها بحرية الاختيار وتحقيق رغباتها والترويج لنفسها كساحة دولية مهمة على الصعيد الاستراتيجي والاقتصادي والعسكري.