أمضيت دقائق ليست بالقليلة محاولا فهم العبارة التالية “نساء حلال فيها الأكل يا دكتور”.
كُتبت العبارة من قبل شخص يلحق باسمه صفة “الشيخ”، تعليقا على منشور لطبيب يحتفي بولادة ثلاثة توائم، جميعهم أولاد، من قبل أمّ لا يتجاوز عمرها 16 عاما!
اقرأ أيضا.. حضانة الإسكندرية: قصة “تعذيب” معلن
بدت ألفاظ الاحتفاء، بل وربما الفخر، جلية في منشور الطبيب “مش الفكرة إنها ولدت ثلاثة، الفكرة إن الأم عندها 16 سنة”، ولا يدع الطبيب سبيلا للشك في احتفاءه بـ”الواقعة” فيضيف: “الصعايدة غير”، مع علامتين لسهمين يتجهان للأعلى.
لكني كنت لا أزال أمام العبارة الأولى، عاجزا عن استيعاب كل تلك المعلومات مرة واحدة، لم أفهم بعد، ما معنى عبارة “حلال فيها الأكل”.
ثم لم ألبث أن قرأت رد الطبيب على الشيخ: “هي وعاء.. معلمتش إنجاز، الرك ع الراجل، حلال فيه الأكل”.
نعم، قال “وعاء”، لم يكن يقول “دعاء” مثلا بما أنه يكلم “شيخا”. بل قالها وقصدها، وشرحها ببقية عبارته، مبينا بذلك أنه حين قال “الصعايدة غير”، لم يكن حتى يشيد بقوة الأم متجاهلا مأساة الإنجاب في هذه السن الصغيرة، لا حتى ذلك لم يقصده، بل كان يشيد بالزوج، الذي لا نعرف سنه، يشيد به لأن “الرك ع الراجل”، أما الأم فهي مجرد “وعاء”. ولذلك فإن الرجل، الوحيد المهم هنا، هو الذي في حقيقة الأمر، “حلال فيه الأكل”.
آها. هكذا فهمت متأخرا، متمنيا أن يشفع لي في بطء فهمي هذه الكوارث المتلاحقة في منشور لا يتجاوز عدة أسطر. عبارة “حلال فيها الأكل” الغامضة صارت واضحة الآن. إنها عبارة تكمل ما أجاب به الطبيب بأن الأم مجرد “وعاء”. صحيح إن عبارة “الشيخ” كانت “تشيد” بالأم قبل أن يسلبها رد الطبيب أي “مجد”. صحيح أن عبارة الشيخ كانت على الأقل تنظر إلى الأم ككائن حي يحتاج إلى أن يأكل، وبالتالي فإنها، بما أنها أنجبت ثلاثة ذكور في بطن واحدة، أصبح “حلال فيها الأكل”. بينما يهبط بها رد الطبيب إلى مرتبة الجماد. إلا أنك لا يمكن أن تتجاوز عن الإحساس الذي تثيره فيك تلك العبارات، احساس له رائحة الحظيرة والمذبح والمسلخ، حيث ثمة كائنات محبوسة بعضها “حلال فيه الأكل” وبعضها بالتأكيد، بما أن الشيء يستدعي نقيضه “حرام فيه الأكل”. وبين تقييم حق هذه “الإنسانة” في “الأكل”، يعلو سعرها وينخفض في بورصة تزويج القاصرات.
إثر ذلك، قدمت إحدى الصفحات الحقوقية الشهيرة بلاغا عبر فيسبوك إلى نقابة الأطباء، متسائلة عن “الآداب والمهنية اللي تخلي “دكتور” يكتب كده عن طفلة عمرها 16 سنة؟”
لكننا نعلم أن بلاغا مثل هذا، حتى لو تم تقديمه رسميا، وليس فحسب عن طريق الفيسبوك، لن يؤثر. فحتى القانون الحالي يكافح توثيق زواج القاصرات من دون تجريم الزواج نفسه، وفي أفضل الأحوال يمكن توجيه اتهامات تزوير في محررات رسمية في حالة التلاعب المثبت بسن الزوجة (أو الزوج في حالات نادرة). لكن ما يجري على نطاق واسع، هو إتمام الزواج عرفيا، ثم الانتظار إلى بلوغ العروسين سن 18 عاما لتوثيق الزواج رسميا من دون مواجهة أي عواقب قانونية، وبالطبع، في تلك الحالات، وبالإضافة إلى جريمة زواج القاصر نفسها، فإن أطفال هذه الزيجات غير الموثقة يواجهون الكثير من العوائق، أبسطها صعوبات التسجيل الرسمي واستخراج الوثائق الحكومية والحصول على التطعيمات اللازمة.
وصحيح أن مشروعا لقانون جديد، قدمته لمجلس النواب النائبة إيناس عبد الحليم، يتضمن تجريم زواج القاصرات نفسه وتغليظ عقوبات كل ما يتعلق به، لتصل إلى السجن ثلاث وخمس سنوات لكل من ساهم في مثل هذا الزواج أو شهد بمعلومات غير صحيحة لإتمامه، بما فيه المأذون أو الولي أو الشهود أو الزوج نفسه، إلا أننا نعلم، كما تقول عديد الشواهد، أن المشكلة أكبر كثيرا من مشروع قانون، نأمل أن يتحول إلى قانون.
فمثلا، على فيسبوك يكتب طبيب آخر، تعقيبا على دكتور “الوعاء”. قائلا إن “16 سنة آنسة مش طفلة، وما يجراش حاجة لما تتجوز وتخلف”. إذا كنت تعتقد أن كلماته جوبهت بالرفض والغضب فأنت مخطيء، لم يكن هناك سوى حفنة من المعترضين على هذا الكلام، في مقابل آلاف المهللين والمؤيدين. هذا التأييد الكاسح لعملية “الاغتصاب المقنن”، وهو الوصف الدارج لتزويح القاصرات في كل العالم. لا يعني سوى تأكيد لحقيقة نعرفها جميعا، وهي انتشار زواج القاصرات على ناطق شاسع. ليس فقط في الريف، بل حتى في ضواحي المدن والعشوائيات.
إنها حقائق يمكن أن تخبرها في حياتك اليومية، أو تعرفها من أطباء النساء والولادة، في تقرير لليونيسف، والمجلس القومي للأمومة والطفولة، يرد أن واحدة من كل عشر فتيات مصريات بين سن 15 و19 عاما إما متزوجة أو سبق لها الزواج، نصفهن بين سن 15 و17 عاما. حتى لو آمن البعض بأن النسبة الحقيقية قد تكون أكبر، فإن هذه النسب، في بلد تعداده يزيد عن مئة مليون نسمة، تترجم إلى أرقام مخيفة. وإذا كان حتى طبيب الولادة، لا يرى في زواج الطفلة القاصرة عيبا، ويتبع ذلك بوصفها بالوعاء. وإذا كان ذلك الطبيب المتخرج من كلية “قمة” يعد من “كريمة المجتمع” تعليميا وثقافيا. فإن تغليظ ألف قانون لن يحل المشكلة غدا، تماما كما هو الحال مع ختان الإناث. لكننا نحتاج القانون رغم ذلك، على الأقل كي لا نرى المجرمين يتباهون بجرائمهم!