كشفت مجريات القمة الأمريكية الإفريقية المنتهية في واشنطن قبل ساعات، عن تموضع أمريكي جديد في القارة الإفريقية، وهو تموضع هدفه الأساسي رفع تكلفة كل من الوجود الصيني والروسي في إفريقيا، ومحاولة لإعاقة مشروع الهيمنة الصينية على العالم من خلال مشروع الحزام والطريق وذلك كله بهدف استراتيجي أمريكي رئيسي هو مقاومة صعود نظام دولي متعدد الأقطاب ومحاولة استمرار قيادة أمريكية للعالم.

اقرأ أيضا.. قراءة حول الاتفاق الإطاري السوداني

التوجهات الأمريكية الجديدة مؤسسة على إدراك متأخر أن إفريقيا تحدث الفرق، عبارة وردت على لسان أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي لخصت الحالة برمتها، ذلك أن الصين امتلكت هذا الإدراك منذ تسعينيات القرن الماضي فتوجهت إلى إفريقيا وشكلت الموارد الإفريقية وخاصة النفط معطى أساسي في تطور اقتصادها وتحقيق نسب نمو عالية ومتوالية به، بما جعلها من أقوى الاقتصادات العالمية.

أما روسيا التي غيرت عقيدتها العسكرية في عام 2015 وطورتها في 2022 أحدثت اختراقا أساسيا في إفريقيا فهي المورد التسليحي الأول للأفارقة، ووفر هذا الانتشار لقوات شركة فاجنر الأمنية بيئة آمنة للاستثمارات الروسية في إفريقيا المضطربة تقليديا، فنشطت الاستثمارات المباشرة الروسية في عدد من الدول الإفريقية مثل السودان على سبيل لا الحصر التي تهتم فيها روسيا بالتعدين.

وفي الأخير يبدو أن حجم العوائد المالية المجزية لشركة فاجنر قد ساهم بشكل مباشر في فتح الباب أمام جيل ثانٍ من الشركات العسكرية الروسية الخاصة، حيث بدأت شركتان جديدتين هما باتريوت Patriot وسيو Sew للخدمات الأمنية عملياتها في إفريقيا منذ عام 2018.

قوات فاجنر في أفريقيا الوسطى
قوات فاجنر في أفريقيا الوسطى

وباتت موسكو المورد الرئيسَ للتكنولوجيا العسكرية للدول الإفريقية، حيث تجاوزت مبيعات الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت النسبة الأكبر لمبيعات الأسلحة الروسية إلى الجزائر (58.64%) ثم مصر (25.96%)، فأوغندا (5.17%)، والسودان (2.63 %) وأنجولا (2.11%)، وتشير الإحصائيات ألى أن أكبر أربعة موردي أسلحة لإفريقيا في عام 2017، روسيا في المرتبة الأولى بنسبة 37.6% تليها الولايات المتحدة 16.3% وفرنسا 14.6% ثم الصين 9.2% وتطورت مبيعات الأسلحة الروسية للدول الإفريقية خلال السنوات اللاحقة.

في المقابل فإن المقاربات الأمريكية السابقة علي قمة واشنطن الأخيرة يمكن وصفها بالمقاربات التي تلبي الأغراض الأمريكية أكثر ما تلبي المتطلبات الإفريقية، كما أنها خضعت فيما مضى لاتجاهات ومزاج الإدارة أكثر منها توجه استراتيجي ثابت، حيث إن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت إفريقيا منطقة ذات أهمية استراتيجية لها منذ عام 2002 ولكن أدواتها في التعامل مع هذه الإهمية لم تتجاوز اتفاقية أجوا للشراكة التجارية مع إفريقيا المعلنة عام 2000، وتكوين القيادة الإفريقية في الجيش الأمريكي “أفريكوم” عام 2006.

وكلاهما لم يحققا النجاح المرجو فحجم التجارة الأمريكية مع الأفارقة عام 2021 هي بنسبة واحد لـ15 لصالح الصين، كما أن أفريكوم فشلت أن يكون لها مقرا على الأراضي الإفريقية فأتخذت من ألمانيا مقرا لها.

في هذا السياق انعقدت القمة الأمريكية الإفريقية الأولى عام 2014 تحت مظلة ولاية باراك أوباما ولكن الإدارة الجمهورية لم تستمر على نهج الإدارة الديمقراطية فهمش دونالد ترامب إفريقيا في سياساته، كما تعالى عنصريا على الأفارقة في بعض خطاباته، والأدهى أنه اتخذ قرارا بالانسحاب العسكري من أكثر الدول الإفريقية هشاشة في معركتها ضد الإرهاب وهي الصومال، ما أسفر عن سيطرة تنظيم الشباب على معظم الأرياف الصومالية وهو ميزان لم يعتدل لصالح الحكومة إلا مع تراجع بايدن عن قرار ترامب وإعادة الوجود العسكري الأمريكي إلى الصومال.

هذه المرة فإن التموضع الأمريكي في إفريقيا يبدو جادا لإن قوة الدفع وراءه ليس الإدارة الديمقراطية فقط ولكن أيضا المجمع الصناعي العسكري الممثل في البنتاجون بشكل رئيس، ذلك أن المتابع لموقع البنتاجون الإلكتروني يكتشف حجم الاهتمام بهذه القمة والتركيز عليها والتعبير عن أهميتها على لسان المسئوليين العسكريين ضد التغول الصيني في إفريقيا، كما أن كلمة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في اليوم الأول للقمة الأمريكية الثانية أشارت بشكل واضح إلى الصين كمهدد للاستقرار الإفريقي حسب زعمه.

تزايد النفوذ الصيني في إفريقيا بشكل كبير السنوات الماضية
تزايد النفوذ الصيني في إفريقيا بشكل كبير السنوات الماضية

وبرزت الجدية الأمريكية في التفاعل مع القارة الإفريقية في اتخاذ خطوة تدشين الاستراتيجية الأمريكية لدول القارة الزنجية أي جنوب القارة في أغسطس/آب الماضي، وهي الاستراتيجية التي أطلقها أنتوني بلينكن في جنوب إفريقيا وتعتمد على أربعة محاور منها دعم المجتمعات المفتوحة المؤسسة ديمقراطيا، ودعم الشراكة التجارية، والمساعدة في تطوير الأنظمة الصحية وتداعيات تطور المناخ ويتوج ذلك كله مساعدة الدول الإفريقية في مجالات محاربة الإرهاب.

ولعل أهم أدوات الاستراتيجية الأمريكية في هذه المرحلة هي الاستماع إلى الصوت الإفريقي لتحديد السياسيات الأمريكية التفصيلية إزاء إفريقيا، وهو أمر افتقدته واشنطن وحرصت عليه بكين منذ عام 2000 حينما بدأت في تدشين منظومة القمم الصينية مع إفريقيا “الفوكاك” والتي تعقد كل أربعة سنوات.

ومن هذه الزاوية نستطيع تفسير أن يوم القمة الأمريكية الإفريقية الأول كان مع الشباب ومنظمات المجتمع المدني، بما يعني وجود تخطيط أمريكي بمحاولة اختراق النخب غير الرسمية وتكوين بيئة صديقة للتوجهات الأمريكية الجديدة إزاء إفريقيا.

المشهد الإجمالي للتنافس الدولي على إفريقيا كما نتابعه يفرض انتباها إفريقيا لهذه اللحظة، والعمل على الاستفادة منها لصالح القارة وشعوبها وكذلك تقدمها من هنا يكون على النخب الإفريقية الرسمية الحاكمة مسئولية كبرى في صياغة السياسات القطرية من جانب والإقليمية من جانب آخر إزاء حالة من التكالب العالمي على قارتنا.

في هذا السياق فإن ثمة حاجة إلى وضع استراتيجية إفريقية مشتركة وبلورة موقف منسق بين الدول الإفريقية لتحديد الأولويات الإفريقية، وبلورة الآليات المناسبة للتعامل مع حالة التكالب الدولي على إفريقيا وربما يكون من أهم النقاط المقترحة من جانبي هي عدم الانحياز لطرف دولي على حساب طرف آخر بل أن المطلوب أولا هو صياغة توازان دقيق بين كافة الأطراف الدولية يضمن المصالح الإفريقية، كما أنه من المطلوب ثانيا رفض أي محاولة لتمرير عقوبات من أي طرف دولي على أي دولة إفريقية تصيغ توازنا في علاقتها مع الأطراف الدولية، ولعل أهم ماهو مطلوب رفضه حاليا هو اتجاه الكونجرس الأمريكي لفرض عقوبات مع الأطراف الإفريقية المتعاملة مع روسيا.

وقد تكون قضية الديون الإفريقية من أهم القضايا التي يجب صياغة موقف إفريقي موحد فيها، ذلك أن التخلص ولو جزئيا من عبء الديون يمكن أن يصنع فارقا مستقبليا في عافية الاقتصادات الإفريقية، وربما يكون العمل من أجل تخفيض الديون الإفريقية من أولى المهام المطروحة حاليا على القادة الأفارقة خصوصا وأن هذه الديون قد تراكم جزء منها نتيجة المشروطيات الغربية في الضغط من أجل تحول الاقتصادات نحو الخصخصة، وأيضا نتيجة التقاعس عن دعم إفريقيا في عمليات التصنيع المتوسط أو النهائي ليكون للموارد الأولية قيمة اقتصادية مضافة لموازانات الدول الإفريقية، والمفارقة أن الشركات العابرة للجنسية غربية المنشأ بالأساس تحرص على استمرار هذه الحالة، وتساهم بشكل فعال أحيانا في تأجيج الصراعات المحلية بهدف نزح الموارد، ولعل الحالة في شرق الكونغو خير دليل على ما نذهب إليه.

وربما يكون من المهم الإشارة هنا إلى أن إجمالي الديون المستحقة على القطاعين العام والخاص تصل إلى تريليون دولار طبقا لمؤشرات 2021، ومن إجمالي الدين الخارجي للقارة تمتلك دولة جنوب أفريقيا 15% ويشكل حجم الدين في مصر 13%، ونيجيريا 7%، وأنجولا 7%، والمغرب 6%، والسودان 6%، وتونس 4%، وكينيا 4%، وزامبيا 4%.

كما تشير الإحصائيات إلى وجود 10 دول إفريقية يتجاوز حجم ديونها نحو 75% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي جيبوتي وأنجولا وموزمبيق ورواندا والسودان وتونس وزامبيا وسيشيل والرأس الأخضر وموريشوس.

في هذا السياق فإن الاهتمام الإفريقي بنقل التكنولوجيا وتوطينها في إفريقيا من الأهداف التي يجب السعي إليها، كي تحرز الاقتصادات الإفريقية تقدما، ولعل الاهتمام الإفريقي بتعديل مشروطيات وكالة التنمية الأمريكية “يو إس آيد” يكون مهما ذلك أن المساعدات الأمريكية المعلنة لصالح إفريقيا قد تتمخض عن ولادة فأر صغير لاينفع الاقتصادات الإفريقية، في ضوء أنه تم هندسة هذه المساعدات لتكون مصدر فائدة للشركات الأمريكية والموظفين الأمريكين أكثر منها في صالح قطاع الأعمال الإفريقي والعاملين فيه.

إجمالا نقول ياقادة إفريقيا انتبهو وتوحدوا فإن شعوبا فقيرة تتنظر أن ترتفع مستوى معيشتها وأجيالا شابة مؤهلة لصنع الفرق في المستقبل ترنو بأنظارها إليكم في هذه اللحظات فإن أدائكم سيحدد هل كان التنافس الدولي على إفريقيا في صالح القارة وأبنائها أم وبالا عليها وعليهم؟.