نشرت جريدة الوقائع المصرية في عددها رقم 273 تابع (ي) بتاريخ 7 ديسمبر الماضي قرار وزير التنمية المحلية رقم 27 لسنة 2022، متضمنا الأنشطة التجارية التي يلزم للحصول على رخصة لممارستها موافقة الجهات الأمنية على تلك الأنشطة، والذي تضمن 83 نشاطا تجاريا لابد من الحصول على الموافقة الأمنية قبل ممارستها، وإن كنت أرى أن هناك ضرورة لموافقة الأجهزة الأمنية على ممارسة بعض الأنشطة، وخصوصا ما كان منها مرتبطا، أو ذو صلة بما يمس الأمن العام أو الأمن القومي، أو ما يتعلق بتلك المعايير، بما مؤداه أن تكون ممارسة تلك الأنشطة ذات خطورة بمفهوم الأمن بشكل عام، وبالتالي لابد من أن يخضع قرار التصريح بالممارسة للجهات الأمنية حتى تقدر ما يصلح مما يفسد، ولكن أن يشمل هذا القرار أنشطة لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون ذات صلة أو علاقة بالمفاهيم الأمنية أو الاعتبارات ذات الصلة بمفهوم الأمن، فهنا لابد وأن تكون تلك القرارات مشوبة بعيب مخالفة القانون بما فيه المعايير والأسس الدستورية، علاوة على التضييق في الممارسات التجارية.
اقرأ أيضا.. أزمة المهن الحرة والوعاء الضريبي
إذ بمطالعة القرار تبين أنه يشمل المقاهي ومحال تقديم المشروبات، والمكتبات ولأدوات المدرسية ومكاتب المقاولات للخدمات الإنشائية والبنائية، ومحال بيع التقاوي والأسمدة الزراعية، ومحال تصفيف الشعر الرجالي والحريمي، ومحال تصليح الأحذية، والملاهي والحمامات العمومية، إضافة إلى ما اشتمله القرار من أنشطة أرى أنها تشمل غالبية إن لم يكن كل الأنشطة التجارية الحياتية، ما يصلح منها أن يكون له صلة أو علاقة بمفهوم الأمن، أو ما لا يمكن أن يتعلق أو يمس المفاهيم الأمنية من قريب أو بعيد. إذن فالعلاقة لا يمكن أن تكون متوافرة بشأن غالبية الأنشطة التي اشتمل عليها القرار الوزاري، فما هي العلة من صدور هذا القرار بكل هذه الأنشطة؟
إذا ما أضفنا على ذلك القرار ما صدر من قرار في نفس التوقيت بزيادة الرسوم فيما يتعلق بالتعامل مع السجل التجاري، فيما هو متعلق بالقيد أو التجديد أو حتى الحصول على صور من المستخرجات، ولم تكن هذه الزيادة بسيطة، ولكنها متضاعفة بشكل كبير، فهل هناك علاقة ما بين القرارين، حيث إن غالبية الأنشطة المذكورة بالقرار الخاص بالموافقة الأمنية أنشطة بسيطة، وكان من بينها أنشطة فردية مثل محال إصلاح الأحذية أو الحمامات العمومية، وهذا المنطق هو ما يتفق مع ما جاء بالمادة الثانية من القانون رقم 154 لسنة 2019 بشأن المحال العامة، إذ إنها قد اشترطت على ضرورة استيفاء الاشتراطات الواردة بالقانون على حسب ما تنص عليه اللائحة التنفيذية، كما اشترطت المادة الثالثة من ذلك القانون أنه يجب على الأنشطة التجارية التي لم تستصدر ترخيصا أن تستخرج التراخيص اللازمة لممارسة أنشطتها، لكن لا أعتقد أن ذلك المبرر كاف حتى ولو كانت هناك رغبة في إخضاع الناس لتلك الرسوم الجديدة المبالغ فيها بشكل كبير. ويدعم هذا التوجه ما أدلى به النائب البرلماني عمرو درويش أمين سر لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب، وذلك حسب ما نشره موقع الدستور بتاريخ الأحد 11 ديسمبر من أن هذه الأنشطة غير المدرجة تمثل اقتصادا غير مرئي للدولة المصرية، فإقرار القانون جاء لإدراج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الحكومي، موضحا أن القانون يشمل العديد من التيسيرات والتسهيلات الخاصة بإنهاء الإجراءات الخاصة بالتراخيص ومزاولة النشاط وأن ذلك “عمل إضافة كبيرة جدا”.
وإذا كان الأمن العام هو مصطلحٌ يُشير إلى كلّ ما يتعلق بحفظ مظاهر الاستقرار والسلامة العامة في أي بلدٍ في العالم، وينطوي تحت هذا المصطلح، سلامة المواطنين من أشكال الفساد الاقتصادي، والتطرف الديني، والخطر العسكري، والتهديد من الجهات الخارجية، إلى جانب حماية الاستقرار الداخلي، وحفظه من أي محاولاتٍ لإحداث الاضطرابات أو الفِتن الطائفية، بالإضافة إلى حفظ المؤسسات العامة في الدولة، وضمان انضباط كل المواطنين بالأنظمة والقوانين، ووضع الجميع تحت طائلة المسؤولية، ويُعتبر مفهوم الأمن العام مفهوما عريضا، يتعلق بأدنى تفصيلٍ يخص أمن الدولة، والمواطنين، والأرض والحدود أيضا. وإذا كانت هناك علاقة ما بين المفاهيم الأمنية والأنشطة ذات البعد الاقتصادي، فلابد من الأساس أن تكون هذه العلاقة مؤسسة على أساس أن الأمن الاقتصادي يجب أن يضمن تدابير الحماية والضمان التي تؤهل الإنسان للحصول على احتياجاته الأساسية من المأكل والمسكن والملبس والعلاج خاصة في الظروف التي يواجه فيها كارثة طبيعية أو ضائقة اقتصادية وضمان الحد الأدنى لمستوى المعيشة، وهذه التدابير الاقتصادية هي التي تصب في النهاية في خلق “الأمان الاقتصادي للناس” الذي ينطوي على بُعد نفسي للإنسان إضافة للبعد المادي الذي يوفره الأمن الاقتصادي.
أرى أنه إذا كانت هناك ضرورة في أن تلتزم كافة المنشآت أو الأعمال التجارية بالقيد في السجل التجاري حتى تكون تحت أعين الدولة، أن يصحب ذلك أمران: أولهما ألا تخضع كل هذه الأنشطة للموافقات الأمنية، حيث لا ضرورة لذلك، إلا ما كان منها ماسا بالمصلحة العامة أو بالأمن العام، كما هو متعارف عليه مثل أنشطة الطباعة والنشر، أو ما كان منها له علاقة بمفهوم الأمن، كمحال بيع الملابس العسكرية أو الأسلحة والذخائر، ومن ناحية ثانية يجب أن تكون الرسوم المقررة للقيد في السجل التجاري أو التجديد أو ما إلى ذلك من أمور متناسبة مع الأنشطة أو بمعنى أدق متناسبة مع ما يتم تقديمه من خدمات، لا أن تكون الزيادة مضاعفة عشرات المرات عما كانت عليه في السابق، فإن المغالاة في الرسوم بشكل غير مبرر وغير متناسب، خصوصا في ظل ظروف معيشية يشتكي من مرارتها الغالبية العظمى من المصريين، سوف يدفع بالبسطاء لممارسة أنشطتهم بطرق مغايرة بحثا عن لقمة العيش التي تؤدي مثل هذه القرارات وغيرها إلى المساس بها بشكل مباشر، وهو الأمر الملاحظ في كافة الأنشطة الحياتية اليومية في الشارع المصري بشكل عام، وهو الأمر الذي يعني إرهاقا متتاليا للمواطنين، وليس من الصحيح عمليا أن تكون القروض التي كبلت السلطة المصرية مدعاة للتضييق على حياة المواطنين من كل الجوانب دون أدنى تحقق من مدى قدرة الموانين على تحمل كل هذه الأعباء.
كل ذلك يجعلني أن أنهي حديثي بما قاله الشاعر / معين بسيسو: يا من يعلمني القراءة والكتابة / يا من يسمنني بأشرعتي وأجنحتي لسكين الرقابة / تحيا الكتابة / تحيا الرقابة / يحيا على فمي الحجر.