منح صندوق النقد الدولي الاقتصاد المصري جرعة مُهدِئة بالموافقة على القرض الجديد بعد مخاض صعب استمر 8 أشهر، لكن في الوقت ذاته تضمن إعلان القرض العديد من النقاط التي تشير لإجراءات بعينها سيضطر واضعو السياسات الاقتصادية بشقيها المالي والنقدي لتنفيذها مستقبلا.
فقد وافق المجلس التنفيذي للصندوق، في وقت متأخر من ليل الجمعة الماضية، على إقراض مصر 3 مليارات دولار، تصرف على دفعات، وجاءت أولها بقيمة 347 مليون دولار، تعادل تقريبا نصف المبلغ الذي توقعه وزير المالية محمد معيط بقيمة “750 مليون دولار”.
اقرأ أيضا.. شريحة ضريبية جديدة على مائدة النواب.. وتوصيات صندوق النقد حاضرة
في بيان الصندوق، توقع أن يسهم المبلغ الذي يوفره في إتاحة تمويل إضافي لصالح مصر على مدار البرنامج بقيمة 14 مليار دولار تقريبًا من شركائها الدوليين والإقليميين، شاملاً موارد تمويلية جديدة من الخليج وشركاء آخرين من خلال عمليات البيع الجارية للأصول المملوكة للدولة وقنوات التمويل التقليدية، بحسب البيان.
كما تأتي الموافقة بعد أن كانت سادت توقعات بعقد البنك المركزي اجتماعا استثنائيا للجنة السياسة النقدية الخمس الماضي، لكن البنك قرر عقد اجتماعه في موعده الطبيعي الخميس المقبل، وهو أهم اجتماع في 2022 بحسب الخبراء. فالخيارات فيه صعبة ما بين تثبيت سعر الفائدة على الإقراض وإرضاء القطاع الخاص المنكمش منذ 24 شهرا، أو رفعها لتحجيم التضخم الذي سجل 18.7% في نوفمبر الماضي في أعلى مستوى منذ 2017.
مشكلات أكبر من الصندوق
المحلل المالي إيهاب سعيد، يقول إن الـ3 مليارات دولار يكفون الاقتصاد المصري لمدة أسبوعين فقط، والشريحة الأولى منها تكفي 3 أيام ونصف، ما يعني أن القصة ليست في قرض الصندوق ولكن في عودة الإقبال الأجنبي على أدوات الدين.
أضاف “سعيد” أن المستثمرين الأجانب في أدوات الدين لن يرضيهم أسعار الفائدة الحالية خاصة في ظل رفع الفائدة على الدولار ما يعني أن البنك المركزي قد يرفع الفائدة في الاجتماع المقبل بنسبة لن تقل عن 2% من أجل عودة الأموال الساخنة مجددًا. والأموال الساخنة هو مسمى يُطلق على الاستثمار غير المباشر أو شراء الأوراق المالية مثل الأسهم أو شهادات الأسهم والسندات وغيرها، وتتسم بخروجها السريع والعنيف في أوقات الأزمات مخلفة ضغطا على الدول المستضيفة لها.
تحدث صندوق النقد الدولي عن المتطلبات التي يحتاجها الاقتصاد المصري في الفترة المقبلة، التي في مقدمتها تحول دائم إلى نظام سعر صرف مرن، وأن تستهدف السياسة النقدية خفض التضخم تدريجيًا بما يتماشى مع أهداف البنك المركزي، الذي سيتوقف عن دعم خطط الإقراض.
الصندوق شدد على ضبط أوضاع المالية العامة وإدارة الديون لضمان المسار التنازلي لمعدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي واحتواء الاحتياجات التمويلية الإجمالية، مع زيادة الإنفاق الاجتماعي، وإدارة المشاريع الاستثمارية الوطنية بطريقة تتماشى مع الاستدامة الخارجية والاستقرار الاقتصادي، وإصلاحات هيكلية واسعة النطاق وتسهيل النمو الذي يقوده القطاع الخاص، وتعزيز الحوكمة والشفافية في القطاع العام.
إذ لا تزال المؤسسات الدولية تعتقد بأن الحل للجنيه المصري هو سعر صرف مرن، حتى أن بنك الاستثمار الأمريكي “جولدمان ساكس” يقول إن سعر الدولار أمام الجنيه مبالغ فيه، لكن المشكلة في نقص السيولة بالقطاع النقدي، بسبب ضعف ميزان المدفوعات، وخروج رؤوس الأموال على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أدى لتآكل السيولة بالعملة الأجنبية بالقطاع المصرفي، في الوقت نفسه أصبحت المدفوعات بالعملة الأجنبية أكبر من الحصيلة المتدفقة للداخل.
سعر الدولار بعد الدفعة الأولى
توقع الدكتور أحمد العطيفي، المحلل المالي، تذبذب سعر صرف الدولار الرسمي ما بين صعود وهبوط حتى نهاية يناير المقبل بعد إقرار قرض صندوق النقد الدولي، مع استمرار تخارج الدولة من الاقتصاد وبيع العديد من الأصول لشركات متعددة الجنسيات، وطرح شركات كبيره خلال الربع الأول من 2023.
أضاف أن أهم ما أعلن عنه صندوق النقد الدولي هو وجود 14 مليار دولار سيتم توفيرها من تخارج الدولة من بعض الأصول ومشاركة القطاع الخاص وجذب استثمار أجنبي، ورجح هبوط الدولار في السوق الموازية من المستويات غير المنطقية الحالية.
ورجح العطيفي استمرار التضخم في الصعود حتى نهاية يناير وانخفاض وتيرته من فبراير/شباط ومارس/آذار، مع بداية حدوث انفراجة للتجار والإفراج عن السلع ومستلزمات الإنتاج خلال يناير/كانون الثاني، واستهداف المؤشر الرئيسي للبورصة “إيجي إكس 30” مستوى 18 ألف نقطة في الربع الأول من 2023.
ضغوط قوية في 2023
يواجه الاقتصاد المصري تحديًا آخر يتمثل في تحويلات الشركات الأجنبية لأرباحها إلى خارج البلاد خلال الربع الأول من العام المقبل، وهو تحويل يحدث بالدولار ما يخلق طلبا على العملة، لكن “العطيفي” يقول إنه لن يكون ذو تأثير كبير على سعر الصرف.
من المقرر أن تسدد مصر 9.3 مليار دولار في النصف الأول من 2023، لكن خبراء يقولون إن الوضع سيكون أفضل حينها مع استقرار العملة، خاصة أن مصر وفرت خلال الشهر الحالي 1.5 مليار دولار لسداد التزامات دولية، بجانب 5.3 مليار دولار بالبنوك لفتح اعتمادات مستندية بداية من منتصف نوفمبر، ورغم ذلك ارتفع الاحتياطي النقدي بقيمة 390 مليون دولار.
يقول العطيفي إن الثلاثة أشهر الأولى من العام المقبل ستكون صعبة، ويجب الحصول على تمويل سريع من جهات أخرى يساهم في استقرار حجم الطلب على العملة الصعبة، وهو امر تعمل عليه وزارة المالية حالياً إذ تعمل على استغلال جميع أدوات الدين الخارجية المتاحة. ذلك من خلال طرح سندات مستدامة للمرة الأولى في تاريخها، بمبلغ نصف مليار دولار في النصف الأول من العام 2023. بجانب طرح أول سندات “باندا” في الفترة ذاتها بقيمة قدرها نصف مليار دولار، وسندات خضراء بحوالي 500 مليون دولار.
يطالب العطيفي بالاستفادة من الدرس الصعب الذي مر به الاقتصاد المحلي في تشجيع الصناعة والزراعة المحلية ومنح حوافز للاستثمار الأجنبي المباشر، وهو أمر أكده إيهاب سعيد أيضًا بالتأكيد على أن أهم نقطة ليس القروض ولكن: كيف يتم إنفاق المبالغ التي نحصل عليها؟.
دائرة جهنمية.. ما الحلول؟
الدكتور جودة عبدالخالق، وزير التضامن الاجتماعي الأسبق، يقول إن الاتفاق الحالي “2022” والسابق مع الصندوق “2016” يظهر أن الاقتصاد في المربع الأول مرة أخرى مع اللجوء ثانية للصندوق، وعلى مصر إعادة النظر في بعض السياسات؛ لتحاشي تلك “الدائرة الجهنمية”.
حصلت مصر على العديد من قروض صندوق النقد الدولي منذ انضمامها لعضويته في ديسمبر 1945، أولها عامي 1977/ 1978 بعهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بقيمة 186 مليون دولار، ثم عامي 1991- 1993 في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك بقيمة 375 مليون دولار، ثم بعدها بخمسة سنوات طلبت 434.4 مليون دولار لكن تم إلغاؤها.
بعد ثورة يناير 2011، تزايد تعاون مصر مع الصندوق، ففي 2012 طلبت 4.7 مليار دولار ولم تكتمل المفاوضات، وفي 2016، تبنت مصر برنامجًا إصلاحيًا اقتصاديًا مدته 3 سنوات عقب الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، وفي 2020 حصلت على 2.77 مليار دولار للمساهمة في مواجهة تداعيات أزمة جائحة كورونا، وبعدها بعام واحد حصلت مصر على قرض بقيمة 5.4 مليار دولار عبر برنامج الاستعداد الائتماني، وأخيرًا قرض بقيمة 3 مليارات دولار في 2022.
طالب عبدالخالق بفض الاشتباك بين الجنيه والدولار فأمريكا ليست أهم شريك لمصر؛ سواء بمعيار الاستثمار أو القروض أو المساعدات أو السياحة أو الدين، بجانب عدم ترك رؤوس الأموال الساخنة “طليقة تخرج وتدخل كيفما تشاء”، بعد خروج أكثر من 20 مليار دولار أموال ساخنة في مارس الماضي.
الدكتور أحمد جلال، وزير المالية الأسبق، أكد على النقاط سالفة الذكر وقال إن الاقتراض ليس شيئًا سيئًا لو تم استخدامه وإداراته بشكل جيد، لكن الدين الخارجي أصبح مقلقًا، وهناك فجوة حالية بين العائدات والاستثمارات، ولابد من استخدامه وإدارته بشكل ذكي.
على مستوى الحلول المطلوبة، دعا جلال، خلال مؤتمر نظمته كلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية الأحد الماضي، الحكومة بوضع حلول سريعة وسهلة مع ضرورة النظر لمعضلة الصادرات المصرية، بجانب وضع سياسات أكثر جاذبية لتشجيع المستثمرين على التصدير، وتحسين بيئة العمل والاستماع للقطاع الخاص والتوازن بين الإنفاق والإدخار.