كلمتان خفيفتان على اللسان زينتا حائطًا في قلب القاهرة، وظلتا هناك إلى أن تقرر إزالة كل مخلفات ثورة يناير، وتعقب آثارها في الواقع، ومحو أثرها المنقوش على الحيطان، كانت واحدة منها تقول: «سقط النظام»، لم يكن هناك شيء أبعد عن الحقيقة قدر هاتين الكلمتين.
كان قرص الشمس يبدو كأنه سقط في أيدي ثوار يناير بعد 18 يومًا في الميادين، وكانت الأماني قد أغرت فناني الجرافيتي بابتداع عشرات الرسوم التي وثقت أحداث الثورة، وروجت شعاراتها، واحد من حوائط وسط البلد حمل شعار «سقط النظام»، وهي أمنية يقف عقبة قي طريقها زمانٌ طويل (بطول تاريخ مصر) مليء بالاستبداد والطغيان والديكتاتورية، ذلك التاريخ الذي يجعل هاتين الكلمتين تشكلان مطلبًا يبدو بعيد المنال.
**
مصر لها تاريخ طويل مع تجبر الحكام واستبدادهم، والمصريون لهم تعريف جامع لمعاني ومفاهيم متعددة، حيث تتباين مفاهيم الطغيان والاستبداد والديكتاتورية في علوم السياسة، وإن اشتركت في بعض السمات، واتحدت في بعض الخصائص، لكن الحكمة الشعبية المصرية صاغتها كلها في مسمى واحد فيما يشبه المختصر المفيد فأسمتها «الفرعنة».
يقول مثلنا الدارج: (يا فرعون إيه فرعنك؟، قال: ما لقيتش حد يلمني)، مثلٌ يتردد على ألسنتنا كثيرًا، يعبر عن أوجاعنا المقيمة، حين أسمع هذا المثل، أو تلك الأمثولة، كنتُ أسأل نفسي:
هل هي حكمة الشعب المصري، أم هي مأساته؟ أم هما معًا؟
**
يسميها كتاب السياسة وعلماؤها «الفرعونية السياسية»، يقصدون بها نظام الحكم الاستبدادي، من ناحيتي أفضل أن أطلق عليها مسمى «الفرعنة» الذي يبدو عاميًا، لكنه أصدق في الوصف، وأدق في التوصيف البادي في المثل الشعبي.
يتفرعن حكامنا ما أن يستقر الواحد منهم على دكة الحكم، فيصير رب العائلة، الأخ الكبير، المتفرد بالحكم، المنفرد في صفاته، يشبه نصف إله، يقدر على كل شيء، يعرف مصلحة البلاد والعباد أكثر من أي فرد فيها، مهما علا قدره، وعَظُم علمه، فالحاكم فوق كل عالم، وقبل كل صاحب رأي، رأيه واجب النفاذ، وحده يحق له الكلام مع الشعب، وليس مطلوبًا من الشعب غير أن يستمع إليه وحده.
**
ستفاجأ حين تطلع على الكيفية والملابسات التي جعلت أنور السادات يصعد إلى سدة الحكم.
صعد إليها من بين مرشحين لخلافة جمال عبد الناصر، كان أضعفهم أقوى منه، وأقلهم حظًا كان مرشحًا بقوة أكثر منه، ومع ذلك، اجتمعت كلمة خلفاء عبد الناصر على تنصيبه رئيسًا لمصر.
بدأ مسيرته إلى كرسي الفرعون على قاعدة «تمسكن حتى تتمكن»، فلما تمكن راح يتحدث عن أنه هو وعبد الناصر آخر الفراعين، لا يقيدهم دستور، ولا يحد من سلطانهم قانون، ذلك أن الدساتير إنما وضعت لنوعية الرؤساء العاديين.
تصور الرئيس السادات (الله يرحمه) أنه يغلق أبواب التاريخ وراءه على مرحلة تاريخية طويلة تبدأ من عصر الفرعون موحد القطرين لتصل إلى نهايتها عنده باعتباره هو الفرعون الأخير رب العائلة، وآخر الفراعنة.
لو أنه عاش ورأى ما جرى بعده لتواضع كثيرًا قبل أن يقول ذلك، ولعلم -مثلما نعلم اليوم- أن «الفرعنة» استوطنت مصر ولم تغادرها بعد، ولأدرك -كما ندرك اليوم- أن «الفرعنة» ليست نظام حكم في مصر القديمة، بل هي نظام حكم امتد لتواريخ مديدة، ولفترات عديدة.
استقرار «الفرعنة» واستمرارها جعلها تصنع آلياتها، وتضع قواعدها، فكرست علاقة الحاكم بالمحكومين لتقوم على طقوس وثوابت لا تتغير، وإن تعددت أشكال ممارستها بين العصور، وتتأسس على ترتيبات ترفع الحاكم إلى مصاف أنصاف الآلهة وتنزل المحكومين إلى مهاوي العبيد.
**
«الفرعنة»، أو الاستبداد على الطريقة الفرعونية، لها نكهتها الخاصة وسماتها المميزة.
تلتقي مع كل استبداد في الخصائص العامة، ولكنها تتفرد وحدها بسمات خاصة بها نشأت على ضرورة المركزية في توزيع مياه النهر لتضمن للمجتمع استقرارًا بدون نزاعات وصراعات لن تنتهي إلا إلى صدامات دموية، فصار الحاكم رأس الدولة هو المتحكم في النهر، وفي الحياة، وفي الموت، حتى صار في منطقة وسطى بين الآلهة والبشر، بعضهم أعلن ألوهيته فعلًا، وخاطب أهل مصر (فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ).
استغلت «الفرعنة» حاجة المجتمع إلى تحقيق العدل في توزيع الماء بدون صدامات لكي ترفع الحاكم إلى مصاف الآلهة، وتطورت هذه القاعدة في الحكم على امتداد التاريخ المصري حتى اليوم، كانت بالأمس المياه مقابل العبودية، وأصبحت اليوم الأمن مقابل الحرية، تحت عناوين من نوعية: أنا أو الفوضى، أنا أو الإرهاب، إلى آخر تلك المعاني ذات المحتوى الاستبدادي، والجوهر الفرعوني.
**
«الفرعنة» هي آليات الاستبداد، وطرائق الطغيان،
وهي لا تستغني عن أربع: سلطة قاهرة، وكهانة فاجرة، وبيروقراطية فاسدة، وقضاء تحت السيطرة.
وقد تأسست «الفرعنة» على قوائم ثلاثة، أولها: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، ثم بالإرهاب والقهر والتخويف يتحول استضعاف طائفة من الشعب الى إضعاف قدرة الشعب كله على مقاومة استبداده، ورفض فرعنته.
تأسست «الفرعنة» كذلك على الخوف، ووضع الأمن مقابل الحرية في معادلة لا يخسر منها غير الشعب، يخسر فيها الشعب أمنه وأمانه الحقيقي في الوقت الذي يتنازل فيه عن حريته وكرامته بحثًا عن لقمة عيش مغموسة في الذل، وأمن مهدد دائمًا بالانقضاض عليه من زبانية الفرعون، ثم يخرج عليهم في زينته يتباهى عليهم بأموالهم: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي).
وثالث قوائم «الفرعنة» يتمثل في الاستبداد بالرأي: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، قوله هو الرأي المعتمد، ورأيه هو الرشاد الذي لا يأتيه الباطل من خلفٍ ولا من أمام.
**
الهرم في دولة الفراعنة ليس مجرد مقبرة تخلد الفرعون الإله.
هو من تجليات الديكتاتورية والاستبداد، وفي ناحية من نواحي معانيه يعبر عن هذه التراتبية المستقرة، تبدأ بقمة عالية لا يمكن الوصول إليها إلا بالقوة، تمثل الفرعون على قمة القمة، تحيط به طبقة ضيقة من الكهنة، يحيط بهم طبقة من العسكر المحاربين، تتلوهم طبقة موسعة من البيروقراطية التي تقوم على الشئون اليومية للعامة من الشعب في أسفل الهرم، يمثلون قاعدته الأوسع.
الشعب في أعراف «الفرعنة» وقوانينها هو المسئول عن أزماته، وهو المتسبب في كل مشاكله، ولا ملامة على الفرعون وحاشيته، وكل فرعون يبدأ مهام «الفرعنة» بأن يوحي منافقوه إلى الشعب أن العيب فيهم، وأن الحاكم بريء من كل ما يعانونه من فساد، وتخلف، وفقر، وقهر، وجهل.
فرعون موسى كان ينسب لنفسه كل شيء حسن، ويُرجع كل بلاء نزل بأرض مصر، وكل بؤس حط على المصريين، وكل قحط أصابهم إلى موسى ومن معه: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ).
**
تبدأ رحلة سقوط الفرعون مع لحظة سقوط حوائط الخوف.
حين استرد سحرة فرعون وعيهم، واجههوه في تحدٍ ظاهر له، واستهانة بكل ما يعدهم به من عذاب: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
سقطت «الفرعنة» في نظرهم، فسقط الفرعون لحظتها، وسقطت كل حواجز الخوف، التي بناها وبنى فوق صرحها كل صنوف الطاعة، والاستكانة، والمشي جنب الحيط «واللي يتجوز أمنا نقول له يا عمنا».
**
كل قراءة واعية لما جرى في مصر على مر القرون تصل إلى نتيجة أساسية تثبت أن «الفرعنة» هي الداء الذي استوطن تاريخ مصر، هي منبع كل السلبيات، والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية، وهي ما تزال تعيش بين ظهرانينا، وفوق ظهورنا، وإن تنكرت بصيغ شكلية ملفقة، أو تسمت بالديمقراطية، أو بالأحرى الديموكتاتورية.
درس التاريخ للمصريين أن مصر لن تتغير، ولن تتطور إلى دولة عصرية، وشعب حر، إلا حين ندفن «الفرعنة» في كهوف الماضي.
**
مشكلة مصر على مر التاريخ هي فرعنة الحكام.
الخروج من كهوف الفرعنة يمر عبر طريق طويل لإخراج مصر من جعبة الحاكم، يبدأ بأن يعود الحاكم إلى صفوف البشر، لا أن يبقى في مصاف الآلهة، أن يكون واحداً منا نختاره على أعيننا بالانتخاب الحر المباشر، وليس هبة من السماء أرسلتها العناية الإلهية لمهمة إنقاذنا.
إخراج مصر من جعبة الحاكم، يبدأ من أن يتولى أمرها من لا يغير ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ، من لا يأخذها من موقع هي مؤهلة له، ودور هي مرشحة للقيام به، إلى موضع مهين لها ولتاريخها وحجمها وقيمتها.
مشكلة مصر كانت وما تزال في حكامها، ومشكلتنا هي كيف نأتي بهم؟ وكيف نمنع أن يتأبدوا في السلطة حتى نهاية العمر.
**
إخراج مصر من جعبة الحاكم هي مهمة الوقت، وواجب كل وقت.
أن نمتلك من الأدوات ما يحول دون أن يتحول الحاكم إلى الآمر الناهي وحده، صاحب الحل والعقد وحده، المتصرف في شئون البلاد كما يحلو له، بلا رقيب ولا حسيب.
تداول السلطة هو البداية، وتكريس أسلوب وأدوات وطريقة انتقال السلطة سلميًا، واحترام الحقوق المدنية والسياسية للجميع، وتحكيم صندوق الانتخابات، وأن توضع الحدود الفاصلة بين السلطات جميعاً، بحيث لا تجور سلطة فوق أخرى، أن تتكامل سلطات الدولة كلها، وأن تقوم كل منها بمهمتها دون الافتئات على مهمات وصلاحيات سلطة أخرى.
إخراج مصر من جعبة الحاكم يتطلب أول ما يتطلب أن يأتيها حاكم بطريق الانتخابات، ويرحل عبر الطريق نفسه، وأن تحكمه نصوص الدستور، لا أن يحكمها هو، وأن يتعلم الحكام أن مهمة الحكم تنحصر في إدارة شئون البلاد في فترة زمنية محددة سلفًا، عبر مؤسسات حاكمة، ومجتمع واعٍ، ومشاركة شعبية لا تحدها حدود غير نصوص الدستور وحدود القانون.
**
الأحزاب لها دور كبير في عملية إخراج مصر من جعبة حكامها،
بشرط أن تتحول هي وكل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية من مجرد واجهات، أو ديكور، وأن تقلع عن لعب دور الكومبارس في مسرحية الحاكم البطل الفرد الذي يملي إرادته فلا راد لها، ويقرر فلا معقب على ما يصدر من قرارات، باعتبارها كلها قرارات تاريخية لا يجوز مجرد التعليق عليها.
وأول مظاهر نجاح مهمة إخراج مصر من جعبة الحاكم أن يكون فيها رئيس سابق على قيد الحياة، أدى مهمته بنزاهة وتفانٍ وخرج من السلطة، ولم يفكر يومًا في أنه مؤبد فيها، مخلد فوق كراسيها.
مصر تتطلع إلى رئيس هو رأس الدولة، لا أن يكون هو الدولة.
رئيس هو ممثل السلطة، يمارسها باسم المجتمع، لا أن يكون هو السلطة نفسها، تندمج فيه، يفعل بها ما يشاء، رئيس يسهر على تحقيق الأمن والاستقرار وحماية المواطن والحفاظ على كرامته، وحرياته وحقوقه، لا أن يسهر المواطنون على استقرار وحماية واستمرار نظامه.
**
مصر عانت طويلًا من الحكام الذين يشيخون فوق مقاعدهم، أولئك الذين يسدون الطرق إلى التغيير، ولا يعملون إلا لبقائهم مدى الحياة فوق كل الرؤوس.
مصر شبعت من الحاكم المؤبد في كرسي الحكم، وظلت تتطلع إلى حاكم المدد المحددة والمحدودة، لا المدد المؤبدة التي بلا نهاية، شبعنا من الرئاسات الأبدية، وسئمنا من التواجد في المسئولية حتى آخر نفس يتردد، وآخر نبض يتجدد.
مصر شبعت من الحكام الذين هم فوق النقد، وفوق المساءلة، وفوق الجميع.
أكثر ما تريده مصر أن يكون الحاكم قابلاً للمناقشة، قابلاً للأخذ والرد، الأخذ مما يقول، والرد على ما يقول، قابلاً حتى للمحاكمة إن أخطأ.
مصر تريد حاكماً تعرف كيف ومتى يمشي من الحكم، كما تعرف متى وكيف يأتي إليه.
**
كان يقيني بعد 25 يناير سنة 2011 أن أي رئيس يأتي بعد الرئيس المخلوع حسني مبارك سوف يكون أمام عينيه -دائمًا- مشهدية الحشود التي امتلأت بها الميادين، ومشهد مبارك نائمًا فوق سرير متحرك يرفع يده وصوته عالياً وهو يرد على القاضي الذي يحاكمه: نعم موجود يا افندم.
لم يكن يقيني بالقدر نفسه في يونيو سنة 2013، إلا أن مشاهد الغضب العارم التي اجتاحت الميادين مرة أخرى في أقل من ثلاث سنوات، وتجمع تلك الملايين تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، وهدفها عزل الرئيس الإخواني بعد سنة واحدة من حكمه، كل هذه المشاهد كانت كفيلة -في ظني- بأن تكون خير واعظ لمن يأتون من بعد.
لم يمض وقتٌ طويل حتى اكتشفنا أنها كانت أحلام يقظة، تكشف مدى سذاجة الأمنيات.
**