رغم مرور اثنى عشر عاما على ثورة يناير، وما يقارب السنوات العشر على ثورة 30 يونيو، إلا أن القلق صار أبرز مظاهر حقبة الحكم الحالية، استقر حكم النظام الحالي لسنوات، وسوف يستمر لسنوات قادمة، واستطاعت الدولة التغلب على أبرز ما واجهها من تحديات خلال السنوات اللاحقة لثورة يناير، ومع ذلك تختفي التحديات ويبقى القلق.
اقرأ أيضا.. هل يستسلم الرئيس؟!
حاولت الدولة خلال السنوات الماضية إزالة كل مسببات القلق، فقد وجهت ضربات متتالية قاصمة لـ”الاخوان”، ورغم بقايا التنظيم التي لازالت تختبئ تحت الأرض، أو تتحرك في الدول المختلفة، الا أن الجماعة فقدت أغلب أدوات التأثير لديها سواء في الجامعات والنقابات، أو حتى الأدوات الاقتصادية من مشروعات كبرى تمول نشاطها.
كما صادرت الدولة المجال العام بالكامل باعتباره أحد مسببات القلق، وتحت دعوى أن الكلمة تكون أحيانا أقوى من السلاح، فقد أممت الدولة كل منافذ التعبير، وقيدت حركة المعارضة، وأودعت الآلاف في السجون بتهم “نشر أخبار كاذبة”، وعمد النظام على وضع غطاء محكم على كل الأخبار التي من شأنها تسليط الضوء على مواطن القصور داخل النظام، أو وقائع الفساد والانتهاكات، عبر قرارات منع النشر، سواء كانت بأمر قضائي أو تنفيذي.
أصدر البرلمان الذي تم اختياره هو الآخر وفق نظام انتخابي محكم، عشرات التشريعات من قوانين وتعديلات لقوانين، هدفها الرئيسي تحصين وحماية الدولة، ووضع رقابة مشددة على حركة المواطنين، تصل في أحيان كثيرة إلى حد الانتهاك لحقوق وحريات الأفراد، وتصنع عراقيل أمام حركة التقدم الطبيعي للمجتمع، وتقوض فرص الاستثمار المحلي والأجنبي.
بدعوى القلق أيضا صارت الموافقة الأمنية شرطا أساسيا لأي حركة يمكن أن يقوم بها المواطن، سواء كانت الحركة لها علاقة بالشأن العام مثل العمل السياسي أوالطلابي والنقابي، أو حتى لمزاولة الأنشطة اليومية مثل إصدار التراخيص والتقدم للوظائف الحكومية أوحتى مزاولة الأنشطة التجارية وفتح المحال العامة.
القلق الحكومي هو المحور الذي تدور حوله كل تصرفات الدولة من تصريحات وأفعال، بدءا من النشرات اليومية لنفي الشائعات وحتى تعديل الدستور الذي تم الاستفتاء عليه في 2019.
الشطر الأكبر من التصريحات الحكومية يدور حول “الرد على المزاعم” و”مواجهة المؤامرات”، المتابع لعمل الحكومة خلال السنوات الماضية يلمس التعامل الدفاعي مع كل انتقاد يوجه لها، والذي غالبا ما يتحرك من الدفاع إلى الهجوم على كل رأي يخالف الرواية الرسمية.
إحساس القلق الذي تصدره الحكومة تلقاه المواطنون وتشربوه حتى صار هما يحمله الجميع، وهو أخطر ما يواجه المجتمع حاليا، خصوصا في ظل أزمة مالية واقتصادية تعاني منها الدولة، القلق هو ما يدفع المواطنين إلى رفض التسجيل الضريبي والإفصاح بشفافية عن معاملاتهم المالية، والقلق هو العقبة في وجه محاولات الدولة للميكنة والرقمنة، كما أن القلق هو الدافع الرئيسي لتحويل مدخرات المواطنين من النظام المصرفي، إلى صور أكثر أمانا مثل الذهب والدولار.
خلال السنوات الماضية تراجعت أرقام الاستثمار المحلي والخارجي أمام الاستثمارات الحكومية، بالتأكيد هذا التراجع له أسباب اقتصادية واجتماعية كثيرة، ولكن منها بالتأكيد الشعور العام بالقلق لدى عموم المواطنين، وهو بالطبع له ما يبرره، إذا كانت الدولة نفسها قلقة، ألا يجب أن يشعر الجميع بالقلق؟
تكونت شبكة واسعة من المصالح نتيجة للقلق، تضم الشبكة مسئولين تنفيذيين وبرلمانيين وسياسيين وحقوقيين واعلاميين، آلاف من الأبطال الوهميين صنعهم القلق، هدفهم المعلن الدفاع عن الدولة ومواجهة الأكاذيب/ الافتراءات/ الشائعات، وفي مقابل ذلك يحصلون على مزايا عينية ومادية تجعلهم يتمنون عدم زوال القلق، فإذا لم تشعر الدولة بالقلق فإنها لن تكون في حاجة لمن يدافع عنها.
يرى البعض أن الإفراط في الثقة والطمأنينة الذي عاشه مبارك، وعبر عنه بجملة “خليهم يتسلوا”، كان هو السبب في ثورة يناير، ولكنهم يتناسون أن الاستقرار هو ما منح مبارك ثلاثين عاما من الحكم.
الثقة هي أبرز ما يحتاجه الوطن الآن، الثقة في نظام قتصادي قادر على سداد الديون والنهوض بالدولة وتحقيق عوائد مناسبة للمستثمرين، الثقة في العملة الوطنية والتأكد من أنها لازالت صالحة كمخزن للقيمة، الثقة في النظام السياسي القادر على وضع سياسات عامة هدفها مصلحة المواطن، عبر أسس علمية سليمة، وإدارة عملية سياسية هدفها تحقيق الديمقراطية، والثقة في البرلمان بحيث يكون النواب ممثلين بحق عن مصالح ناخبيهم، ولكي تحظى التشريعات الصادرة عنه بالقبول المجتمعي، والثقة في نظام العدالة عبر ضمانة استقلال القضاء، والثقة في الإعلام حتى يكون مرآة للواقع، ويعيد المصداقية إلى ما تنشره وسائل الإعلام.
باختصار، الثقة هي الأساس المتين الذي تبنى عليه الدول، أما من يبني على قلق فلا أساس له، أو كما قال المتنبي “كأن الريح تحتي”.