وافق أخيرًا المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي يوم الجمعة الماضية 16 ديسمبر على برنامج الإصلاح الجديد للصندوق مع القاهرة، والذي كانت تترقبه الحكومة المصرية والفاعلين الاقتصاديين منذ أسابيع، والذي بموجبه تحصل مصر على 3 مليار دولار من الصندوق خلال 46 شهرًا، بالإضافة لمليار دولار من صندوق الاستدامة و5 مليارات أخرى من شركاء دوليين وإقليميين.
على المستوى العملي فإن قيمة القرض ليست في هذا المبلغ الصغير في حد ذاته، فالواردات المصرية سنويًا تقدر قيمتها بحوالي 80 مليار دولار، لكن الغرض الرئيسي من هذا القرض هو اعتماد الصندوق لبرنامج الإصلاح المصري بما يتيح للحكومة قدرة أكبر على طرح السندات الدولية والحصول على تمويلات وقروض جديدة تمكن الحكومة من عبور هذه الفترة الحرجة من الضغط على الميزان التجاري وميزان المدفوعات وبدأ انتظام عمليات الاستيراد والتشغيل بشكل شبه مستقر.
بالنسبة للصورة العامة للديون فإن مصر لم تتخلف سابقًا عن سداد ديون سيادية بما فيها فترات عدم الاستقرار التي صاحبت ثورة يناير، لكن علاقة مصر بالديون اختلفت كثيرًا في السنوات الماضية، حيث تمكنت الحكومة من اقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في عام 2016 في برنامج الإصلاح الاقتصادي الأول، واقترضت مرتين من الصندوق لمواجهة جائحة كورونا بما يقدر ب 8 مليار دولار أخرى، وبشكل عام فإن حجم الدين الخارجي يبلغ حوالي 158 مليار دولار بنهاية هذا العام مقارنة بـ 35 مليار دولار في العام المالي 2011/2012 ما يعني أنه تضاعف بأكثر من 3 مرات، وذلك بالرغم من أن نسبة الدين العام (خارجي ومحلي) للناتج المحلي الإجمالي انخفضت من 106٪ إلى 87٪، أما نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي فلازالت ضمن الحدود الآمنة 34.1٪، بالإضافة إلى كون معظم المديونية الخارجية متوسطة وطويلة الأجل بالإضافة لكون 62٪ منها ذات سعر فائدة ثابت لا يتأثر بارتفاعات الفوائد العالمية.
بناءً على تلك المعطيات فإننا لازلنا في مرحلة آمنة من حيث حجم المديونية، لكن كثرة الاعتماد على الأموال الساخنة في ظل المنافسة المحمومة في الصراع على جاذبية وتنافسية أسعار الفائدة يؤدي لضغوط كبيرة على الاقتصادات الناشئة مثل مصر، فمع خروج أكثر من 22 مليار دولار من الأموال الساخنة بعد بداية الحرب الروسية الأوكرانية تعرضت مصر لهزة اقتصادية كبيرة، ونعاني بشدة مع كل ارتفاع في نسب الفائدة التي يقوم بها الفيدرالي الأمريكي، وهو ما دفع الحكومة والبنك المركزي لاتخاذ العديد من الإجراءات لتقييد الاستيراد ومحاولة الحفاظ على الدولار من أجل الوفاء بالالتزامات الخارجية وتدبير الاحتياجات الأساسية بقدر الإمكان.
تتحدث الحكومة عن استراتيجيات لإدارة ملف الدين العام، وعن لجان حكومية مشكلة، والمفترض أن مجلس النواب يناقش تلك الأمور، لكن هل يوجد قانون أو تشريع يضع ضوابط للاستدانة الحكومية أو دور واضح للبرلمان بلجانه المتخصصة في متابعة مستمرة لتطورات هذا الملف؟
بحسب المتابعة لأعمال الحكومة فإن ملف إدارة الدين لايحكمه قانون أو تشريع واضح، هو أمر متروك لإدارته بشكل فني متمثلة في الإدارة المسؤولة عن الدين الخارجي في وزارة المالية، مع وجود إدارات أخرى مسؤولة عن الملف بأشكال مختلفة، مثل وزارة التعاون الدولي التي تلعب دورًا رئيسيًا في جذب المنح والقروض الميسرة ووزارة التخطيط التي تضع أولويات للمشروعات المدرجة ضمن خطط التنمية والتي تحتاج لتمويل، لكن آلية التنسيق بين تلك الجهات، واستراتيجية توسعة حجم الاستدانة الأجنبية أو المحلية أو خفضهما، أو متابعة تنفيذ آلية إنفاق القروض التي تتم، أو حوكمة القروض والمنح التي تدار بواسطة أجهزة الموازنة كلها نقاط تدار دون آلية تنظيمية واضحة في شكل تشريع قانوني أو استراتيجية معلنة وملزمة، وهي أمور يحكمها سياسة كل حكومة وبرنامجها.
تتحدث الحكومة عن استراتيجية لخفض نسبة الدين العام للناتج المحلي إلى 82.5٪ بنهاية يونيو 2025م دون إلزام قانوني لها، وكذلك بدأت الحكومة في 201٩ في إعادة تفعيل لجنة إدارة الدين العام التي أُنشئت بقرار رئيس الوزراء في فبراير 2013 ويرأسها وزير التخطيط وتضم ممثلين عن وزارات التعاون الدولي والمالية والبنك المركزي والاستثمار، وضمت هذه اللجنة في شكلها الحالي بعض الخبراء المستقلين، بحسب ما يراه رئيس الوزراء، لكن مناقشات تلك اللجنة وتقاريرها الداخلية لا تعرض على البرلمان بحسب معلوماتنا، ولا تظهر نتائج اجتماعاتها، ومن غير المعروف طبيعة النقاشات الفنية بداخلها أو المستهدفات التي تضعها اللجنة في إدارتها للملف، أو قراراتها فيما يخص الإنفاق غير الجيد لبعض القروض، فهل هذا قد يدفع بأهمية وجود تشريع ينظم ذلك الأمر؟
أثناء مناقشات الحساب الختامي في دور الانعقاد الماضي داخل مجلس النواب، قدمت لجنة الخطة والموازنة في تقريرها العديد من الملاحظات التي أكدت على سوء إدارة بعض القروض على المستوى المحلي وإنفاقها بشكل بعيد عن أهدافها، وبغض النظر عن مآل تلك الملاحظات وما اتخذه البرلمان من قرارات بشأن تلك الملاحظات، لكنها تؤكد على أهمية وجود ضوابط تشريعية إلزامية لملف الاقتراض الخارجي وإدارة الدين العام ووضع مؤشرات أداء واضحة يمكن قياسها على كل مشروع أو قرض أو تمويل خارجي تحصل عليه الحكومة أو أحد أجهزة الموازنة، ويتحمل المواطنين عبئه من زيادة تخصيص استخدامات الموازنة العامة المرتبطة بفوائد وأقساط الديون.
بالتأكيد ليس الغرض من التشريعات هو تقييد أدوات وخطط السلطات التنفيذية في إدارة ملف الدين والاقتراض، خاصة وأنها أداة تمويل هامة لمشروعات التنمية جنبًا إلى جنب مع المنح والضرائب بأنواعها، وهي أدوات تحتاج لمرونة في إدارتها وترتبط ارتباطًا وثيقًا ببرامج الحكومات، ولاسيما وأن القروض جميعها لا تدخل حيز التنفيذ دون تصديق البرلمان. وصحيح أن مصر بها آلاف التشريعات الكثير منها يعاني من مشاكل التطبيق والتنفيذ والالتزام، وبالتالي فإن وجود تشريع في حد ذاته لا يضمن تقدمًا حقيقيًا، لكن على الأقل قد يساهم في حوكمة وتحسين ملف الدين عبر وجود إطار تنظيمي واضح ودائم يضم جميع الهيئات المسؤولة عن الاقتراض وإدارة المخاطر المالية وتطبيق معايير الاستدامة، ووضع استراتيجيات لإطالة أجل الدين والحفاظ على معدلات مستهدفة من الدين العام، وتأمين مستوى مرتفع من صافي الثروة للمجتمع، وتحسين مستويات الشفافية والمسائلة عبر إشراك مجلس النواب وتقديم تقارير دورية واضحة له تزيد من فعالية دوره، وتضمن حسن استخدام القروض ومعرفة أوجه إنفاقها بالشكل الأمثل ليتحقق الغرض منها.
هذا التشريع لن يكون بدعة نستحدثها في مصر بل هو تشريع موجود بأشكال مختلفة في دول عديدة سواءًا بقانون للمسؤولية المالية تضع شروطًا ومعايير واضحة للاقتراض الخارجي ونسبه من الموازنة والناتج المحلي كما هو الحال في انجلترا والبرازيل والهند مثلًا، أو عبر استحداث هيئات أو مكاتب أو مجالس عليا لإدارة الدين العام تتولى اقتراح وتنفيذ استراتيجيات إدارة الدين العام ومراقبة المخاطر المالية، كما تفعل الإمارات مثلًا. وبالتالي هي ليست فقط آلية تنسيقية بين الوزراء قد تفعل في بعض الأحيان وقد لا تفعل في كثير من الأحيان.
في نهاية الأمر قد يتضح لصناع القرار أهمية وجود مثل هذا التشريع أو عدم أهميته في الوقت الراهن، وقد يرى البعض أننا نعيش في مستوى مقبول من المخاطر يمكن التعايش معه الآن ولا يدعو للخوف أو الفزع، لكن ما أدعو للتفكير فيه هو تجاوز الحكم على اللحظة الآنية والتفكير في المستقبل، نحن نتحدث عن التنظيم المؤسسي لأحد أهم ملفات المالية العامة، والتي تتطلب مناقشة حول ضوابط إدارة هذا الملف بما يضمن تقليل المخاطر وتنمية سوق السندات الحكومية وحماية الموازنة العامة من الصدمات الناتجة عن تقلبات أسواق التمويل، بالإضافة لملفات أخرى هامة تحتاج أيضًا مناقشة حول آليات التنسيق بين السياستين النقدية والمالية وهل تحتاج لمزيد من التطوير والدعم، والوقوف على المدى الزمني للانتقال التدريجي لموازنات البرامج والأداء، بما يصل بنا في النهاية لمزيد من حوكمة إدارة الملف الاقتصادي بغض النظر عن تغيرات الوزراء والحكومات.