ثلاثة ارتفاعات متتالية لأسعار الحديد شهدها السوق المصري في آخر أسبوعين فقط، عطلت حركة المبيعات، في ظل عدم استقرار سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. وهي كلها شواهد على عشوائية شديدة في عملية تسعير أحد أهم مكونات قطاع التشييد والبناء في مصر.
قفزت أسعار الحديد خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بنسبة وصلت إلى حوالي 16%، ليقارب سعر الطن النهائي للمستهلك 30 ألف جنيه. ذلك مقارنة بنحو 20300 و21500 جنيه للطن تسليم أرض المصنع -غير شامل تكلفة النقل-.
ونتيجة للارتفاع المستمر في تسعيرة حديد التسليح، فقد تراجعت مبيعات الحديد بالسوق خلال الفترة الراهنة، في ظل التقلبات اليومية وعدم الاستقرار على مستوى السعر العادل للطن بالسوق. ومن ثم التأثير على القطاعات الحيوية المرتبطة بأسعار مواد البناء في السوق. ويبقى الغموض مسيطرًا على مستقبل تسعير حديد الصلب محليًا. فكيف ستتغير خريطة أسعار العقارات وسوق البناء في مصر خلال 2023؟ وما مدى تأثر السوق بتقلبات سعر الصرف مقابل الدولار؟.
لماذا ارتفع الحديد؟
عدد من خبراء مواد البناء لخصوا أسباب صعود سعر طن الحديد في أزمة سعر الصرف وتراجع قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار وهبوطه إلى مستويات قياسية، بالتزامن مع ارتفاع أسعار المواد الخام عالميًا، وكذلك تكلفة الشحن.
أحمد الزيني، رئيس الشعبة العامة لمواد البناء بالغرف التجارية، يقول إن سعر الطن في مصر ارتفع خلال ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بنسبة قاربت 16% ليلامس سعره حاجز الـ 21500 ألف جنيه تسليم أرض المصنع، ونحو 30 ألف جنيه للمستهلك النهائي. وذلك نتيجة تبعات أزمة الدولار بالسوق وارتفاع أسعار المواد الخام عالميًا وأسعار الشحن بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.
وفق تصريحات الزيني لـ”مصر 360″، تستورد مصر خامات المعادن من الخارج لتُعيد تصنيعها في أشكال مختلفة، وتستخدمها أيضًا في صناعة منتجات تامة الصنع.
ولأن هذه الخامات مستوردة تخضع للدولار، يحاول التجار تحقيق أعلى هامش ربحية، قبل استيرادها بالأسعار الجديدة. وهذا أمر يتسبب في موجة الارتفاعات المتتالية في تسعيرة حديد التسليح.
يربط “الزيني” توقعات أسعار مواد البناء خلال الفترة المقبلة بعوامل؛ أهمها: عدم استقرار سعر الصرف محليًا، وكذلك التوترات السياسية عالميًا، وتأثيرها على الاقتصاد العالمي وأسعار مواد الخام.
ويرى الخبير الاقتصادي، المهندس مصطفى الجلاد، أن تحرك أسعار الحديد بالسوق ما هو إلا نتيجة لارتفاع الدولار عقب قرارات البنك المركزي السابقة برفع الفائدة وخفض قيمة الجنيه. ما أثر بشكل مباشر على ارتفاع فاتورة استيراد مستلزمات إنتاجه.
ويوضح الجلاد أن تراجع قيمة الجنيه يرفع أسعار البضائع بشكل عام، ومواد البناء بشكل خاص. وبالتالي خفض قيمة رأس مال التجار بنحو 16-20%. ما دفع بمصانع الإنتاج والتجار إلى تعويض فارق قيمة رأس المال بزيادة سعر الطن محليًا.
السعر العادل
يقول ناصر شنب، عضو شعبة مواد البناء، إنه رغم التحرك على مستوى محددات أسعار الحديد في مصر، إلا أن هناك سعرًا عادلًا لابد من إقراره للطن محليًا. وهو مستوى لابد أن يتراوح بين 15 و20 ألف جنيه للطن الواحد. أخذًا في الاعتبار المتغيرات التي تطرأ على مستوى أسعار مدخلات الإنتاج.
ويلفت شنب، في حديثه لـ”مصر 360″، إلى أن تقييم أسعار مواد البناء ومنها حديد التسليح بات مبالغ فيه بشكل كبير. وهذا ناتج عن العشوائية المفرطة في تحديد الأسعار من قبل التجار، الذين يحصلون على الحديد من أرض المصنع بتسعيرة أقل من المباع بها في السوق، بما يتجاوز الـ 5 و6 آلاف جنيه في الطن.
ووفق رؤية شنب، فإن الحاجة حتمية لإنشاء “بورصة” لأسعار مواد البناء في السوق، تتحكم بها جهات معنية مسئولة. بحيث لا يكون السوق مُباحًا للتجار يتلاعبون بالأسعار كيفما شاؤوا بحجة سعر الصرف والأحداث العالمية. وإن كان لها فعلًا تأثير على الأسعار -لكنه ليس بمستوى الزيادات المعلنة مؤخرًا، على حد قوله.
اقرأ أيضًا.. اشتراطات البناء والتراخيص.. هدر لقيمة الأرض وانتهاك للحق في السكن
هذا السعر العادل، أكد عليه أحمد الزيني رئيس شعبة مواد البناء، والذي حدده -في مداخلة هاتفية على فضائية “صدى البلد”- بـ 17 ألف جنيه لطن الحديد. مضيفًا أن أسعار مواد البناء الحالية غير عادلة، وأن السوق متروكة للعرض والطلب. ما يتسبب في ارتفاع سعر الحديد إلى مستويات تصل لنحو 30 ألف جنيه للطن عند بعض التجار.
مؤشرات ترك السوق تبدو واضحة في السوق حاليًا، إذ وصلت تسعيرة حديد عز إلى نحو 25,700 جنيه. بينما سجل حديد بشاي 26,100 جنيه، وحديد العتال 26,050 جنيهًا، وحديد عطية 26,050 جنيهًا. ووصل حديد سرحان إلى 25,650 جنيهًا، وحديد المراكبي إلى 24,700 جنيه، وحديد المصريين إلى 25,550 جنيهًا. كما سجل حديد الكومي 25,550 جنيهًا، وحديد المعادي 25,650 جنيهًا، وحديد العشري 25,550 جنيهًا، وحديد مصر ستيل 25,550 جنيهًا.
الفائدة تزيد المعاناة
يقول ناصر شنب، عضو شعبة مواد البناء، إن معظم القطاعات الاقتصادية تعاني حاليًا ضعفًا بتدفق الاستثمارات إليها، نتيجة رفع البنك المركزي أسعار الفائدة خلال الفترة الماضية. وعلى رأس هذه القطاعات السوق العقاري في مصر. ذلك لأن عمليات التشييد تقوم على بعض المنتجات المستوردة من الخارج. وبالتالي، فإن تراجع قيمة الجنيه نتيجة رفع الفائدة يُزيد من تكلفة الاستيراد، ومن ثم البناء، وفي النهاية التسعير النهائي للعقار في السوق.
ويحذر شنب من عدم وضوح مستقبل السوق العقاري خلال عام 2023، نظرًا لعدم استقرار قيمة الجنيه مقابل الدولار. وبالتالي ستنتظر الشركات استقرار سعر الصرف خلال الفترة المقبلة، لمعرفة حجم ومدى التأثير على القطاع وخريطة الأسعار الجديدة.
ومع ذلك ورغم ارتفاع أسعار الحديد عالميًا، فقد اقتربت قيمة واردات مصر من خامات الحديد ومركزاتها ومواد أولية من حديد وصلب، من تسجيل 5 مليارات دولار خلال الأشهر الثماني الأولى من 2022. مع تحقيقها معدل نمو يصل إلى 40,2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
ووصلت واردات مصر من مواد أولية من حديد وصلب وخامات الحديد ومركزاتها لنحو 4,953 مليار دولار خلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني-أغسطس/ آب 2022.
الركود المتوقع بالعقارات
يشير أحمد السيد، خبير العقارات، أن القطاع العقاري أصبح الأكثر تأثرًا بتحركات أسعار مواد البناء، وفي أكثر من اتجاه. فقد ارتفعت أسعار العقارات في السوق بمعدل يقارب الـ 30% – 40%. ما خلق نوع من الركود في المبيعات. بينما هو يعاني في الأساس انخفاضًا بحجم الطلب على مواد البناء، مع تراجع عمليات البناء والتشييد.
وهو يرى أن محافظات الأقاليم وملحقاتها من القرى ربما ستكون الأكثر تأثرًا بأسعار مواد البناء والحديد. ذلك بسبب ارتفاع التكلفة في البناء، مقارنة بحجم دخل المواطن. يقول السيد: “عشان مواطن يبني طابق واحد هيحتاج حديد بما يقارب الـ 90 : 100 ألف جنيه. وذلك إذا استمرت الأسعار عند 30 ألفًا للطن. إذ أن الطابق الواحد يحتاج ما يقارب الـ 3 أطنان حديد بخلاف باقي مواد البناء”.
ووفق توقعات السيد، فإن حجم المعروض في سوق العقارات خلال 2023 سيتجاوز حجم الطلب؛ بسبب ارتفاع أسعار الوحدات. وبالتالي، سيمثل إيجاد مشتر لوحدة في الإسكان بالأسعار الجديدة صعوبة كبيرة لشركات التسويق العقاري. ومن ثم سترتفع نسبة الركود في السوق.
ومؤخرًا طلب أعضاء بالاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء مراجعة عقود المقاولات، للحصول على مدد إضافية لتسليم المشروعات، في ظل الارتفاع المطرد في أسعار مواد البناء، التي عرقلت عمليات تنفيذ المشروعات التي كان مخططًا تنفيذها خلال الفترة القليلة القادمة.
ويتوقع السيد أن تتراجع نسب تنفيذ المشروعات الخاصة بمقاولي التشييد والبناء، إلى معدل قد يصل لنحو 20: 30%. ذلك لأن الزيادة في تكلفة الإنشاء تتنامى أسبوعًيا دون استقرار. وبالتالي الوفاء بعقود التسليم سيتأثر كثيرًا، وقد يتأخر إلى عام أو عامين، لتعويض حجم الارتفاع في تكلفة التشييد. خاصة بالنسبة للعقود الموقعة سابقًا.
ويضيف أنه لابد من إقرار بنود في تعاقدات مشروعات الإسكان تتضمن ما يسمى “التغيرات الجبرية” وهي الخاصة بتحريك أسعار الوحدات المتعاقد عليها بما يتوافق مع المتغيرات الأساسية التي تحدث في الأسعار بسبب الأوضاع الداخلية للدولة، بحيث لا يتحمل طرف “كامل فارق الزيادات بالأسعار” على حساب طرف آخر.