خلال الأسابيع الماضية، طالعتنا مواضيع في مقدمة الاهتمامات مثل تطبيق الفاتورة الإلكترونية على المهن غير التجارية، وإصدار قرار يشترط الحصول على موافقة أمنية من أجل ترخيص أنشطة تجارية. في خلفية تلك القرارات كان يدور أمر واحد جوهري حول سبب السعي لتطبيقها الآن: الاقتصاد غير الرسمي.
وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرضا إجماليا بقيمة 3 مليارات دولار مُقسم على شرائح يتم الموافقة عليها وفق مجموعة من الشروط. وأحد هذه الشروط هو “تحسين كفاءة وفعالية النظام الضريبي عن طريق زيادة القاعدة الضريبية وضم الاقتصاد غير الرسمي؛ لتحقيق فائض أولي مستدام وتخفيض عجز الموازنة”، وفقا لما ذكره وزير المالية محمد معيط، خلال المؤتمر الصحفي للإعلان عن الاتفاق مع الصندوق نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تُمثل الضرائب نسبة 77% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة. ويُظهر تقسيم الضرائب في موازنة العام المالي الجديد أن المصدر الأول للإيرادات الضريبية هو ضرائب القيمة المضافة (على كل من السلع المستوردة والمحلية) بـ258.3 مليار جنيه مجتمعين. فيما تحل ضرائب المهن الحرة سادسا من بين ثمانية بنود بـ62.5 مليار جنيه.
اقرأ أيضا.. أقساط القروض والفوائد تلتهم 54% من مصروفات الدولة.. الاستدانة لسداد الديون
ما هو الاقتصاد غير الرسمي؟
كان الاقتصاد غير الرسمي مسار حديث الحكومة لفترة طويلة، من حيث الخسائر الاقتصادية التي تتحملها الدولة وضرورة ضمه إلى القطاع الرسمي. وذلك لأنه يضم أنشطة ذات قيمة سوقية من شأنها “زيادة الإيرادات الضريبية وإجمالي الناتج المحلي إذا تم تسجيلها”، بحسب صندوق النقد الدولي.
ويشير المصطلح إلى مجمل الأنشطة الاقتصادية التي تغيب عن نظر الدولة ولا تظهر في سجلاتها ولا تخضع من ثم لا لتنظيمها ولا لرقابتها ولا لتحصيل الضرائب. وتتراوح تقديرات الجهات الحكومية المختلفة بين 30-60% لحجم هذا الاقتصاد الموازي من الناتج المحلي. إلا أن وزير المالية محمد معيط، قال إن حجمه في المتوسط 55% من إجمالي الاقتصاد، وقد يرتفع إلى 60% أو ينخفض إلى 50%. وهو ما يُظهر فجوة في تقدير حجمه الفعلي.
وتقول التقديرات الحكومية إنه يوظف ما يقرب من نصف قوة العمل. ويتركز حوالي 45% مــن العمالة غير الرسمية فـى قطـاع الزراعة ويليـه الصناعة 25%، ثم الخدمات 31%. وقُدرت حصيلته الضريبية بـ400 مليار جنيه خلال العام المالي 2021/2022. أي ما كان يساوي 85% من العجز الكلي حينها.
وفي عام 2018، قدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء منشآت الاقتصاد غير الرسمي بأنها مليوني منشأة، أو ما يمثل 53% من إجمالي المنشآت الاقتصادية. وذكر أن حجم المبالغ المستثمرة في هذا القطاع، 69.3 مليار جنيه، تمثل نحو 5.1% من رأس المال المدفوع لقطاعات النشاط الاقتصادي الإجمالية في مصر.
بينما عدد العاملين في تلك المنشآت بلغ نحو أربعة ملايين، أو ما يعادل 29.3% من إجمالي العاملين في المنشآت الاقتصادية آنذاك. هذا وتستحوذ أربعة أنشطة اقتصادية على 84.2% من إجمالى المشتغلين بالقطاع غير الرسمي، وهي تجارة الجملة والتجزئة والصناعات التحويلية والزراعة والصيد وخدمات الغذاء.
ولأن التعداد الاقتصادي شمل فقط النشاط الاقتصادي داخل المنشآت، فقد أشارت بيانات جهاز الإحصاء لعام 2020 إلى وجود 11.5 مليون شخص بالقطاع غير الرسمي يعملون خارج المنشآت كالمزارع والشوارع وغيرها. وهو ما يكشف أن القطاع غير الرسمي يستوعب داخل وخارج المنشآت أكثر من 15 مليون مشتغل.
ومن بينهم -حسب بحث أجراه مركز المشروعات الدولية الخاصة بغرفة التجارة الأمريكية في واشنطن- بائعة جائلين يقدرون بـ5.5 مليون بائع. فيما يعد قطاع المقاولات والتشييد أحد أركان الاقتصاد الموازي -خاصة المقاولين الصغار الذين يعملون دون أي سجلات في الريف المصري. كما يتضمن قطاعا عريضا من العمال مثل “نجارة، سباكة، كهربائيات، نقاشة، أعمال الحفر، عمال التركيبات، المحاجر”.
يلفت فخرى الفقرى، رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، إلى “رغم أن الاقتصاد غير الرسمي له بعض المزايا مثل المساعدة إلى حد ما في التخفيف مـن حـدة البطالة وإيجاد فـرص عمـل، إلا أنها فرص عمل دون رعاية تأمينية أو صحية. وقد يساهم في تأمين بعض الاحتياجات الضرورية خلال أوقات الأزمات، خصوصًا في المناطق الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية”.
ويضيف “تسبب الاقتصاد غير الرسمي في ضعف إيرادات الدولة الضريبية، في مقابل الزيادة المستمرة للإنفاق العام، وهو ما يظهر في زيادة عجز الموازنة، حيث يستفيد العاملون في الاقتصاد غير الرسمي من جميع الخدمات العامة التي تقدمها الدولة للقطاع الرسمي من مياه وكهرباء وصحة وتعليم، في حين أنهم لا يساهمون في تمويل الموازنة العامة للدولة”.
لماذا ينشأ الاقتصاد غير الرسمي؟
إبراهيم سيف، باحث رئيسي في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، يرى أن الظاهرة نشأت وترعرعت لأن الحكومات وجدت أنه من المناسب ألا تدقق كثيرا في حجم الظاهرة أو وضع عراقيل أمام انتشارها. فهي -أي الحكومات- تتحلل بذلك من عبء لا تعرف كيف تتعامل معه.
ورغم أن اتساع الظاهرة يخفف الضغط مرحليا على الحكومات إلا أن القطاع ينفجر ويعود إلى الدولة لمطالبتها بتحسين ظروف العمل، بحسب سيف. ويضيف أن العاملين والمنشآت المتناهية الصغر ينضمون إلى القطاع غير الرسمي هربا من الإجراءات المعقدة. كما أن الحكومات العاجزة عن تأمين فرص عمل جديدة، وغير قادرة على تحسين بيئة الأعمال وتقديم حوافز للشباب العاطلين عن العمل.
وتُرجع ورقة بحثية، للباحث الاقتصادي عمرو عادلي، بداية تفشي الاقتصاد غير الرسمي إلى عهد الرئيس أنور السادات الذي تزامنت فيه تغييرات عدة على الأصعدة السياسية والاقتصادية لتنتج الوضع الحالي للاقتصاد المصري، الذي تغلب عليه اللارسمية.
وقد نمت الظاهرة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ففي تقرير قديم نسبيا لوزارة التجارة -صادر في 2003- مثلت المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر غير الرسمية نحو 83.5% من منشآت القطاع الخاص قاطبة في 1998، وذلك مقارنة بـ82.8% في 1988. وطبقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مصر -الصادر 2012- فإن أكثر من 60% من الوظائف التي تم خلقها في الفترة ما بين 2006 و2010 كانت ضمن أنشطة الاقتصاد غير الرسمي.
يقول صندوق النقد الدولي إن الاقتصاد الموازي ينشأ لعدة أسباب منها: تجنب الضرائب أو معايير ترخيص النشاط. كما أنه عمل وشبكة أمان لمن لا يمتلكون مهارات والتعليم المناسب، أو أنهم في مستوى من الفقر يحول دون حصولهم على الخدمات العامة والخدمات المالية.
ولكنه يوضح “العاملون غير الرسميين الأكثر ترجيحا للسقوط في براثن الفقر مقارنة بالعاملين في القطاع الرسمي، سواء بسبب افتقارهم إلى العقود الرسمية والحماية الاجتماعية أو لأنهم غالبا ما يكونون أقل تعليما”.
يؤكد محمد عبد العظيم، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسة، أن أحد أسباب اتساع مساحة منظومة الاقتصاد غير الرسمي تعود إلى عوامل عديدة لعل من أهمها التعقيدات الإدارية والبطء في الحصول على المستندات اللازمة لإنهاء إجراءات التسجيل واستخراج التصاريح اللازمة لمزاولة النشاط. وكذلك ارتفاع تكلفة استخراج المستندات اللازمة لتأسيس كيان قانوني، والعبء المالي الثقيل لمزاولة نشاط الأعمال في المنظومة الرسمية، سواء أكانت هذه التكلفة صريحة أم مستترة.
لكن أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية، عمرو عادلي، يظن أن علاج مشكلة الاقتصاد غير الرسمي يتطلب الذهاب إلى ما وراء تبسيط إجراءات التسجيل وإصدار التراخيص إلى حصر جوانب السياسات المختلفة التي تشهد حضورا كثيفا للاقتصاد غير الرسمي.
فبينما ينصب التركيز على اللارسمية في جزئية غياب المعلومات عن النشاط الاقتصادي وعدم القدرة على تحصيل الضرائب يتجاهل الكثيرون أن الغالب الكاسح من منشآت القطاع الخاص في مصر، التي عادة ما تكون صغيرة أو متناهية الصغر، يعتمد على طرق غير رسمية للحصول على التمويل من خلال شبكات العائلة والأصدقاء أو باستخدام المدخرات الشخصية، بحسب عادلي.
وأن هذه الأساليب بدائية الطابع هي المصدر الرئيسي لتمويل النشاط الاقتصادي في ظل محدودية تعامل الجهاز المصرفي الرسمي مع القاعدة الأعرض من القطاع الخاص “فالممارسة الاقتصادية في مصر تتطلب تحديثا وتطويرا والتحول لأشكال أكثر مؤسسية، ولكن لن يكون هذا إلا بالوقوف على الأهمية العضوية لما يوصف بالاقتصاد غير الرسمي، والانطلاق من تلك الممارسات في بحث إمكانية التحول لصيغ أكثر رسمية أو التوفيق بين العلاقات الاجتماعية غير الرسمية المنظمة للنشاط الاقتصادي وبين المؤسسات الرسمية للدولة”.
وذلك بدلا من اختزال القضية في الأبعاد الإجرائية والإدارية -والحديث لا يزال لعادلي- مع تجاهل الجذور الاجتماعية والثقافية بل والسياسية لظاهرة الاقتصاد غير الرسمي. ناهيك عن اختزال قضية التحول للاقتصاد الرسمي في “رغبات الجباية المكبوتة لدى الحكومة المصرية”.
كيف تحاول الحكومة؟
تسعى الحكومة بشكل حثيث لحصد أكبر قدر من الضرائب والرسوم السنوية من النشاط الاقتصادي غير الرسمي دون تقديم أي خطط حقيقية لتحسين بيئة العمل لتلك الأنشطة، بحسب مختصون وعاملون بهذا القطاع.
سنت الحكومة قانونا جديدا عام 2020، هدفه الرئيسي تشجيع انتقال القطاع غير الرسمي إلى الرسمي من خلال تقديم حوافز مالية وغير مالية لـتقدم للشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال الصاعدين تسهيلات ائتمانية وبرامج تدريبية.
واستفاد نحو مليوني عامل غير نظامي من مبادرة دعم العمالة خلال جائحة كورونا، والتي خصصت لها مصر أكثر من 5 مليار جنيه لمدة 6 أشهر، مع إنشاء قاعدة بيانات شاملة لأكثر من 6 مليون عامل غير نظامي لتمكين توافر بيانات أفضل عن العمال غير النظاميين ودعمهم في الحصول على وظائف لائقة، بحسب وزارة التخطيط.
لكن ريم عبد الحليم، دكتورة الاقتصاد المتخصصة فى مجالات السياسة الاقتصادية ومكافحة الفقر والعدالة الاجتماعية، تقول إن محاولات تحويل القطاع غير الرسمي لازالت في المنشآت الصغيرة والمتوسطة في مصر محدودة. وتركز بالأساس على “التسجيل” كهدف نهائي، ومن ثم توسيع القاعدة الضريبية. وبقى الحافز الوحيد المقدم للمنشآت هو وجود أصول رسمية متاحة لها تسمح بتقديمها للحصول على تمويل صغير لتوسعة النشاط.
وفي دراسة استقصائية، للقطاع غير الرسمي في مصر خاصة في مجال الألبان في محافظات مختلفة، أكد طارق ثابت، رئيس شركة ميجاكوم، أنه من أهم أسباب البدء والاستمرار في القطاع غير الرسمي عدم وضوح أوجه الاستفادة أو الاضطرار للتسجيل، والتخوف من الإجراءات والتكلفة والتعامل مع الجهات الحكومية.
يقول (أ . ع هــ)، صاحب وكالة لتوزيع المواد الغذائية بالجملة بالإسكندرية: “المشكلة اللي بتقابلني، إني لو فكرت أروح أسجل شغلي بشكل رسمي، فالإجراءات بتاخد مننا مبالغ كبيرة جدا بين مصاريف تراخيص، ومرافق بالسعر التجاري وخلافه. غير إنهم بيجبروني علشان أسجل نفسي، لازم أسجل نفسي والعمال في التأمينات، يعني مصاريف شهرية وضرايب كل سنة. وكل ده بدون أي استفادة حقيقية بترجع علينا. دلوقتي مهدد إني اقفل لأن لو الضرايب عرفت توصلي هاخد غرامة ممكن توصل لـ20 ألف جنيه، ده غير التراخيص اللي غرامتها بتوصل دلوقتي لـ50 ألف جنيه تقريبا”.
وألزمت الحكومة عربات تقديم الطعام المتنقلة بالتقدم للحصول على ترخيص لمزاولة المهنة بشكل سنوي بقيمة تتراوح بين ألفي إلى 5 آلاف جنيه. فيما أقرت غرامة على العربات المخالفة تصل إلى 20 ألف جنيه. وحددت أنشطة جديدة لم تكن مطالبة من قبل بالتسجيل ودفع الضرائب، بحثًا عن رفع الحصيلة السنوية للضرائب، مثل: السماسرة، صانعو المحتوى المرئي، توصيل الطلبات للمنازل.
ما هو سبيل الدمج؟
وفقا لصندوق النقد الدولي، يحتاج التصدي للنشاط غير الرسمي تحسين فرص الحصول على التعليم ومستوى جودته. وتجنب تصميم النظام الضريبي على نحو يؤدي دون قصد إلى زيادة حوافز البقاء في القطاع غير الرسمي أمام الأفراد والشركات: فمن المسلم به عموما أن النشاط غير الرسمي يتراجع كلما زادت بساطة أنظمة ضرائب القيمة المضافة والشركات. بجانب سياسات تحسين الشمول المالي. وتبسيط القواعد المنظمة لسوق العمل بغية تحقيق مرونة أكبر وتيسير دخول العاملين.
وطبقًا لدراسة أُعدت عام 1998، فأن أكثر من 66% من مكاسب الاقتصاد غير الرسمي يتم إنفاقها على الفور في الاقتصاد الرسمي، وهو ما يثبت أن توسع الاقتصاد الموازي يساعد في زيادة الطلب المحلي مما ينعكس بآثار إيجابية على الاقتصاد.
“ليس الهدف من ذكر هذه المظاهر الإيجابية التوصية بأن تتركه الحكومة ولا تتشابك معه، لكن الهدف هو تحليل وضع قائم حتى لا يكون الاقتصاد غير الرسمي دائمًا في خانة الاتهام”، يقول الباحث الاقتصادي محمد عباس.
ويرى خبراء اقتصاد أن 80% من أصحاب المشروعات الموازية لن يقبلوا الاندماج فى الاقتصاد الرسمى، بسبب ارتفاع التكلفة وما سينتج عنها من زيادة فى الأسعار فى ظل معدل التضخم الحالي.
يضيف عباس “حين يستشري الفساد داخل مؤسسات الدولة ولا يشعر المواطن مستثمرًا كان أو عاملًا بأثر ما يدفعه من ضرائب. وحين تكون البيروقراطية وتعقيد الإجراءات هي السمة السائدة لاستخراج أي تصريح حكومي، فإن المواطنين يتوجهون إلى ممارسة النشاط الاقتصادي خارج الإطار.. لتقليل مصروفاتهم”.
أما عمرو عادلي فيعتقد أن استشراء المعاملات غير الرسمية هي في آن معا، تعبير وسبب ونتيجة لضعف التنمية وللتخلف الاقتصادي والاجتماعي. وما من سبيل لكسر تلك الحلقة المفرغة إلا بتمكين قطاعات واسعة من النفاذ لرأس المال المادي (أراض صحراوية وتسهيلات ائتمانية ومهارات وتعليم وتدريب إلخ).
وذلك من الشباب في سن العمل من الجنسين (خاصة في ظل تحمل النساء للعبء الأكبر من البطالة). وفي المدينة والريف (في ظل تحمل الريف للفاتورة الأكبر من الإفقار جراء التحولات النيوليبرالية في المنطقة العربية)، حتى يتمكن هؤلاء من الاندماج في السوق الحرة وهم ينتجون أشياء لها قيمة يمكن تبادلها وتحقيق العائد من ورائها، لهم ولمن يحصل عليها.
“بمجرد أن تصبح السلع والخدمات والعمل ذات قيمة وعائد، ستنشأ القواعد الاجتماعية والسياسية الداعمة لبناء مؤسسات تحفظ الملكية الخاصة وتحقق عدالة التقاضي وكفاءته إلخ.. وليس بالعكس”، يختتم عادلي.