ما إن تجاوز ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مأزق عملية اغتيال الإعلامي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا، والذي كاد يقضي على طموحه. وكذلك تجاوزه أزمة المتمردين ومراكز القوى داخل العائلة الحاكمة في المملكة، بعدما أخضعهم قسرًا، عقب توقيف مئات الأشخاص في أوساط دينية وثقافية واقتصادية، حتى بدأ في صياغة دور إقليمي ودولي لبلاده، ينقلها من كونها إحدى القوى الرئيسية في المنطقة إلى الدولة القائدة على الأقل للمجموعة العربية. واستغل في ذلك الأزمات الاقتصادية التي تواجهها القوى التقليدية العربية، وفي المقدمة منها مصر والجزائر.
طموح الأمير الشاب وتوجهاته بدت واضحة خلال القمم الإقليمية التي أصر على عقدها في المملكة، وتقديم نفسه كراع للعلاقات سواء العربية الأمريكية أو تلك الصينية العربية. وقد تجاوز بذلك الأدوار التاريخية لمصر، أو تلك الناشئة من جانب الإمارات، التي يسعى نظامها بقيادة محمد بن زايد لترسيخها، في وضعية جعلته في مضمار المنافسة مع ولي العهد السعودي.
المملكة والصين
فاستضافت المملكة -خلال زيارة الرئيس الصيني- ثلاث قمم هي (السعودية – الصينية، والخليجية – الصينية، والعربية – الصينية). حضرها أكثر من 30 من قادة الدول والمنظمات الدولية. حيث حرص بن سلمان على حشد أكبر عدد من الزعماء العرب. رغم أن القمة العربية الصينية جاءت بعد أسابيع قليلة من القمة العربية الدورية في الجزائر، التي كان واضحًا أن هناك توجها سعوديا لتخفيض حجم التمثيل بها. خاصة بعدما فشلت المحاولات لنقلها من الجزائر إلى الخليج.
وبخلاف الرسالة التي أراد بن سلمان التأكيد عليها كراع أو وكيل عن القوى العربية في علاقتها مع القطب الصيني، مثلت زيارة الرئيس الصيني شي جين يبنج، تحديًا لواشنطن والرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يتزايد ضجره من نفوذ الصين في المنطقة. وهو الأمر الذي بدا واضحًا في تصريحه في ختام زيارته للسعودية، يوليو/ تموز الماضي. قال: “لن نغادر ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”.
اقرأ أيضًا: الضغط بالنفط.. سعودية بن سلمان واقع مغاير يحير واشنطن
جسدت زيارة شي جين بينج إلى السعودية واقعًا جديدًا ومنعطفًا تاريخيًا للمنطقة، التي ينظر لها منذ زمن بعيد كبؤرة نفوذ حصري للولايات المتحدة، خصوصًا عبر تواجدها العسكري. حيث في ظل توتر العلاقات بين الرياض وواشنطن أصبحت ترتسم صورة أخرى عن العلاقات الأمريكية السعودية. واعتبرت زيارة شي مؤشرًا على هذا التغيير الحاصل في العلاقات الدولية، لعالم تريده الصين وروسيا ودول أخرى متعدد الأقطاب.
قبل الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني، في يوليو/ تموز الماضي، وقف الحاكم الفعلي للمملكة حاشدًا قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، على الأراضي السعودية؛ لاستقبال الرئيس الأمريكي. وهي الزيارة التي وصفت بالتاريخية. خاصةً أنها جاءت في وقت كانت العلاقات السعودية الأمريكية تمر بمرحلة ربما تكون الأكثر توترًا على خلفية مواجهة غضب الولايات المتحدة من سياسة الطاقة في المملكة، وضغوط واشنطن للمساعدة في عزل روسيا، ومن قبلها تصريحات بايدن خلال حملته الانتخابية التي توعد فيها المملكة بجعلها كيانًا منبوذًا. الأمر الذي لم يحدث.
معادلة قيادة المنطقة
طموح بن سلمان، الذي يقول إن والدته ربته بأسلوب صارم، ليس له حدود. ووفقًا للضابط السابق في الاستخبارات الأمريكية بروس ريديل ومدير مشروع الاستخبارات في معهد “بروكينجز” بواشنطن، فإن الأمير الشاب “معروف عنه أنه متحمس وطموح، كما أنه متعجل لإجراء الإصلاحات التي يفكر بها”.
نجح محمد بن سلمان، الذي يتمتع بتأثير كبير على والده، في الحصول على سلطة ونفوذ استثنائيين خلال فترة ضئيلة. ومع سيطرته على القرار السعودي، تبنت المملكة تحت إدارته سياسة خارجية أكثر هجومية، واتخذت موقعًا أكثر بروزًا على الساحة الدولية. فلم تتردد في الاحتكاك بحليفتها الولايات المتحدة منذ الأيام الأولى لبايدن في البيت الأبيض.
وقدأكد بن سلمان، خلال حديث مع مجلة “ذي اتلانتيك”، أنه غير معني برأي الرئيس الأمريكي في وضع حقوق الإنسان بالمملكة.
اقرأ أيضًا: الحصانة الأمريكية لـ”بن سلمان”.. مقتل جمال خاشقجي للمرة الثالثة
يسعى الحاكم الفعلي للمملكة، لتصدر المشهد الإقليمي، عبر إدارة معادلة بين القوى العالمية. وهي المغامرة التي يرتكز فيها على حشد القوى العربية خلفه، مستغلال اقتصاد بلاده المزدهر في الوقت الراهن، بفعل ارتفاع أسعار النفط العالمية في شراء المواقف العربية والدولية، تارة بالودائع الدولارية في البنوك المركزية، وتارة بالاستثمارات، وأخرى بالمساعدات المباشرة.
عزز الوضع الذي بات فيه بن سلمان حاليًا موقفه في مواجهة الإدارة الأمريكية. فرغم تعهد بايدن بوجود “عواقب” على الرياض بعد خفض إنتاج أوبك+ في وقت سابق. لكن واشنطن أكدت دعمها لأمن المملكة. حيث شدد المسئولون الأمريكيون على “الميزة النسبية” للولايات المتحدة في بناء هياكل دفاعية متكاملة في الخليج.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي، للصحفيين في 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إن واشنطن تريد التأكد من أن علاقتها الاستراتيجية مع الرياض تعمل “لمصلحتنا”. وعبرت واشنطن عن قلقها إزاء استخدام دول الخليج العربية لتكنولوجيا الجيل الخامس الصينية والاستثمارات الصينية في البنية التحتية الحساسة مثل المواني. فقط عبرت عن القلق.
تجاوز الرمزية الدينية
تصرفات بن سلمان، خلال الفترة الماضية، تشير إلى أن تصوره للمملكة يتجاوز الرمزية الدينية، وكذا كونها محفظة مالية يقوم حكامها بشراء الحماية والنفوذ سواء بدعم القوى العربية والإقليمية ذات التأثير، أو تلك الدولية المتحكمة في القرار العالمي.
يركز الأمير الشاب على تنفيذ خطته 2030 التي أطلقها لفطم الاقتصاد السعودي عن النفط، بإنشاء صناعات جديدة. بما في ذلك تصنيع السيارات والأسلحة، وكذلك الخدمات اللوجستية. ذلك على الرغم من أن الاستثمار الأجنبي المباشر كان بطيئًا.
وتستثمر المملكة بكثافة في البنية التحتية الجديدة والمشاريع العملاقة في السياحة ومبادرات مثل منطقة نيوم التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار.
العلاقة مع الجزائر
عرفت العلاقات الجزائرية مع المملكة العربية السعودية حالة من الفتور خلال السنوات الأخيرة، نتيجة تضارب المواقف بشأن عدة خيارات إقليمية.
فمنذ منتصف العام الجاري، تؤكد العديد من التقارير الدولية تأجيل زيارة ولي العهد السعودي إلى الجزائر عدة مرات. ذلك بسبب الخلافات، وحملة المقاطعة غير المعلنة لقادة عرب من منطقة الخليج للقمة العربية التي احتضنتها الجزائر مطلع الشهر الماضي. خاصة في ظل المواقف الجزائرية المعلنة بشأن العلاقات مع إيران، ودعم النظام السوري. حيث ظلت الجزائر تدافع لصالح عودة سوريا إلى موقعها في الجامعة العربية. فضلًا عن إدراجها لعلاقاتها مع إيران في نطاق سيادتها الوطنية. وهو الأمر الذي يمثل حساسية بالغة للرياض، التي يرغب حاكمها الفعلي في ضبط القرارات الإقليمية ذات الصلة للقوى العربية الكبرى، بما يتماشى مع بوصلة المصالح السعودية.
والجزائر التي لم تستسغ غياب العاهل السعودي وولي عهده عن القمة العربية التي احتضنتها في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني، واكتفاء الممكلة بوزير خارجيتها فيصل بن فرحان لتمثيلها، اتبعت نفس النهج عندما تخلف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن القمة العربية الصينية، التي حشد لها بن سلمان. حيث مثل الجزائر الوزير الأول أيمن عبد الرحمن.
اقرأ أيضًا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم
مظاهر الممانعة الجزائرية لتوجهات الأمير الشاب الراغبة في الاستحواذ على القرار العربي عبر قيادة دول الجامعة العربية، بدت واضحة في تصريحات سابقة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال زيارته الكويت مطلع العام الجاري. نفى أن تكون “الجزائر الجديدة” (يقصد بعد سقوط نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة) مجرد رئيس جديد، مؤكدًا أنها “تفكير جديد وأساليب جديدة”.
ولم يفت تبون التأكيد على حجم بلاده ومكانتها التاريخية. قال إن الجزائر وعلى الرغم من البعد الجغرافي عن دول الخليج، إلا أنها تحاول الاقتراب منهم والدفاع عنهم. مضيفًا: “ما يمسهم يمسنا، من يمس الكويت أو قطر أو السعودية كأنما مس الجزائر”.
في الخلاصة، يمكن القول أن ولي العهد السعودي بدأ في تدشين مرحلة جديدة، في إطار خططه وطموحاته الرامية إلى رسم صورة إقليمية ودولية جديدة. لكن هذ الطموح يصطدم بالقوى العربية التاريخية، التي لا تزال مؤسساتها صامدة، وتكافح ظروف اقتصادية صعبة.