لم يكن حصول 5 مصورين صحفيين مصريين على جائزة أفضل صورة صحفية خبرية في عام 2022 عن كادرات التقطتها عدساتهم لمشاهد جنازات وعزاءات، سوى دليل على الأيام السوداء التي تمر بها الصحافة المصرية في السنوات الأخيرة.
«تشييع الصورة الصحفية»، هو العنوان الصحفي الأبرز الذي يمكن لمحرر ديسك أن يضعه على متن خبر الحفل السنوي لشعبة المصورين بنقابة الصحفيين، والذي أقيم بساقية الصاوي الخميس الماضي لتسليم جوائز «أفضل صورة صحفية في مصر 2022».
رغم مشاهد الاحتفال وحالة البهجة التي عمت أجواء حفل توزيع الجوائز، إلا أن ما بين السطور يجعل أي مهتم بحال الصحافة يصاب بالحسرة على ما آلت إليه مهنتنا التي صارت هي والموت صنوان متلازمان في هذه الحقبة الخانقة.
مسابقة «أفضل صورة صحفية في مصر عن عام 2022» شملت 8 فروع، هي «الصورة الخبرية، الصورة الرياضية، القصة المصورة، صورة الحياة اليومية داخل مصر، الحياة اليومية خارج مصر، فرع الملتيميديا، فرع طلبة الجامعات، وصور التغيير المناخي».
ما يعنينا في هذا المقال هو فرع «الصورة الخبرية» باعتباره مفتاح فهم المناخ العام الذي يُهيمن على مهنة الصحافة، ويفترض أن تغلب على الأعمال المشاركة في هذا الفرع التنوع والتعدد والحيوية والطزاجة.
الزملاء المصورين الصحفيين تقدموا بـ 34 صورة لنيل الجوائز الخمس الأولى عن هذا الفرع. 20 صورة من تلك الصور تم التقاطها من حدث واحد وهو تشييع جنازة ضحايا حادث كنيسة أبوسيفين في الجيزة في شهر أغسطس الماضي، و3 صور من تشييع جنازة المحامي فريد الديب في شهر أكتوبر الماضي والتي شارك فيها جمال مبارك نجل الرئيس الراحل حسني مبارك وتحول ظهوره فيها إلى حدث يستحق التوثيق والنقل، وصورتان من جنازة الفنان سمير صبري في مايو الماضي، وصورة من جنازة المفكر السياسي القومي أمين إسكندر الشهر الماضي، وصورة من جنازة نجل الفنانة رجاء حسين في أغسطس، وصورة أخرى من جنازة أحد شهداء الواجب، وصورة من انهيار سور مدرسة بقرية المعتمدية في الجيزة، وأخرى لخروج المنتخب المصري من كأس العالم، وصورة لقاتل الطالبة نيرة أشرف وهو في قفص الاتهام أثناء محاكمته.
حُسمت الجوائز الخمس الأولى في هذا الفرع، بواقع 4 صور من جنازة شهداء كنيسة أبو سفين، وصورة لجمال مبارك وهو يشارك في تشييع جنازة المحامي فريد الديب والجماهير تحتضنه وتسعى لتقبيله في مشهد تراجيدي يبرز حنين الفقراء والمهمشين لعهد الرئيس الراحل الذي رغم خلعه بثورة شعبية شارك فيها ملايين المصريين إلا أن السواد الأعظم من هؤلاء باتوا يتحسرون على أيام حكمه من فرط البؤس الذي أحاط بهم في عهد السلطة التي تحكمهم الآن.
بنظرة سريعة على تلك الأعمال تستطيع أن تقول إن الصحافة المصرية إما أنها ماتت وجرى تكفينها وشُيعت جنازتها خلال العام الذي يوشك على الرحيل، أو أنها على سرير الموت وفي انتظار من يشيعها وينقلها إلى مثواها الأخير، أو أن صحفييها ومصوريها «نكدية، وبؤساء» لا يستهويهم سوى صور الجنازات ومشاهد الموت، أو أن تلك البلد عدمت من الأحداث ونضبت فيها الأخبار وصار الحدث الأبرز الذي يجذب أبناء صاحبة الجلالة ويناديهم هو الموت.
الحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك ولا تلك، فالحالة التي وصلت إليها الصحافة هو نتاج الحصار الذي فرضته السلطة على المنصات الصحفية وعلى الصحفيين الذين اختار جلهم غنيمة «البعد عن موقع الأحداث»، فذلك أسلم وأضمن لهم من الملاحقة والحبس، فوجود الصحفي أو المصور في موقع الحدث وسعيه لممارسة مهام عمله دون الحصول على تصريح مسبق صار جريمة يعاقب عليها وفقا لقانون تنظيم الإعلام رقم 180 لعام 2018.
المادة 12 من القانون المشار إليه أجهزت على المهنة بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ فرضت على الصحفي أو المصور الذي يسعى إلى تغطية أي حدث بغض النظر عن أهميته أو تفاهته الحصول على تصريح قبل تأدية عمله، وهنا أصبح وجود الصحفي في محل أي حدث دون إذن مسبق مخالفة صريحة للقانون تستوجب الملاحقة والمساءلة والعقاب.
ويشير مجدي إبراهيم رئيس شعبة المصورين الصحفيين إلى أن القانون الحالي الذي من المفترض أن ينظم العمل الصحفي صادر حق المصوريين الصحفيين في ممارسة عملهم في نقل الأحداث إلى الجمهور، «المادة 12 تعوق عمل الصحفي والمصور معا، فحتى نتمكن من النزول لتغطية حدث آني يجب علينا أن نحصل على تصريح مسبق وهو أمر شبه مستحيل».
ويلفت إبراهيم النظر إلى أن حالة الفقر التي أصابت مسابقة التصوير الصحفي تحديدا فرع الصورة الخبرية، ليس لها علاقة بكفاءة المصوريين أو دأبهم وشغفهم، لكنها متعلقة بالواقع القانوني الجديد الذي قيد حرية العمل الصحفي وفي القلب منه التصوير، «يُمكن للصحفي أن ينزل إلى موقع الحدث ويمارس عمله خلسة في ظل القانون الحالي، لكن المصور الصحفي لا يمكنه أن يقوم بمهمته خلسة فمعدات التصوير التي يحملها تفضحه، لذا معظم المؤسسات الصحفية أخذت بالحل الأسلم وأصبحت لا تكلف مصوريها بالنزول إلى الأحداث المثيرة للقلق».
ويشدد إبراهيم على أن المصورين الصحفيين «لديهم الوعى والإدراك الكافى الذي من شأنه الحفاظ على الوطن وعدم نشر أو إظهار كل ما يمكن أن يسيء للبلاد».
وفي ظل هذه الحالة صارت الصور المعلبة والكادرات المصنعة التي ترسلها المصادر الرسمية هي البديل أمام المؤسسات الصحفية، «لا ترصد تلك الصور ما يشبع شغف المتلقي، فهي كادرات مفلترة مرت على أكثر من رقيب، وبالتالي نزع منها كل ما هو مثير»، يقول أحد المصورين الصحفيين الذين شاركوا في المسابقة الأخيرة، مشيرا إلى أن مهمته في السابق كانت نقل وتوثيق الحدث -سلبياته قبل إيجابياته- وتقديم تقارير بصرية عن كل ما يدور في البلد، «وهو ما تغير 180 درجة الآن بعدما صار مجرد وجودي حاملا أدوات التصوير الاحترافية مخالف للقانون».
في كتابه «الصحافة المصورة والأخبار في عالم اليوم.. خلق واقع مرئي» يقول لوب لانجتون مدير برنامج الصحافة البصرية في كلية الإعلام بجامعة ميامي الأمريكية أن المصورين الصحفيين عليهم مسئولية توثيق ما يدور في المجتمع والحفاظ على تاريخه، «الدور الأساسي للمصورين الصحفيين هو تقديم تقارير بصرية عن الأحداث المهمة، وعن وجهات النظر المختلفة، وهدفهم هو التصوير الأمين والشامل للموضوع الذي يعملون عليه».
ويشير لانجتون إلى أن الصور الفوتوغرافية ولقطات الفيديو تعمل على كشف الحقائق الكبرى، وفضح الأخطاء والإهمال، وبث الأمل والتفاهم والربط بين الناس في جميع أنحاء العالم عبر لغة التفاهم البصري، داعيا زملاءه المصورين إلى الالتزام بالمعايير المهنية، ومراعاة مشاعر وثقافة الأشخاص موضوع الصور والتعامل معهم باحترام.
لم تكتف السلطة الحالية بالتدخل الناعم والخشن في صناعة الصحافة، فللأسف شرعنت تلك الممارسات وحولتها إلى مواد في قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذي صدر نهاية عام 2018، وكان من نتاجه أن تتحول صحافتنا وإعلامنا إلى صحافة الصوت الواحد والرأي الواحد والمانشيت الواحد والصورة الواحدة.
غلبة صور الجنازات على مسابقة الصور الخبرية لعام 2022، رسالة إلى كل العاملين والمهتمين والمتابعين لحال الحريات ومنها بالطبع حرية الصحافة، رسالة حزينة لمشهد قاتم يجب علينا أن نشارك جميعا في الضغط لتغييره.
الأنظمة المستبدة فقط هي التي تتعمد تضليل المواطن، فتحجب عنه المعلومات والآراء وحتى الصور التي توثق له الأحداث، وتقدم له بديلا عن ذلك محتوى مصنوع في غرفها المغلقة، ظنا منها أنه لن يصل إلى الحقيقة عبر مصادر آخرى، بعد أن فقد الثقة في كل المنصات التي تسيطر عليها.
«لا يجوز للسلطة أن تفرض وصياتها على العقل العام، وألا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه ولا عائقا دون تدفقها، ومن ثم لم يعد جائزا تقييد حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخى قمعها»، يؤكد حكم للمحكمة الدستورية العليا صدر عام 2001.
ويشدد الحكم على ضرورة ضمان الدولة لحرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو التصوير أو الطباعة أو التدوين وغير ذلك من وسائل التعبير، «إذ يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التي تجول في عقولهم ويطرحونها عزما -ولو عارضتها السلطة العامة- إحداثا من جانبهم -وبالوسائل السلمية- لتغيير قد يكون مطلوبا».
ويضيف الحكم: «أن حرية التعبير التي كفلها الدستور هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي، فلا يقوم إلا بها، ولا ينهض مستويا إلا عليها؛ وما الحق في الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة، الحريصين على متابعة جوانبها، وتقرير موقفهم من سلبياتها إلا فرع من حرية التعبير ونتاج لها، وهي التي ترتد في حقيقتها إلى الحرية الأم وهي الحرية الشخصية التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله؛ ومن أجل هذا جعلها الدستور مصونة فلا تمس».