أمام المنافذ المتحركة لبيع السلع المجمدة أمام صيدلية الإسعاف بوسط القاهرة، يقف محمد عبد الرحمن، الذي يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية، ينتظر دوره في الحصول على لحوم مجمدة. يسأل البائع المتأفف من كثرة الأسئلة طوال اليوم عن أسعار جميع البضائع المعروضة لاختيار الأرخص، وليس الأجود منها.
“عبد الرحمن” من المنضمين الجدد للشراء من سيارات بيع السلع المخفضة بعدما بات عاجزًا عن شراء اللحوم والدواجن الطازجة بسبب ارتفاع أسعارها، ليجد ضالته في المنافذ، التي تعرض بضائع يقول إن أسعار بعضها حاليًا يناسبه والآخر أصبح أعلى من طاقته.
تبلغ أسعار اللحوم الطازجة حاليًا ما بين 180 و200 جنيه للكيلو، حسب كمية الدهون بها. بينما يصل سعر كيلو الدواجن الطازجة إلى 47 جنيهًا للكيلو قبل الذبح. وبالمنافذ يمكنه الحصول على طبق لحم مجمد بسعر 75 جنيهًا، وطبق من “دبابيس” الدجاج بسعر 45 جنيهًا فقط. وهو سعر أقل بـ 30 جنيهًا من مثيله بالسوق.
الطبقة المتوسطة وأرنب الأسعار
يجسد “عبد الرحمن”، الذي يقف في الصف بزي رسمي ولا يستطيع الوقوف طويلًا في أشعة الشمس رغم أننا في ديسمبر/ كانون الأول من هذا العام الجاري، واقع الطبقة المتوسطة في مصر، بعد تعويمين متتاليين “2016- 2022” للجنيه المصري أمام الدولار، خفضا قيمة العملة بما يزيد على 57% من قيمتها. في ظل تضخم تجاوز عتبة الـ 18.5% في الحضر، بحسب الجهاز المركزية للتعبئة والإحصاء.
لا يحصل “عبد الرحمن” على دعم تمويني وعليه شراء احتياجاته كاملة من الخبز والزيوت والسكر بالسعر الحر. ومع إيجار الوحدة السكنية التي يعيش بها، والذي ارتفع إلى 3000 جنيه، والمواصلات وأسعار المنتجات، أصبح راتبه في سباق غير متكافئ كحكاية السلحفاة والأرنب.
لكن هذه المرة أرنب الأسعار لا يتوقف ليلتقط أنفاسه، ولن تكسب السلحفاة بالصبر.
تمثل الطبقة المتوسطة مِلح المجتمع الذي لا غني عنه. فهي الشريحة الأكبر من المهنيين والتكنوقراط من ذوي الدخل الثابت. وهي طبقة مثيرة للجدل. إذ لا يوجد تعريف ثابت واضح لها في أبجديات الاقتصاد.
لكن أفضل التعريفات ربما أنها مجموعة من السكان تحتل مواقع داخل تنظيمات العمل وتقوم بأدوار مختلطة بها لتضم فئات مثل المديرين وأستاذة الجامعات والشراح من البرجوازية الصغيرة التقليدية مثل الحرفيين، ومن يعملون لحساب أنفسهم كالأطباء والمهندسين والمحامين والمحاسبين وغيرهم.
وضع اقتصادي صعب
تعاني الغالبية العظمي من تلك الطبقة المتوسطة حاليًا من عدم كفاية الدخل وتأثر أوضاعها الاقتصادية، التي أدت إلى انحسار علاقاتها الأسرية والعائلية وأدوارها المجتمعية. كما ظهر أيضًا عزوف بين أبناء تلك الطبقة عن المشاركة السياسية، وانخفاض مستوى ثقتها بمعظم مؤسسات الدولة. وتوقع الغالبية تعرضها لمزيد من الفقر في المستقبل.
تذكر دراسة لجامعة المنيا بعنوان “التحولات الاقتصادية وتأثيراتها على الطبقة الوسطي الحضرية“، أنه منذ بداية عام 2016 هبطت آلاف الأسر من الطبقة المتوسطة إلى أحزمة الفقر بدلًا من أن تصعد لأعلى أو تحافظ على مكانتها. ذلك نتيجة ثبات دخولها والانخفاض المتتالي في قيمة العملة. علاوة على تركيز الجهود الحكومية “كما يقول ويرى البعض” على محدودي الدخل.
وتقوم هذه الطبقة الوسطى بدور الدولة تجاه نفسها وبنفسها من حيث تعليم أبنائها وعلاجهم وتحمل العبء الأكبر في الضرائب (ضرائب الدخل التي تخصم من المنبع).
“محمود. ن”، مُدرس مساعد بجامعة القاهرة، أحضر أسرته من القرية بعد زواجه مباشرة، بحثًا عن حياة أفضل وتعليم أحسن لأولاده في 2014، ليشهد في العاصمة التعويم الأول والثاني، ويضطر مجددًا لإعادة أسرته إلى القرية. إذ لم يعد قادرًا على تكاليف الحياة مع ارتفاع الأسعار المتتالي في العاصمة.
يقول: “بعد تخرجي ظللت مقيمًا في شقق بمنطقة بين السرايات. حينما تزوجت وأنجبت. أردت الاستقرار فأحضرت أسرتي من شقتي الخاصة بالقرية إلى أخرى مؤجرة بمنطقة الهرم، لتبدأ رحلة تصاعد الإيجار وارتفاع تكاليف الحياة. أعدت زوجتي وأبنائي مجددًا للقرية مضطرًا. لا توجد وسيلة لتحسين الدخل”.
طبقة مطاطة
للكاتب الساخر الراحل محمد عفيفي مقولة شهيرة يلخص بها حال الطبقى الوسطى في مصر. يذكر أن “فاكهة المانجو تسبب مشكلة ضميرية مزمنة للطبقة المتوسطة. لأن الفرد من هذه الطبقة يمكنه شراء هذه الفاكهة مهما غلا ثمنها. لكنه يعرف أن زيادة قطع عدد ثمرات المانجو على المائدة يقابله نقص في عدد قطع اللحم على المائدة ذاتها”.
هذه الوسطية مشكلة لطبقة تملك شيء من كل شيء. فهي ليست معدمة مفلسة كالطبقة الدنيا. لكنها أيضًا ليست متخمة كالطبقة الراقية، تملك الدوافع والآمال والمطامع والإمكانات، كما يقول الطبيب والكاتب الراحل مصطفى محمود.
مشكلة الطبقة المتوسطة أن لديها قدر من الاعتداد بالذات بحكم المستوى التعليمي والوظيفي، الذي يجعلها غير قادرة على المناورة على الإنفاق بحكم المدرس المساعد بجامعة القاهرة، الذي يقول إنه لا يستطيع أن يركب ميكروباص حتى لا يختلط بالطلبة ويقل مظهره الاجتماعي بينهم، فيضطر لاستخدام التاكسيات يوميًا حتى لو كانت عبئًا على دخله. كما لا يمكنه شراء ملابس من أماكن شعبية كالعتبة من أجل السبب ذاته.
أحمد محفوظ، مدرس تربية رياضية، يقول إن حال الطبقة المتوسطة يمكن معرفته جيدًا من طبيعة الإنفاق الأساسي خارج نطاق الطعام. فهو على سبيل المثال لم يشتر أي قطعة ملابس سواء خارجية أو داخلية أو أحذية جديدة له منذ قرابة الأربعة سنوات. واضطر للمرة الأولى في حياته أن يزور خلالها محلات الرفا لإصلاح الملابس القديمة لعدم قدرته على شراء الجديد.
يضيف محفوظ أنه أضطر أخيرًا للعمل في صيدلية بقريته من أجل تعزيز الدخل براتب هزيل لا يتعدى 1500 جنيه شهريًا لحكم أنه لا يستطيع كمدرس ألعاب أن يعزز دخله عن طريق الدروس الخصوصية، وعليه التزامات في الوقت ذاته لطالبين أحدهما في المرحلة الثانوية والثاني في الجامعة.
توقع بتحسن
بحسب تقديرات “مؤسسة فيتش سولوشنز” العام الماضي (قبل التعويم الثاني) كان الحد الأدنى للطبقة المتوسطة 4269 دولارًا تعادل حينها 78 ألف جنيه مصري، وحاليًا 105.6 ألف جنيه. بينما الحد الأقصى 8533 دولارًا، بما يعادل حينها 156 ألف جنيه. وحاليًا 209.6 ألف جنيه.
لكن الوكالة ذاتها، توقعت أن تشهد الأسر المصرية المنتمية للطبقة الوسطى انتعاشًا بحلول عام 2025، لتزيد بنسبة 58.2% بحلول عام 2025. وذلك في ضوء وتيرة النمو الاقتصادي عام 2021، مضيفةً أن الأسر التي يزيد دخلها السنوي على 390 ألف جنيه سيرتفع لـ 11% مقارنة بـ4% بالعام الماضي.
حمدي رشدي، الذي يعمل في شركة للاتصالات، يؤكد أن الطبقة المتوسطة تحاول المناورة حاليًا للبقاء في المستوى الذي تعيشه. فهو على سبيل المثال اضطر لتغيير صنف لبن وحفاضات أطفال مستوردة بأخرى محلية قليلة الجودة من أجل رضيعيه التوأم، غير معتد بنصيحة الطبيب حول أهمية الحفاضات مرتفعة التكاليف. يقول: “الدكتور عايش في عالم تاني ولن يسلفني في آخر الشهر”.
يقول حمدي إن علبة الأطفال التي ينصح بها الطبيب بسعر 300 جنيه للطفل الواحد (600 جنيه للطفلين) هي أمر يفوق قدرته بمراحل. لذا اختار بديل محلي بسعر 100 جنيه للعلبة الواحدة.
ارتفعت الحفاضات أيضًا إلى 308 جنيهات، فاستبدلها بأرخص نوع متاح بسعر 200 جنيه. وهو مرتفع أيضًا لكن “ما باليد حيلة”؛ كما يقول.
تتسع أم تنكمش؟
مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، محمد فايز فرحات، يقول إن قياس حجم وحالة الطبقة الوسطى لا يمكن اختزاله في متغير الدخل، سواء الاسمي أو الحقيقي. إذ لا بد من الأخذ في الاعتبار مجموعة مركبة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للوقوف على تقدير حقيقي لحجم هذه الطبقة. وهو ما يجعل الوصول إلى هذا التقدير مسألة شديدة الصعوبة والتعقيد.
يطالب فرحات بقياس مؤشرات مثل حجم الإنفاق على التعليم بمستوياته المختلفة، وحجم الإنفاق على التأمين الصحي الخاص وتأمينات الحياة، وحجم الإنفاق على الأنشطة الترفيهية (الإنفاق على السياحة الداخلية، والمطاعم والكافيهات وغيرها). وهو بند متزايد في هيكل إنفاق الأسرة المصرية. ويعتبر أن المؤشرات الثلاثة سالفة الذكر تكشف عن اتساع حجم الطبقة الوسطى بمصر، وليس تراجعها كما تذهب بعض الافتراضات.
صفاء جابر، عضو مجلس النواب، تقول إن الطبقة المتوسطة ينتمي إليها 60% من المصريين وتتحمل المسئولية الاجتماعية عن كاهل الدولة في دعم المؤسسات الخيرية والجمعيات الأهلية فيما تقدمه من مشروعات خيرية وما تقدمه من مساعدات مادية وعينية للطبقات الفقيرة والمعدمة.
منذ ارتفاع مستويات التضخم تعاني المستشفيات التي تقوم على تبرعات المواطنين من تراجع كبير في حجم التبرعات ووصلت إلى مستشفيات سرطان الأطفال. ما يشير بجلاء إلى أن الطبقة المتوسطة كانت داعمة لجهود الدولة بشكل غير مباشر في القيام بأدوار الرعاية الصحية لغير القادرين.
تضيف النائبة -في طلب إحاطة- أن الطبقة المتوسطة بمصر، حاليًا، تعاني أشد المعاناة في أهم مجالات المعيشة في مصر الصحة والتعليم والسكن. ذلك بعد أن تراجعت دخولها، وزادت ضغوطها. وهي تقاوم من أجل تلبية متطلباتها الأساسية. وتصارع من أجل البقاء للحفاظ على نفسها بعد أن أصبحت على مشارف الطبقة المحدودة.
لقد باتت هناك حاجة مُلحة -في ظل الغلاء العالمي الفاحش وتزايد الحاجات- للحفاظ على الطبقة المتوسطة، حتى لا تتآكل تدريجيًا، نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة وغلاء المعيشة والسكن والدواء، كما تقول النائبة التي تطالب بمنح حزمة من برامج الحماية الاجتماعية لهذه الطبقة من أجل الحفاظ عليها؛ لأنها رمانة ميزان المجتمع.
تدابير مطلوبة
ويرى الدكتور محمود محيي الدين، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، ضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لحماية الطبقة المتوسطة. ولن يكون ذلك إلا بتحسين رواتبها وتهيئة بيئة عمل مناسبة لها وفقًا لإنتاجياتها. مع دعم الرعاية الصحية والتعليم وتوفير وسائل المواصلات.
ويعتبر محيي الدين أن حماية الطبقة المتوسطة هو بمثابة تحد تواجهه دول العالم أجمع وليس مصر فقط. مؤكدًا في الوقت نفسه على ضرورة تطوير المنظومة التعليمية التي تبدأ بجعل المعلم من الفئات الأفضل دخلًا، قبل بناء مدارس جديدة.