ربما كان من أهم أسباب إخفاق ثورة 25 يناير 2011 في إطلاق عملية تحول ديموقراطي في مصر كالتي شهدتها دول أخرى بعد ثورات مماثلة، بل وفشل محاولات إرساء أسس الديموقراطية في مصر عموماً، قبل ثورة يناير وبعدها، وقبل ثورة 23 يوليو 1952 وبعدها، هو أن مبدأ الديموقراطية ذاته ظل محل خلاف كبير في مصر، يستوي في ذلك النخبة الحاكمة وكوادر السلطة والإدارة أو عموم المجتمع، بل وحتى بين كثير من المعارضين.
اقرأ أيضا.. إعاقة الديمقراطية بين الاستعمار والاستبداد
صحيح أن مصر مرت بلحظات تطَّلَع فيها المجتمع إلى الديموقراطية كوسيلة لتحقيق آماله في حياة كريمة حرة، كما حدث في الفترة التي أعقبت ثورتي 1919 و25 يناير، وتجسد في تفاعل شعبي عريض مع العملية السياسية والانتخابات، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تراجعت الثقة في الديموقراطية كمنهج للحكم، واتجهت الغالبية إلى البحث عن مسارات بديلة تتصور أنها أكثر كفاءة وفاعلية، وأقرب للموروث الثقافي التقليدي المعهود.
والحقيقة أن الرأي الغالب في المجتمع، خارج تلك اللحظات العابرة، وشرائح محدودة من النخبة، لا يعتقد أن هناك مكاناً للديموقراطية في مصر، ليس اقتناعاً بأنها نظاماً سيئاً في ذاته، وإنما لعدم ملاءمته لواقع مصر، حيث لا يصلح إلا حكم مستبد.
يساق تأييداً لذلك أربع حجج رئيسية:
الأولى: هى أننا لم نكتسب بعد مؤهلات الديموقراطية سواء كمواطنين، من تعليم ووعي وعقلانية واعتدال ديني يسمح لنا بممارستها، أو كقوى سياسية، من حيث اكتمال هياكلها وامتلاكها قواعد سياسية جماهيرية تمكنها من دخول انتخابات وكسب ثقة الناخبين. يلحق بذلك القول بأن مصر تحتاج إلى فترة انتقالية من الحكم الاستبدادي ليتولى وضع الأسس اللازمة لبناء نظام ديموقراطي، ليمكن بدء عملية التحول نحوه.
الثانية: هي أن مصر لديها أولويات أخرى أكثر إلحاحاً في المرحلة الحالية، مثل قضايا الأمن والاستقرار، أو التنمية الاقتصادية، أو غيرها من تحديات حقيقية يواجهها الوطن والمواطنين، أو مبالغ فيها بحسن نية أو سوء قصد، وأن المواطنين لو سُئِلوا رأيهم، ستقول الأغلبية أن الديموقراطية ليست ضمن أولوياتهم، وإنما خلق فرص العمل وتحسين الأجور وتوافر السلع التموينية والتعليم والرعاية الصحية هى الأَوْلَى. بعبارة أخرى، فإننا الآن مشغولون بأولويات الناس، وبعد التقدم فيها بما يكفي، يمكننا فقط الاعتناء بالرفاهيات، والتي تنتمي إليها الديموقراطية، مثلها مثل الفنون الرفيعة، وقضايا الرفق بالحيوان، وغيرها من أمور تهم الصفوة في الأساس.
الثالثة: أن أمور الدولة في بلاد كبلادنا أكبر من أن يدركها العوام، وهو ما يضاف إليه في كثير من الأحيان مقولة أننا في منطقة صعبة، وتحيط بنا تهديدات عظيمة، لا يعرف العامة أسرارها وبالتالي لن تنعكس متطلبات التعامل معها في اختياراتهم السياسية لو طبقت الديموقراطية.
الرابعة: هي أن الديموقراطية ليست إلا نظاماً سياسياً من بين نظم متعددة، يختار من بينها كل مجتمع حسب ظروفه، وكما أن هناك ديموقراطيات ناجحة، فهناك ديموقراطيات فاشلة، الأمر الذي ينطبق أيضاً على الديكتاتوريات، كما أن الديموقراطية لا تحول دون ارتكاب الأخطاء سواء في حق غيرها أو في حق نفسها، بما يجعلها لا تختلف عن غيرها من نظم سياسية.
ورغم أن هناك من يسوقون هذه المبررات لتغطية رغبتهم الدفينة في إبقاء الأوضاع على حالها، أو سعياً للبقاء في السلطة وتحصين أنفسهم من النقد أو المحاسبة، فإن قطاعاً عريضاً يقولها عن اقتناع حقيقي، حتى الذين يرون أن الوصول إلى الديموقراطية -يوماً ما!- سيكون أمراً رائعاً لمن سيشهدونه. وسأحاول في الأسطر القادمة الرد على هذه الحجج، وشرح الأسباب التي تجعل مصر في أمس الحاجة للانتقال إلى نظام ديموقراطي في أقرب وقت، وأن تبدأ هذه المسيرة اليوم ودون تأخير.
لعل نقطة البداية المناسبة هنا هي التذكير بقاعدة منطقية، وهي أننا لا نقارن الديموقراطية وعيوبها ببدائل مثالية، وإنما ببدائل بها عيوبها هي الأخرى، وبالتالي فإن عيوب الديموقراطية توضع فى مواجهة عيوب النظم البديلة، كما توضع مزايا هذه في مواجهة مزايا تلك. وهذا ما عبرت عنه مقولة شهيرة منسوبة إلى رئيس وزراء بريطانيا الأسبق والأفصح وينستون تشرشيل تعليقاً على ما يوجه للديموقراطية من انتقادات مشروعة مؤداها أن “الديموقراطية هي أسوأ نظام للحكم، لكن بعد استبعاد باقي نظم الحكم التي عرفتها الإنسانية”.
فقد نشأت فكرة الديموقراطية في العصر الحديث بالتوازي مع الثورة الصناعية في أوروبا بعد عصر النهضة، ارتباطاً بتطور وعي الإنسان وتراكم تجاربه، وانتشار المعارف والعلوم، وكذلك مع ازدياد تعقد الحكم وإدارة الدولة، وما أدى إليه من زيادة ما يضعه الحكام على المحكومين من أعباء سواء في صورة ضرائب، أو تجنيد الشباب لخوض الحروب، أو التدخل المتصاعد في تفاصيل حياتهم، وهو ما أثار موجات من المقاومة وأشعل ثورات وحروب أهلية، وأطلق سلسلة من الأعمال الفكرية، تتساءل عن عدالة وشرعية وفاعلية صيغة الحكم المطلق، وعن ضرورتها، وعمن أعطى الحكام الحق فيها، بل ومراجعة منشأ فكرة الحكم والدولة أصلاً.
كانت خلاصة ذلك هي توافق تلك المجتمعات على أن الدولة ما هي إلا اختراع بشري غرضه إكمال ما لا يستطيع الناس القيام به بمفردهم وبأنفسهم من مصالح عامة، وأن الحكام وجهاز الإدارة العامة ما هم إلا موظفون ينتدبهم الناس/المواطنون للقيام بهذه المهمة، وبالتالي فليس لهم التحكم في حياتهم، ولا الإثراء على حسابهم، ولا دخول حروب واستنزاف أبنائهم وثروات الوطن إلا استناداً إلى رضائهم، وعموما، لا يجوز لهم تخطيي هذا الإطار إلا بناء على رغبة أصحاب الحق الأصلي، وهم المواطنون، وأن الصحيح هو أن يكون للمواطنين حق اختيار الحكام وتغييرهم وتوجيه سياساتهم وفقاً لمصالحهم.
كما تأكد أن المصالح في المجتمع تتباين بشكل لا يمكن معه تصور أن يحقق الحكم مصالح كل فئات المجتمع بشكل متساوٍ ودائم. ولما كان من المستحيل قبول تغليب مصلحة فئة على باقي الفئات، ولا أن يترك للحكام اختيار المصالح التي ينحازون لها، ولا ترك الأمر للصراع بين الفئات المختلفة، فقد كانت فكرة الديموقراطية (التي سنفصل ما تعنيه لاحقاً) وسيلة لتحويل المسألة من طغيان فئة على غيرها أو صراع فيما بين الفئات إلى تقاسم للمصالح، وتداول سلمي بين مختلف فئات المجتمع، بحيث تطمئن كل فئة إلى أنها سيمكنها تحقيق قدر كاف من مصالحها إن آجلاً أو عاجلاً.
كما أن طبيعة عمل النظم الديموقراطية تحد من حدوث تقلبات كبرى في السياسات، وهذا في حد ذاته ضمانة لتوازن الدول واستمرارية البناء والتطور، على عكس النظم الاستبدادية، التي يمكن لكل حاكم فيها أن يلغى كل ما قام به سابقوه، ليبني مجداً شخصياً يميزه عن الآخرين.
إلا أن الأمر لم يتوقف فقط عند مشروعية الحكم أو عدالته، وإنما شمل أيضا كفاءته وقدرته على معالجة عيوبه وتصحيح أخطائه عند حدوثها. ذلك أن تجارب التاريخ أكدت أن الحكم المطلق واستمراره وامتداده لفترات طويلة يفتح الباب لتراكم المظالم والأخطاء والانحرافات، بدرجة أكبر مما تحتمل الأمم في أغلب الاحيان، حتى تصل إلى لحظة الكارثة، والتي تفوق تكلفة معالجتها بكثير تكلفة تعديل نظام الحكم بشكل دوري وبالتالي اكتشاف العيوب وتصحيحها.
وهذا يعني أن النظام الديمقراطي لم يُبْتَدَع لتحقيق العدالة أو الكفاءة التامة للحكم، ولا لتمكين المستحِق من تولي السلطة، ولا لتطبيق فكر محدد أو عقيدة معينة، وإنما لتحقيق أكبر قدر ممكن من المشروعية والعدالة والكفاءة، ولو مع الوقت. بمعنى أنه لو أفرزت الديموقراطية في لحظة ما حكماً يميل لفئة دون غيرها، أو تشوبه انحرافات أو تواضع في الكفاءة، فإن تداول السلطة من خلال الانتخابات الدورية كفيل بعلاج ذلك أو استعادة التوازن في السياسات.
والحقيقة أن الديموقراطية مسألة أوسع من مجرد الانتخابات الحرة النزيهة، إذ أنها تشمل أيضاً وجود دستور يحقق الفصل بين السلطات ويضمن الحقوق والحريات، وفي مقدمتها حرية الرأى والصحافة والتنظيم، ويحمي الأقلية من طغيان الأغلبية، ومؤسسات عامة مستقلة من قضاء وبنك مركزي ومؤسسات رقابية لمحاسبية وإحصائية، وجهاز دولة محترف يعرف الحدود بين العمل بتوجيه السلطة السياسية وتنفيذ سياساتها، وبين طاعتها العمياء خدمة لمصالحها السياسية.