مر عام 2022 الذي كان أحد الأعوام الصعبة على المصريين. استحوذ الجدل الاقتصادي على اهتمامات الناس، فمنذ مارس 2022 تسيد المشهد العام موضوعات الغلاء المتواصل والمتصاعد فضلا عن سعر الجنيه في مواجهة الدولار، والبضائع المكدسة في المواني، وارتفاع أسعار الذهب، وتراجع مستوى المعيشة، وقرض صندوق النقد وشروطه الصعبة، فضلا عن دعوة رئيس الجمهورية لحوار سياسي يرسم خريطة طريق للمستقبل، وهو الحوار الذي لم يبدأ حتى الآن رغم أن الدعوة صدرت في شهر إبريل الماضي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية.
اقرأ أيضا.. النقابة والصحافة.. “تكفين” المبنى والمهنة
كان 2022 بالفعل هو الأصعب على المصريين، شعر فيه الناس بوطأة الأزمة الاقتصادية التي امتدت وأثرت على حياتهم بشكل مباشر، بعد أن التهم الغلاء دخل الغالبية، العظمى من الناس، لا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي وجدت نفسها في مواجهة مباشرة وصعبة مع أسعار تزيد ولا تتوقف، ومع سعر للجنيه ينخفض بمعدلات سريعة ومخيفة، ومع خوف من المستقبل وحسابات قلقة عما يحمله القادم من تفاصيل قد تكون أقسى مما فات.
في حسابات السياسة لابد من مراجعة السلطة الحالية لهذا العام بكل تفاصيله ليمكن تلافي آثاره بقدر الإمكان، ثم لتعديل المسار الذي يبدأ في 2023 ليكون أفضل وأقل ضغطا على الطبقات الأكثر احتياجا.
في تقديري هناك أربع خطوات رئيسية لابد من اتخاذها حتى نستطيع القول بأن 2023 يمكن أن يكون أفضل وأكثر إحساسا بالأمان بالنسبة للغالبية العظمى من المصريين، والمؤكد أن الخطوات الأربع تبدأ من السياسة، فالحلول الاقتصادية لأي أزمة لا يمكن أن تبدأ من نقطة أخرى غير السياسة، فهي التي ترسم معالم الطريق، وتفتح الباب لتغييرات جادة وحقيقية يحتاجها المجتمع بلا شك.
أولا: تصفية ملف سجناء الرأي بالكامل، وإخلاء سبيل كل من لم يتورط في العنف بكل صوره، وإصدار قانون بالعفو الشامل عن كل الذين دفعوا ضريبة من أعمارهم وحريتهم لمجرد أنهم مارسوا حقهم الدستوري في حرية الرأي والتعبير، أو انتقدوا السلطة الحاكمة، أو اختلفوا مع سياساتها.
والمؤكد أن ملف سجناء الرأي المتخم بات عبئا حقيقيا على البلد، بل وعلى السلطة نفسها، فوجود الآلاف من سجناء الرأي يمثل احتقانا شديدا للمجتمع، ولآلاف من أسر ومعارف هؤلاء الذين يدفعون ضريبة ما آمنوا بأنه الحق، والبدء في تفكيك هذا الملف عبر إطلاق سراح كل السجناء بلا استثناء ربما يساهم في منح المجتمع أملا جديدا، ويخفف من حدة الاحتقان والانقسام السياسي والمجتمعي، ويرد الحقوق لأصحابها ويعوضهم عما لاقوه من تقييد للحرية لسنوات دون جريمة حقيقية، فالملفت أن دعوة الحوار السياسي لم ينتج عنها سوى خروج نحو ألف سجين سياسي، وهو رقم ضئيل بالمقارنة بأعداد السجناء التي تقدرها منظمات حقوقية بعشرات الآلاف، والأصل هو عدم وجود سجين سياسي واحد في بلد شهد ثورة شعبية عظيمة منذ ما 11 عاما، هذه الثورة التي كانت الحرية إحدى أهدافها وشعاراتها الكبرى، والوقوف أمام مطالب الناس وأحلامهم بهذه الطريقة لا يمكن أن يخلق استقرارا ولا أن يكون بداية لأي حوار تؤكد السلطة والقريبون منها بأنه سيكون مفيدا في بناء المستقبل.
ثانيا: فتح المجال العام وغل يد الأجهزة الأمنية عن التحكم في المشهد السياسي أو التدخل في الحياة العامة، ومثل هذه الخطوة لا تحتاج إلى اجتهادات من أي طرف، لا من السلطة ولا من معارضيها بل يرسم الدستور خطواتها بشكل كامل، وليس على السلطة فقط سوى الالتزام بنصوص الدستور التي تنظم الحياة السياسية، وتمهد الطريق لبلد يقوم نظامه على التعددية السياسية، وعلى حق الأحزاب في العمل العام، والتواصل مع الجمهور في الشارع، وتقديم خطط وحلول وبدائل للأزمات السياسية والاقتصادية، والمنافسة في الانتخابات العامة بنزاهة وبعيدا عن التدخلات الأمنية والإدارية، وصولا إلى حق المجتمع في تداول السلطة.
والمؤكد أن فتح المجال العام يتضمن التوقف الفوري عن الملاحقات الأمنية للكوادر السياسية، وتعديل نصوص الحبس الاحتياطي التي يدفع المواطنون من أعمارهم ثمنا فادحا بسببها، ومنح الحرية الكاملة للنقابات المهنية والعمالية في العمل بحرية، والدفاع عن حقوق أعضائها، وحرية إجراء انتخاباتها الداخلية دون تدخلات من أية أطراف خارجية، وضمان نزاهة الانتخابات العامة، واحترام حق الجمعيات الأهلية والحقوقية في العمل والحركة بدون قيود، وتعديل كل القوانين التي تقيد حرية العمل السياسي أو تخالف نصوص الدستور التي تؤكد على احترام الحريات العامة، وفي القلب من هذه الحريات: الرأي والتعبير والاعتقاد والإبداع والتظاهر السلمي.
ثالثا: رفع القيود عن الصحافة والإعلام بشكل كامل، وترك العمل الصحفي دون تدخلات أو حصار، وتعديل القوانين التي صدرت عام 2018 لتنظم العمل الصحفي وأضرت بحق الصحافة في العمل بحرية، ثم الابتعاد التام عن التحكم في “الشاشات”، ورفع الحجب عن المواقع الصحفية، وترك العمل الصحفي والإعلامي للموهوبين والمجتهدين، وعدم ملاحقة الصحفيين والإعلاميين بسبب آرائهم ووجهات نظرهم، وأن يقوم العمل الصحفي على الكفاءة لا الولاء، ومنح النقابات المهنية -الصحفيين والإعلاميين- دورا أكبر في تفعيل مواثيق الشرف الإعلامية، ومساءلة أعضائها عن أية أخطاء مهنية، لتكون النقابة لا النيابة هي التي تضمن للصحفي حريته وللمجتمع حقه في صحافة حرة ومهنية ونزيهة.
رابعا: تغيير السياسات الاقتصادية بشكل جذري، واقتناع السلطة بأن هذه السياسات قد أضرت بالاقتصاد، وأشاعت الفقر بين الكثير من المصريين، وأن تعود السياسات لتولي وجهها شطر الفقراء وأبناء الطبقات الوسطى عبر العدالة الضريبية، ودور أوسع للحكومة في ضبط انفلات أسعار السلع والخدمات، والتوقف الكامل عن الاستدانة من الخارج، والابتعاد عن “روشتة” صندوق النقد التي وجهت ضربات مؤلمة إلى الفقراء، وتعديل المسار لتصبح المشروعات الإنتاجية هي الأساس في أية تنمية اقتصادية منشودة، والبدء من الصحة والتعليم كنقطة انطلاق لمشروع المستقبل، والتوقف عن المشروعات “الكبرى” التي يمكن تأجيلها، وهي الخطوة الأولى في فقه الأولويات الذي يبدأ من الاهتمام بالإنسان لا بالأحجار والكباري والطرق والمحاور.
أربعة موضوعات مهمة ورئيسية يمكن أن يكونوا هم البداية لعام جديد يحمل أملا للمصريين الذين عانوا بشدة خلال السنوات الماضية من صعوبة العيش ومن حصار الحياة العامة ومن فرض القيود على الإعلام والعمل السياسي، فإما أن تسلم السلطة بأن تغييرات كبيرة قد طرأت على المجتمع وعلى وعي أبنائه، وأن تتجاوب مع هذه التغييرات عبر الاستجابة لمتطلباتها والتوقف عن الصدام معها، أو الاستمرار في نفس الطريق الذي جربناه على مدار العشر سنوات الفائتة ولم نجن منه سوى الإحباط والقلق والخوف من المستقبل.