خلال السنوات الماضية بدا أن منطقة الشرق الأوسط على مشارف عهد جديد. ما بعد وأد انتفاضات الربيع العربي -المُهدِدة لـ”الاستقرار”- والتبشير بعالم لا يسوده النفط، ظهرت “رؤى 2030” التي تدفع نحو تنويع الإمكانات الاقتصادية بعيدا عن “الذهب الأسود”.
اقرأ أيضا.. فورين بوليسي: 10 بؤر للصراعات في انتظار 2023
وهكذا نُظر إلى المنطقة كخريطة استثمارات محتملة مُحملة بالكثير من الفرص الواعدة. وهو ما استدعى معها إعادة رسم العلاقات السياسية والأمنية بما يخدم هذه الأهداف وفق معايير نفعية براجماتية تضع المكاسب كأولوية، وتتخلص من أعباء “إرث” الماضي.
وسط كل ذلك، قادت السعودية والإمارات هذه الرؤى الجديدة مدفوعتين بإمكاناتهما الاقتصادية وقيادتين طموحتين -متنافستين- ترغبان في قيادة القطار العربي والخليجي. ولكن كيف رُسمت بعض هذه السياسات، ومن أشرف عليها ممن وثقت فيهم القيادات السياسية.
أهداف سياسية وأخرى اقتصادية ظهر فيها تنامي الدور الغربي مُجسدا في سياسيين وشركات، إما وساطةً أو استشارةَ للوصول إلى المبتغى. وهنا نضعكم أمام نماذج تُبيّن غيض من فيض التوجهات الجديدة وكيفية وضعها.
توني بلير نموذجًا
كان “الاتفاق الإبراهيمي” بين الإمارات وإسرائيل مسارا صادما للعديدين. لكن هذا المسار الذي استغرق رسمه عدة سنوات كان يقف خلفه شخصية رئيسية: توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. بلير هو من أطلق المفاوضات السرية بين البلدين. ووقف خلف المحادثات وبناء الثقة الأولية.
وبحسب صحيفة “إسرائيل اليوم”: “أصبحت هذه المفاوضات عبر القنوات الخلفية ممكنة” بفضل جهود المبعوث الخاص الأسبق للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط، المعنية بتحقيق عملية السلام في الصراع العربي الإسرائيلي.
ونقلت الصحيفة عن مصادر سياسية إسرائيلية رفيعة المستوى لم تسمِّها، قولها: “عُقدت اجتماعات إسحاق مولخو (المستشار السابق لرئيس حكومة الاحتلال) مع وزير إماراتي في لندن وأبو ظبي ونيقوسيا بوساطة من بلير شخصيًا”. وذلك في الفترة ما بين 2015 و2018.
حتى حدود عام 2014، كان توني بلير مرتبطًا بعقد عمل استشاري مع “مبادلة” أحد الصناديق السيادية الإماراتية. وكان صديقًا مقربًا من ولي العهد -آنذاك- محمد بن زايد، ويتشاطر معه العداء للإسلام السياسي وعددًا من التوجهات السياسية، حتى إن أحد أصدقاء الأول قال في هذا الصدد: “توجد كيمياء بينه وبين محمد بن زايد”، حسب صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
في السنة ذاتها، كان بلير يبحث إمكانية افتتاح مكتب له في أبو ظبي في محاولة لتوسيع دوره في عالمَي الأعمال والسياسة “خلف الكواليس”، مقدّمًا نفسه وسيطًا سياسيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط، حسب المصدر نفسه.
بعد مغادرته منصبه رئيسًا للوزراء، وتوليه مهمّة مبعوث اللجنة الرباعية الدولية، وبعد أن أقامت له وزارة الخارجية الإماراتية حفلاً لاستقباله ومباركة تسلًّمه منصبه الجديد، بدأت مسيرة عمل بلير مع حكّام الإمارات، لتتوّج هذه المسيرة لاحقًا بتوقيع شركة “توني بلير أسوشيتس”، عقدًا لتقديم الاستشارات للإمارات بقيمة تتراوح بين 25 و35 مليون جنيه إسترليني، حسب صحيفة تايمز البريطانية عام 2015.
في هذا الصدد، قالت صحيفة إندبندنت البريطانية، إن مهمة بلير الدولية التي جعلته يطوف العالم بحثًا عن “حل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني”، وضعته على عدد من الطاولات مع قادة العالم الذين كان يرى فيهم فرصة لعقد أعمال تخدمه شخصيًا.
وبعيدًا عن الاتفاقات المعلنة، كشفت تقارير إعلامية لاحقاً تلقِّي بلير مبالغ مالية ضخمة من الإمارات بشكل سري لتلميع صورتها إعلاميًا، في الوقت الذي كان يعمل فيه مبعوثاً للجنة الرباعية. الأمر الذي أثار حوله ضجة بسبب تضارب المصالح والتقارب مع الإمارات الذي ينفي صفة الحياد التي يجب أن يتمتع بها المبعوث.
وقالت صحيفة “تليجراف” البريطانية إن بلير طلب أيضاً مليونين و210 آلاف دولار كأتعاب شخصية، و688 ألف دولار كمصاريف إضافية من أجل تغطية النفقات السنوية لرحلاته، مقابل وعد بزيارة الإمارات 12 مرة في العام الواحد.
كذلك لم تكن الجارة السعودية بعيدة عن أعين بلير. إذ كشفت الصحيفة “البريطانية، عن تلقي “مؤسسة توني بلير للتغيير العالمي”، مبالغ وصلت إلى 12 مليون دولار مقابل تقديمها خدمات استشارية للسلطات السعودية، ضمن خطة “التحديث” التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان. كما عمل بدءا من 2011 كوسيط في عدد من الصفقات التجارية بإنجلترا لصالح دولة قطر.
“التبشيري المخادع”
كان بلير رئيسًا لوزراء بريطانيا في الفترة ما بين 1997 و2007. وقد شارك خلال رئاسته للوزراء الولايات المتحدة سياستها المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط. وأرسل قوات بلاده للمشاركة في غزو العراق، عام 2003.
في عام 2015، نشرت “الجارديان” البريطانية مقالاً حول ما أسمته “الاستعمار الأخلاقي” الذي يمثل توني بلير أحد ركائزه. وقد وصفه المقال بـ”التبشيري المخادع”، الذي يسوق الديمقراطية أداة لخلاص الشعوب بينما هو لا يرضى بغير العلمانية والليبرالية الاقتصادية.
ورغم التحفظ الذي قد يسوقه البعض بشأن ما قد يرد للذهن من أن مقال الجريدة يقيم من التناقضات ما هو ليس صحيحا بالضرورة، بل وقد يتصادم مع ما هو معروف من تقاليد وتراث وخطابات الكثيرين من معتنقي ورواد الفكر العلماني في عديد من الحالات من أنه لا ديمقراطية دون علمانية والعكس بالعكس، إلا أن ذلك على الأقل هو ما ورد في مقالها، والذي قد يخرج البحث فيه عن هدف وغرض ما نعرضه هنا.
نعود لما ذكرته الجارديان في مقالها، فالديمقراطية، كما يقول المقال، مرهونة عند بلير بمدى توافق نتائجها مع مصالح الغرب. وهي وجهة نظر يعرف أصحابها في أوساط السياسة الأمريكية بـ”المحافظين الجدد”. ويمكن فهم نظرة بلير للديمقراطية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية من خلال موقفه من الثورة المصرية عام 2011، عندما حذّر الرجل من الفراغ الذي سيحدثه خلع الرئيس الراحل حسني مبارك.
وفي يوليو/تموز 2016، خرج جون تشيلكوت، رئيس اللجنة المنوطة بالتحقيق في المشاركة البريطانية بحرب العراق، بتصريح صادم قال فيه إن نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين “لم يكن يشكل خطرًا على المصالح البريطانية”.
وإن حرب 2003 لم تكن ضرورية بالمرة. وقال تشيلكوت إن بلير “استند إلى الهواجس الشخصية أكثر من استناده على الحقائق والتقارير الاستخبارية”، واصفًا العلاقة بين بلير والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بـ”التبعية الكاملة”.
وبحسب تقارير، كان لدى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عداء وجودي مع تيار الإسلام السياسي. وقد وصف الإطاحة بالرئيس الإسلامي الراحل محمد مرسي بأنها “الخيار الأفضل”. كما كشفت صحيفة “صنداي تايمز”، نهاية 2016، عن قيام مؤسسات خيرية تابعة لبلير بجمع معلومات عن النشطاء الإسلاميين والحركات الإسلامية في إفريقيا لصالح أنظمة قمعية في مصر والسودان وليبيا وسوريا واليمن وتونس والمغرب ومالي، وغيرها.
كما نقلت الصحيفة عن أحد العاملين في منظمة “مبادرة بلير للحكم الرشيد في إفريقيا” قوله: “نوع الحكم الذي يجب نشارك فيه هو فصل الدين عن الدولة. ولكن هذه المبادرة ستشجع الدول على التجسس على المؤسسات الدينية”.
الأمريكيون والخطط الدفاعية السعودية
تُوضع الخطط الدفاعية والأمنية الخليجية وفقًا لآراء مخططين استراتيجيين أمريكان. ففي الوقت التي تعتمد فيه غالبية تلك الدول على الأسلحة والقواعد الأمريكية، فإن كيفية إدارة هذه الأسلحة وتأمين الجبهات المختلفة يستدعي أهل الخبرة.
نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022، كشف جنرال أمريكي كبير أن المسئولين العسكريين الأمريكيين يعملون وراء الكواليس لمساعدة نظرائهم في المملكة العربية السعودية على وضع رؤية طويلة الأجل للأمن القومي للمملكة، حتى مع استمرار توتر العلاقات بين الحكومتين.
وقال الجنرال مايكل إريك كوريلا، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط، للصحفيين في مؤتمر عبر الهاتف: “السعوديون مهتمون جدًا بالخطط الاستراتيجية معنا. يسافر مخططونا الاستراتيجيون إلى المملكة بانتظام للعمل مع القادة العسكريين السعوديين لبناء أفكارهم من أجل رؤية استراتيجية طويلة المدى”.
وأوضح مسئول دفاعي آخر لـ “المونيتور” أن المملكة العربية السعودية تستعد لإطلاق استراتيجية دفاع وطني واستراتيجية عسكرية وطنية العام المقبل للمرة الأولى في تاريخها، على الرغم من أن القيادة المركزية الأمريكية لم تساعد في صياغة تلك الخطط.
وقال الجنرال إن وثائق الاستراتيجية، التي لم يتم تأكيدها علنًا من قبل المسئولين السعوديين، ستعمل على تقنين “الرؤية الإستراتيجية للمملكة للأمن القومي والأمن الإقليمي”. ووصف كوريلا القرار بأنه “خطوة حاسمة” في خطط التحديث العسكري لولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ووفقًا للموقع الأمريكي، كان المسئولون العسكريون في القيادة المركزية الأمريكية يقودون بهدوء حملة دبلوماسية لبناء تحالف دفاعي إقليمي غير رسمي. تحالف يمكن أن يساعد دولًا مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على الدفاع بشكل أفضل ضد الهجمات الصاروخية التي تشنها إيران مع تقليل اعتمادها على الوجود العسكري للولايات المتحدة.
وتمضي قيادة كوريلا قدمًا في خططها لبناء مجموعتين تجريبيتين إضافيتين -فرقة العمل الجوية 99 وفريق المهام التابع للجيش 39- لإثبات الإمكانات التي توفرها لكبار الضباط في الشرق الأوسط. إمكانات توفرها التكنولوجيا المتاحة تجاريًا والمرتبطة بـ الذكاء الاصطناعي. وقد ناقش قائد القيادة المركزية الأمريكية تلك الخطوات والخطط الخاصة باختبار أسلحة مضادة للطائرات بدون طيار مع قائد القوات المسلحة الملكية السعودية فياض بن حامد الرويلي.
مراكز الأبحاث والجامعات
نهاية العام الماضي، كشفت تقارير عن أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، عاد إلى الحياة العامة بوظيفة جديدة حيث سيدرّس السياسة في جامعة نيويورك بأبو ظبي اعتبارا من بداية العام الجاري. وسيلقي الزعيم السابق لحزب المحافظين محاضرة للطلاب في دورة مدتها ثلاثة أسابيع حول “ممارسة السياسة والحكومة في عصر الاضطراب”.
وحسب “فاينانشيال تايمز“، ستغطي الدورة موضوعات تشمل الأزمة الأوكرانية وأزمة الهجرة في أوروبا، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو اسكتلندا سيكون ضمن المناهج الدراسية.
وقال أحد أصدقاء ديفيد كاميرون للصحيفة: “لقد قاد حزب المحافظين لمدة 11 عاما والبلاد لمدة ست سنوات وسيستفيد من خبرته في تدريس مقرر عن السياسة والحكومة في عصر الشعبوية والاضطراب”.
وشغل كاميرون منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة من عام 2010 حتى عام 2016، وأشرف على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفشلت حملته للبقاء في التكتل بنسبة 48% إلى 52%، ما أدى إلى استقالته.
تعتمد الإمارات في سياستها “الناعمة” للتأثير على إقامة فروع لكبرى الجامعات الغربية داخل أراضيها. في الواقع، تستضيف الإمارات أكثر من 40 فرعًا دوليًا للجامعات، والتي تمثل ما يقرب من ربع جميع الفروع الدولية في جميع أنحاء العالم.
لكن الجامعات ليست وحدها أداة التأثير السياسي الناعم، فمراكز الأبحاث كذلك تلعب دورًا مهمًا جنبًا إلى جنب مع جماعات الضغط السياسي “اللوبيات”، والتي تعد الإمارات واحدة من أكثر الدول إنفاقًا عليها؛ لرسمها كقوة استقرار في المنطقة وتبييض سياساتها، مما يقوي نفوذها الخارجي.
التمويل الأجنبي للمراكز البحثية، ينبع الكثير منه من دول الخليج. في يوليو/تموز 2022، اضطر أحد أبرز مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، معهد بروكينجز، إلى قطع العلاقات مع رئيسه، الجنرال المتقاعد في مشاة البحرية الأمريكية جون ألين، بعد أن تم الكشف عن أنه يخضع للتحقيق بشأن مزاعم ممارسة ضغوط غير قانونية لصالح قطر.
وجد تقرير صدر عام 2020 عن مركز السياسة الدولية أنه من بين 174 مليون دولار من التمويل الأجنبي الذي تم ضخه في مراكز الأبحاث الأمريكية، كانت العديد من البلدان في الشرق الأوسط من بين أكبر الفاعلين في عملية الضخ. كانتا الإمارات وقطر من بين الدول العشر الأولى، حيث تبرعت بمبلغ 15.4 مليون دولار و8.5 مليون دولار على التوالي، وفقًا للتقرير.
مثالا، كان لمؤسسة “راند” البحثية أربعة فروع خارجية، أحدها في الخليج واستضافته قطر. ومن المعروف عن “راند” ارتباطها الوثيق جدًا بصناعة القرار العسكري داخل البنتاجون الأمريكي. وتعاونت مؤسسة قطر مع مؤسسة راند، لإجراء دراسات معمقة في قضايا الشرق الأوسط الكبير.
وأعطت قطر فرصة مهمة للمؤسسة الأمريكية في أن تعمق من حضورها في منطقة الخليج العربي، وتزيد من اهتمامها بالمنطقة العربية والخليجية بشكل خاص (قبل أن يطردها الأمير الحالي تميم بن حمد بشكل غير رسمي من البلاد).
وحسب تقرير لاتجاهات وأعداد مراكز التفكير حول العالم ففي الكويت 16 مركزاً وفي الإمارات 15، وفي قطر 15 وفي السعودية 10، كإجمالي مراكز بحثية سواء محلية أو أجنبية. كما تضم مراكز أبحاث غربية في مجالسها الاستشارية باحثين ممن هم مستشارون في دول مجلس التعاون الخليجي وسفراء ورؤساء تنفيذيون لشركات استشارات في الإمارات ودول أخرى.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022، أصدرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرين استقصائيين يظهران أن المئات من الضباط العسكريين الأمريكيين المتقاعدين يستخدمون خبرتهم في العمل للاستفادة من وظائف وعقود مربحة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ووجدت التقارير أن 280 متقاعدًا عسكريًا سعوا للحصول على إذن للعمل في الإمارات، سواء كمقاولين عسكريين أو مستشارين. وكان الضابط الأعلى رتبة هو الجنرال الأمريكي المتقاعد جيم ماتيس، الذي شغل منصب وزير دفاع الرئيس السابق دونالد ترامب.