خلال السنوات الماضية بدا أن منطقة الشرق الأوسط على مشارف عهد جديد. ما بعد وأد انتفاضات الربيع العربي -المُهدِدة لـ”الاستقرار”- والتبشير بعالم لا يسوده النفط، وظهرت “رؤى 2030” التي تدفع نحو تنويع الإمكانات الاقتصادية بعيدا عن “الذهب الأسود”.
وهكذا نُظر إلى المنطقة كخريطة استثمارات محتملة مُحملة بالكثير من الفرص الواعدة. وهو ما استدعى معها إعادة رسم العلاقات السياسية والأمنية بما يخدم هذه الأهداف وفق معايير براجماتية تضع المكاسب كأولوية، وتتخلص من أعباء “إرث” الماضي.
وسط كل ذلك، قادت السعودية والإمارات هذه الرؤى الجديدة مدفوعتين بإمكاناتهما الاقتصادية وقيادتين طموحتين -متنافستين- ترغبان في قيادة القطار العربي والخليجي. ولكن كيف رُسمت بعض هذه السياسات، ومن أشرف عليها ممن وثقت فيهم القيادات السياسية.
أهداف سياسية وأخرى اقتصادية ظهر فيها تنامي الدور الغربي مُجسدا في سياسيين وشركات، إما وساطةً أو استشارة للوصول إلى المبتغى. وهنا نضعكم أمام نماذج تُبيّن غيضا من فيض التوجهات الجديدة وكيفية وضعها.
اقرأ أيضا: كيف تُرسم سياسات الخليج (1): بلير والعسكريون ومراكز الأبحاث كنماذج
صناعة الاستشارات بالشرق الأوسط
تُقدر قيمة صناعة الاستشارات في الشرق الأوسط بحوالي 3.6 مليار دولار. من تقديم المشورة للمملكة العربية السعودية بشأن الركائز الأساسية لرؤيتها 2030 أو مساعدة الإمارات في تطوير استراتيجيتها الاقتصادية المختلفة، وغيرهما من الدول. لذا فإن الاستشاريين الاستراتيجيين بات هناك طلب مرتفع عليهم في المنطقة.
انتعش سوق الاستشارات في دول مجلس التعاون الخليجي بقوة، مسجلاً معدل نمو إجمالي بنسبة 17.7% عام 2021، وهو أسرع معدل نمو منذ سبع سنوات. وارتفعت إيرادات شركات الاستشارات بنسبة 24.2%. إذ ساعدت خطة السعودية لاستخدام صندوق ثروتها السيادي الضخم لتحقيق طموحات كبيرة في خلق “منجم” يقارب 2 مليار دولار لشركات الاستشارات العالمية، وفق “بلومبرج“.
تقول منصة “consultancy-me“، المعنية بالخدمات الاستشارية في الشرق الأوسط: “تعج المنطقة بالتغيير. ويعمل مستشارو الاستراتيجيات على بعض من أكثر التحديات والتحولات إلحاحًا وذات التأثير الكبير في القطاعين العام والخاص. يساعد المستشارون الاستراتيجيون الشركات على سبيل المثال في دخول السوق إلى الشرق الأوسط، أو استراتيجيات التوسع الدولية، بالإضافة لتطوير استراتيجية مؤسسية جديدة أو إطلاق نماذج أعمال”.
يدور عمل الاستشارات الاستراتيجية بشكل أساسي حول تطوير السياسات العامة، ودراسات الجدوى وبرامج التخطيط والدعم الاستراتيجي للخطط الكبيرة. وتعد شركات “ماكنزي” و”بوسطن” و”بوز ألين” و”أند استراتيجي” ومؤسسة “راند” الأمريكية، و”كيه بي إم جي” الهولندية، و”ديلويت” البريطانية من بين أكبر الشركات بالشرق الأوسط.
اُختصت “ماكنزي” بوضع رؤية 2030 لكل من السعودية والإمارات والبحرين. وقبل سقوط معمر القذافي، كانت الشركة تعمل مع سيف الإسلام نجل الحاكم الليبي -الذي كان يوصف بعد ذلك بأنه مصلح ذو رؤية- لإعادة تشكيل اقتصاد البلاد.
في ذات الفترة بمصر، وضعوا مقترحات لتحسين مختلف القطاعات والوزارات بجميع أنحاء البلاد. وفي اليمن، قدمت عشر أولويات للإصلاح الاقتصادي برعاية أحمد علي عبد الله صالح، نجل الرئيس الأسبق.
نفوذ ومهام غير تقليدية
في حين أنه من السهل ربط عمل الاستشاريين الأجانب بعصر السياسات النيوليبرالية والتمويل، فإن دول الخليج كانت “مدمنة” للمستشارين الغربيين منذ ما يقرب من قرن. بدأت مع الاستعمار البريطاني وامتدت لعقود لاحقة تنوّع فيها المستشارون وجنسياتهم، تبعًا للظرف السياسي، وإن كان أغلبهم بريطانيين، بحسب السياق التاريخي الذي رسمته مجلة “جاكوبين” الأمريكية.
حاليًا، تتمتع شركات الاستشارات بتقارب قوي مع هياكل السلطة في الخليج، ودائما ما يُلجأ إليها لتقديم النصح والمشورة ورسم السياسات. وبينما دفعت وفاة الصحفي المعارض جمال خاشقجي المستثمرين من جميع أنحاء العالم إلى إبعاد أنفسهم عن الحكومة السعودية، ظلت “بوز ألن” ومنافستها “ماكنزي” ومجموعة “بوسطن” الاستشارية على مقربة من ولي العهد محمد بن سلمان، بعد أن لعبوا أدوارًا مهمة في حملته لتوطيد سلطته.
بالإضافة إلى الأعمال الاستشارية مثل تقديم المشورة الاقتصادية والمساعدة في تلميع صورة الأمير الشاب، فقد قاموا بمهام “غير تقليدية”. إذ أصدرت شركة ماكينزي تقريرًا ربما ساعد سعود القحطاني (مستشار سابق لولي العهد متهم بإدارة عملية اغتيال خاشقجي) في قمع المعارضين. وتقدم “بوسطن” المشورة لمؤسسة محمد بن سلمان، بحسب “نيويورك تايمز“.
بينما دربت شركة “بوز ألن” البحرية السعودية التي كانت تدير حصارًا في الحرب على اليمن. إذ يعمل العشرات من قدامى المحاربين الأمريكيين لدى “بوز ألن” في المملكة. وتشير الصحيفة إلى أن أدميرال متقاعد من ذوي الخبرة القتالية في المنطقة ينصح كبار الضباط السعوديين بشأن التخطيط العسكري.
ويتمتع آخرون بخبرات واسعة يمكن استخدامها لتدريب السعوديين على كيفية تنفيذ عمليات الحصار وكيفية تشغيل معدات، مثل معدات الحرب الإلكترونية التي يمكنها اكتشاف رادارات وصواريخ العدو. كما تقدم “بوز ألن” الاستشارة للجيش السعودي. وفازت بعقد للمساعدة في الخدمات اللوجستية، بما في ذلك صيانة دبابات “أبرامز” التي تمتلكها السعودية.
“وزارة ماكنزي”
ربحت الشركات الثلاث مئات الملايين من الدولارات إجمالاً على مشاريع في المملكة. ونما عمل “ماكنزي” في المملكة من مشروعين سعوديين عام 2010 إلى ما يقرب 600 مشروع في الفترة من 2011 إلى 2016.
انتشر مستشارو الشركة في أنحاء المملكة بالسنوات الأخيرة لتقديم المشورة للوكالات الحكومية مثل وزارة التخطيط -التي يطلق عليها بعض السعوديين اسم “وزارة ماكنزي”- والديوان الملكي ومجموعة من الشركات في صناعات مثل البنوك والإعلام والاتصالات والعقارات والطاقة.
وأظهرت وثائق داخلية لماكنزي -اطلعت عليها صحيفة “نيويورك تايمز”- أنها اشترت شركة استشارية سعودية لها ارتباطات سياسية بالنخبة الحاكمة، مضيفةً بذلك 140 موظفًا إلى أكثر من 300 في المنطقة بالفعل.
أما مجموعة “بوسطن” فقد أقام يورج هيلدبراندت، كبير المسئولين التنفيذيين بالشرق الأوسط، علاقة قوية مع ولي العهد السعودي، وفقًا لاثنين من المستشارين الذين عملا بالمنطقة. وبعد تعيين الأمير محمد وزيرا للدفاع في 2015، حصلت “بوسطن” على عقد للمساعدة في إصلاح أنظمة المشتريات بالوزارة وتحسين تعاملها مع الشؤون المالية والموظفين، بحسب مصدرين مُطلعين على العقد.
وفي فبراير/شباط 2016، رافق مستشارون لشركتي “ماكنزي” و”بوسطن” خمسة مبعوثين من الديوان الملكي السعودي للقيام بجولات في مراكز الفكر بواشنطن. “لقد أبلغوا خبراء الشأن الخليجي بأهداف محمد بن سلمان الكبرى لإعادة تشكيل الحياة السعودية”، تقول كالفيرت جونز، أستاذ مشارك في جامعة ماريلاند بقسم الحكومة والسياسة. بينما قال بن سلمان لـ”الإيكونومست” سابقًا إن ماكنزي “تشارك معنا في العديد من الدراسات”.
بالنسبة للشركة الأمريكية العالمية، فإن عملها مع السعودية مثير للجدل. في خضم الربيع العربي، جادل مستشاروها في المنطقة بأن الشركة يجب أن تفكر في تقليص أعمالها في المملكة، على حد قول أحد مستشاري الشركة السابقين الذي عمل في الشرق الأوسط.
لكن المزيد من كبار المستشارين قالوا إن ماكنزي لا تعمل على إصدار الأحكام على “ثقافات العملاء وقيمهم”. وجادلوا بأن أفضل طريقة لتحسين المملكة هي تحديث الاقتصاد وجعل الحكومة والشركات تعمل بشكل أفضل. بدلاً من تقليص حجمها في المملكة، ضاعفت شركة ماكنزي قوتها.
قال أحد المستشارين الذين عملوا في المناصب العليا مع الحكومة السعودية -للباحثة كالفيرت جونز، الأستاذ المشارك في جامعة ماريلاند- إن العديد من المستشارين الأجانب العاملين في السعودية يفشلون في فهم الثقافة المحلية أو كيف يمكن لحكومة استبدادية أن تستغل عملهم.
تشير “نيويورك تايمز” إلى أن الطفرة في أعمال الشركات الثلاث المذكورة تنبع من حاجة بن سلمان إلى الخبرة خلال دفعه لمقترحات التجديد بالبلاد. إن اعتماده على الاستشاريين كبير لدرجة أن بعض الشركات لديها أفراد في الديوان الملكي للاستجابة بسرعة للطلبات، وفقًا لثلاثة مستشارين تعاونوا مع المملكة.
وأفاد البعض أنه طُلب منهم تعديل مقترحات في غضون 24 ساعة. وأضافوا أن ولي العهد يطلب أحيانًا من شركات مختلفة تقديم مقترحات، ثم يطلب من مستشاريهم عرض أفكارهم لبعضهم البعض بينما ينظر في الأمر. يقول أحدهم: “إنها مثل مسابقة ملكة الجمال”.
داخل كواليس صناعة القرار
كالفيرت جونز، الأستاذ المشارك في جامعة ماريلاند في قسم الحكومة والسياسة، أمضت 19 شهرًا بين عامي 2009 و2017 في إجراء بحث ميداني بالشرق الأوسط، وخاصة في الإمارات ودول الخليج الأخرى الممتلئة بالمستشارين الغربيين.
خلال هذه الفترة، أجرت مقابلات مع عشرات من المسئولين والمستشارين على مستويات عالية في مشاريع الإصلاح في التعليم والتخطيط الحضري وبرامج أخرى بالإمارات والسعودية والبحرين والكويت وقطر. كما أجرت مقابلات مع العشرات من النخب الحاكمة، بما في ذلك ملك واحد.
تقول جونز إنها رأت عن كثب الدور الرئيسي الذي يلعبه خبراء أجانب يتقاضون رواتب جيدة من شركات “ماكنزي” و”راند” وغيرها من أمثالهما. “لقد خرجت بعدة استنتاجات. أولاً، تميل النخب الحاكمة إلى النظر إلى مشاكل بلدانهم على أنها تقنية للغاية، مما يعني أن أفضل المفكرين والعلماء والاستشاريين في العالم يمكنهم حلها إذا تم توفير الموارد المناسبة”.
وتضيف “إنهم يضعون ثقة كبيرة في فرق الخبراء الأجانب الذين يقومون بتجنيدهم. ويتوقعون منهم أن يجلبوا رؤى ووجهات نظر جديدة حيث لم تفعل البيروقراطيات الخاصة بهم. إنهم ليسوا مخطئين. يشير بحثي إلى أن العديد من الخبراء الأجانب يجلبون معرفة وبيانات وخبرات جديدة للتأثير على جهود الإصلاح. لكن التوقيت ضروري”.
وتوضح الباحثة ما تقصده بأهمية التوقيت “يحدث التأثير الإيجابي بشكل أساسي عندما يتم تعيين الخبراء لأول مرة للمساعدة في تشخيص المشكلات وتصميم الحلول المحتملة. في هذه المرحلة المبكرة، يشعرون عمومًا بالحرية للتعبير عن آرائهم حول ما قد ينجح وما قد لا ينجح. لكن كلما طالت مدة بقائهم في الساحة، زاد انغماسهم في هياكل الحوافز المحلية التي تتميز بها الدول الاستبدادية”.
وتتابع “على الرغم من التأكيدات الأولية بعكس ذلك، إلا أنهم يكتشفون أنه يمكن فصلهم بسرعة -وحتى ترحيلهم- دون تفسير يذكر. يجدون أنفسهم أيضًا جزءًا لا يتجزأ من نظام من التنافس الشديد وتغيير الأدوار. وهو نوع من لعبة الكراسي الموسيقية التي يمكن استخدامهم فيها ككبش فداء”.
على الرغم من أن بعض الخبراء ينتهي بهم الأمر بالمغادرة، إلا أن كثيرين آخرين يتكيفون مع الحوافز. حسب جونز: “نادرًا ما يقولون أي شيء سلبي، ناهيك عن انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان (التي يرون أنها لا علاقة لها بعملهم)”.
أحد مطوري الأعمال السعوديين، أوضح “يقول [الخبراء] رأيهم في اليوم الأول، ثم يُقال لهم: لا، نريد أن نفعل ذلك بهذه الطريقة، ثم يلتزمون الصمت ويفعلون ما قيل لهم. إنهم يعلمون أن شخصًا آخر سيأتي ويأخذ مكانهم إذا لم يفعلوا ذلك”.
وتزداد حوافز تجنب قول الحقيقة للسلطة بشكل أقوى عندما يُعرض على الخبراء عقود أكثر ربحًا أو فرصة للإشراف على تنفيذ مقترحات الإصلاح الخاصة بهم. لكن عندما تنحرف الإصلاحات، كما أوضح مستشار مقيم في السعودية “تحصل نخبة حاكمة أخرى على مجموعة جديدة من الخبراء، ثم تحدث نفس العملية مرارًا وتكرارًا”.
المستشارون والشرعية
تشير جونز إلى أن المستشارين موجودون بكثرة في الشرق الأوسط لدرجة أنه تم تعيينهم لتقييم بعضهم البعض، على الرغم من تضارب المصالح المتأصل. ووصف عضو سابق في صفوفهم هذه الظاهرة بأنها “مستشارون يراقبون المستشارين”.
كما يمكن أن يكون لهم تأثيرات غير مقصودة على الشرعية أيضًا. يشير التفكير التقليدي حول “الخبراء” في السياسة ليس فقط إلى أنهم يبررون عملية صنع القرار الحكومي، ولكن أيضًا أنهم يمنحون الشرعية.
ما يعني أن الجمهور قد يكون أكثر ميلًا لدعم المبادرات الحكومية عندما يشارك خبراء لديهم المعرفة والتدريب والخبرة ذات الصلة. في الخليج، يميل كل من الخبراء والنخب الحاكمة إلى التفكير في هذه الخطوط. حتى أن بعض الخبراء قلقون من تجنيدهم فقط لإضفاء الشرعية ودعم النظام.
ينصح مايكل بوزنر، من كلية “ستيرن” للأعمال بجامعة نيويورك، بأنه يجب أن تقوم الشركات الاستشارية بوضع مبادئ توجيهية مشتركة بشأن متى ينبغي عليهم إبرام العقود في الأنظمة الاستبدادية، ومتى يجب عليهم الانسحاب من هذه العقود.
“وهذا من شأنه أن يساعد الخبراء على تجنب المعضلة الأخلاقية المتمثلة في “الاستخدام المزدوج”، حيث يتم استخدام الخبرة التي يقدمونها من قبل المستبدين لممارسة القمع وربما انتهاك حقوق الإنسان”، كما يقول. في النهاية، حكام المنطقة ليسوا مدينين بالفضل للهيئات المنتخبة أو لآراء التكنوقراط المحليين. وبدلاً من ذلك، يدفعون مليارات الدولارات لتلقي حكمة المستشارين العالميين.