حينما اشتعلت أزمات نقص السلع وارتفاع أسعارها في السوق المحلية، تحدثت الحكومة بكامل أجهزتها عن تجار يتلاعبون في السوق بدءا من الأرز مرورا بالأعلاف ونهاية بالحديد، ما يثر تساؤلات حول الأسباب التي تغل يد أجهزة الدولة من العمل بقوة في مواجهة محتكري السوق ومواجهة الحيتان الكبيرة.
تدفع السوق، حاليًا، ثمنًا لما يسمى بالتركز الاقتصادي وهي حالة تغيير مستمرة للسيطرة في السوق وتنشأ في حالة الاندماج أو الاستحواذ وأيضًا حال تأسيس شراكة بين شخصين أو أكثر يقدمان نشاط اقتصادي مستقل عنهما على نحو دائم.
في كل أزمة اقتصادية، مثل الأزمة العالمية في 2008 وتداعيات ثورة 2011 وأزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، يتكرر المشهد ذاته بمجموعة من التجار والشركات الكبرى الفرصة فتحرك بيديها عرائس الأسعار في عرض ميلودرامي منفرد يشاهده الجمهور دون القدرة عل التصفيق أو إطلاق صافرات الاستهجان.
خلطة من التضخم والاحتكار
بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، أجمع أساتذة الاقتصاد على أن التضخم بمصر لا يرجع إلى الطلب ولكن لعبة الاحتكارات والسيطرة على السلع والخدمات، فكل سلعة يحتكر استيرادها أو تسويقها على المستوى الوطني مجموعة من رجال الأعمال أو التجار، علاوة على عدم تحديد هامش الربح واضح بعد تكاليف الإنتاج.
محمود ممتاز، رئيس جهاز منع الاحتكار، الذي تولى منصبه في إبريل/ نيسان الماضي، أعاد التأكيد على الفكرة ذاته حينما قال إن الممارسات الاحتكارية تزيد من سعر السلعة أو الخدمة لما بين 20 إلى 50%.
في سوق المسلي النباتي أو السمنة ـ كما يقول رجل الشارع العادي ـ ظهرت لعبة السيطرة واضحة، حينما توقفت “صافولا” و”أرما” التي تسيطران على نحو 100% من سوق السمنة والزبدة الصناعية المتوسطة والفاخرة بمصر التي يتم توريدها للمتاجر، من أجل رفع الأسعار، وتدخلت محافظة القاهرة وديا لحل الأزمة.
في سوق الزيوت أيضًا، اتفقت شركتان ثقيلتان من مستوردي فول الصويا على تأسيس مصنعا لـ”عصر الزيوت”، ما يعطيهما نفوذا أكبر، وبالفعل استحوذت على النسبة المتبقية من السوق بعد صافولا وأرما.
المشكلة الثانية في جريمة الإخلال بالمنافسة، هي الوقت الطويل الذي كان يستغرقه الفحص، والذي امتد لأعوام، مثلما حدث حينما أحال وزير التجارة السابق، رشيد محمد رشيد شركات الإسمنت إلى الجهاز، مزيلًا بتحقيق عاجل حول اتفاق فيما بينها على الأسعار، واستمرت دراسة الجهاز عدة سنوات تبدلت خلالها السوق والشركات وإداراتها وحتى الحكومة ذاتها تغيرت 5 مرات، قبل صدور النتائج.
حتى حينما أحال رشيد 11 شركة منتجة للإسمنت لحماية المنافسة وبعدها للنيابة العامة، لم يتطرق حينها لسوق الحديد الذي كان يتضمن هيمنة من قبل رجل الأعمال والقيادي في الحزب الوطني الحاكم حينها أحمد عز، رفع الأسعار في التوقيت ذاته بشكل غير مبرر.
هل يحرك القانون المياه الراكدة؟
لا يتضمن عدم تنفيذ قرارات الجهاز في القانون القديم الذي تغير في 7 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بشأن عدم الإخطار سوى فرض عقوبات تتراوح بين 20 ألف و500 ألف جنيه، وهو مبلغ هزيل لا يتضمن إجراءات رادعة، للشركات غير الملتزمة، كما ضيق القانون سلطة التصديق أو الموافقة المسبقة على عمليات الاندماج.
نص القانون الجديد على توقيع غرامة لا تقل عن 1% ولا يتجاوز 10% من إجمالي رقم الأعمال السنوي أو الأصول أو قيمة العملية للأشخاص محل التركز الاقتصادي أيهما أعلى طبقا لآخر ميزانية مجمعة معتمدة للأشخاص وفى حالة تعذر حساب تلك النسبة تكون العقوبة غرامة لا تقل عن 30 مليون جنيه، ولا تجاوز 500 مليون جنيه.
سلطة جهاز حماية المنافسة في القانون القديم الذي استمر في التطبيق حتى 7 ديسمبر الماضي، كانت تحصر دوره في تلقي إخطار بالصفقة فقط، وهو أمر جعل دوره قاصرا على وضع اشتراطات فقط في صفقة استحواذ أوبر على منافستها الإقليمية “كريم” في معظم الأسواق الرئيسية بما في ذلك مصر، بقيمة 3.1 مليار دولار.
عانت مصر، كثيرًا، من خلو قانون حماية المنافسة الخاص بها من نظام قوي للرقابة المسبقة على التركزات الاقتصادية، وهو نموذج موجود في الغالبية العظمى من الدول، ويمنح الاجهزة المعنية بمواجهة الاحتكار حق رفض صفقات الاندماج والاستحواذ قبل وقوعها.
عقبة في طريق الاستثمار
مصدر مسئول بجهاز حماية المنافسة، يقول إن وضع المنافسة سيتغير مع القانون الجديد الذي دخل حيز التنفيذ ويعمل على مواجهة تزايد عمليات التركز الاقتصادي التي تعوق دخول منافسين أو تمنع المنافسين الحاليين من منافسة الكيان المسيطر ويمنع تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية.
لكن المسئول، يقول إن الجهاز بوضعه القديم كان لديه دور في وقف صفقة اندماج مستشفيات كليوباترا مع مجموعة الأميدا للرعاية الصحية، والتي كانت ستشكل حال إتمامها أكبر كيان بالشرق الأوسط وأفريقيا.
الصفقة، التي توقفت في منتصف 2021، كانت ستخل بالمنافسة وسعر تقديم الخدمة الطبية، خاصة أن كليوباترا تضم أكبر المستشفيات العاملة في مصر، أبرزها النيل بدراوي والكاتب والشروق والقاهرة التخصصي، في حين تمتلك ألاميدا مستشفيات شهيرة منها دار الفؤاد بمدينة أكتوبر ومدينة نصر، ومستشفى السلام الدولي بالمعادي، وبالقطامية، بجانب عدد من المعامل الطبية مثل “إليكسرا” و”يوني لاب”.
يقول المصدر إن القانون يهدف إلى وضع تحقيق نظام رقابة مسبق على التركزات الاقتصادية لتمكين أجهزة حماية المنافسة من التدخل للحد من آثارها قبل اتمامها، كما تتضمن سرعة الإجراءات، وأن تتسم بالوضوح والشفافية للحد من البيروقراطية.
التعديلات القانونية الأخيرة تضمنت جوانب جديدة للتركزات الاقتصادية تتضمن التقصي والبحث وجمع الاستدلالات مع تخفيض المقابل الذي يحصل عليه الجهاز للتحري والبحث وإجراء تحليلات اقتصادية وقانونية عميقة حتى يكون مشجًعا للمستثمرين.
تحدد التعديلات الجديدة الحدود المالية لعمليات الاندماج التي يجب إخطار الجهاز بها وتتضمن قيمة العملية أو حجم الأعمال أو الأصول المجمعة للأشخاص الداخلة فيها بمصر وخارجها، وحظرت تنفيذها قبل الحصول على موافقة من الجهاز.
900 مليون جنيه.. ثغرة أم ميزة
رغم مزايا القانون الأخيرة لكنها لا تهدف إلى الرقابة على جميع التركزات الاقتصادية، وإنما التركزات التي من شأنها أن تحدث تأثيرا فى هيكل السوق وهى العمليات التي تتجاوز حجم أعمالها السنوي أو الأصول داخل مصر مبلغ 900 مليون جنيه.
بحسب رئيس جهاز حماية المنافسة، فإن تحديد ذلك المبلغ بناءً على معادلة حسابية على نحو ما جرى في كافة دول العالم بالتناسب مع حجم الناتج القومي المصري. وبلغ حجم الناتج المحلي المصري 7.1 تريليون جنيه وفقا لوزارة المالية.
دور كبير بإمكانات ضعيفة
يقول الخبير الاقتصادي نادي عزام إن هناك خلط بين الاحتكار، وتعطيش السوق ورفع الأسعار فكثيرا ما يكون تعكيش السوق من جانب مجموعة كبيرة من التجار حتى لو كانت حصصهم قليلة، وبالتالي تقع جزء كبير منها على حماية المستهلك الذي لديه الأطر القانونية للمواجهة.
يحظر قانون حماية المستهلك حبس المنتجات الاستراتيجية المعدة للبيع عن التداول بإخفائها، أو عدم طرحها للبيع، أو الامتناع عن بيعها، أو احتكارها بأي صورة أخرى، ويلتزم حائزو المنتجات الاستراتيجية لغير الاستعمال الشخصي بإخطار الجهة المختصة بالسلع المخزنة ليهم وكمياتها.
لكن يواجه الجهاز مشكلة في عدد الموظفين لديه الذين لا يتجاوز عددهم 420 موظف مع انتداب عدد أخر من الجهات الأخرى وهو أمر يحول دون قدرته على مواهة الشكاوي التي ترد إليه وتصل إلى 60 ألف شكوى سنويا في المتوسط.
يقول عزام إنه يجب تنظيمك حملة توعية بدور جهازي حماية المنافسة والمستهلك حتى يعي المواطن حدود كل جهاز بجانب زيادة عدد الجهازين في ظل تزايد حجم السوق بندب موظفين من الجهات المكدسة بالعمل خاصة أن الجهاز الإداري للدولة يتضمن 5.2 مليون موظف.