اقتبست عنوان هذا المقال من عنوان كتاب صدر بهذا الاسم للمفكر العظيم خالد محمد خالد 1920 – 1996، من طبعته الثانية التي صدرت في 1953، الفكرة الرئيسية في الكتاب هي أن بلدان الشرق الأوسط سواء عربية أو غير عربية ليس لها من مخرج مما هي فيه من بؤس غير الديمقراطية كوسيلة للحرية، ومن ثم كوسيلة للكمال الإنساني، فهي -في حد ذاتها- ليست غاية، لكن وسيلة لترقي الشعوب ماديًا وأدبيًا.
الكتاب يستمد أهميته من نبوغ وعبقرية صاحبه الذي حذر -في ذاك العام البعيد- حين تحولت فيه مصر من الملكية إلى الجمهورية، مما كان يتوقعه، وهو أن تكون الحكاية كلها مجرد انتقال من ديكتاتورية قديمة إلى ديكتاتورية جديدة، لم يكن يحذر مصر فقط، كان يحذر كل بلاد الشرق التي كانت تشهد حراكا ثوريا مثل مصر والعراق وإيران وسوريا، فقد لاحظ -بذكاء نادر وروح شفافة- أن الشعوب تلتف بحماس جماعي وراء الأنظمة الجديدة. وقال بوضوح شديد إن هذا الحماس المندفع سوف يمكن الأنظمة الجديدة من القضاء على بقايا الديكتاتوريات القديمة، ثم تؤسس مكانها فاشيات طغيانية أشد وطأة.
وهو ما حدث بالفعل طوال الفترة من 1953 حين صدر الكتاب حتى 2023، حيث أستعين بالكتاب في كتابة هذا المقال، فلو نظرت للشرق الأوسط خلال السبعين عامًا الماضية لرأيته انتقل من ظلم الاحتلال إلى ظلم الاستقلال، من ظلم الحكم الأجنبي إلى ظلم الحكم الوطني، حيث تداولت على بلدانه نظم حكم قومية ودينية وعسكرية كلها في الاستبداد والطغيان والنهب سواء، فقط تختلف الرايات والشعارات والايديولوجيات وكل المسميات، لكن يبقى المضمون واحدًا.
وفي مضر تحديدًا ذهب ملك يعتدي على الدستور وحل مكانه ملوك تحت مسمى رؤساء يكتبون الدساتير وفق هواهم وعلى مقاسهم وبما يخدم مصالحهم السياسية في الاستحواذ على كل السلطة، ثم في البقاء فيها حتى آخر يوم في الحياة.
خلال السبعين عاما من حكم الضباط 1953 – 2023 انهزمت مصر أمام إسرائيل مرتين دون أن يحاسبهم أحد، بينما حوسب الملك فاروق على هزيمته وتم خلعه، ثم خلال حكمهم تراجعت مصر من قمة العالم العربي إلى مجال نفوذ تتنافس عليه دويلات لا تملك غير المال ولا تملك غيره من أمرها شيئا، ثم خلال حكمهم ضاقت مصر بأهلها، فمنذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين وكل المصريين من كل الطبقات يراودهم حلم الهجرة الدائمة أو المؤقتة، ثم خلال حكمهم ذاق المصريون من القهر المادي والإكراه الأدبي ما لم يعرفوه في أسوأ عصور سبقت، ثم خلال حكمهم باتت مصر بالوعة سلبية تتلقى القروض والمنح والمساعدات من كل صوب، ثم خلال حكمهم ترهلت مرافق الدولة التي تخدم الشعب مثل التعليم والصحة، بينما تضخمت المؤسسات المسماة بـ “السيادية”، وهي ليست غير أدوات ضخمة لوضع أنفاس الشعب تحت السيطرة.
وباستثناء السد العالي ثم حرب أكتوبر المجيدة، فإن السبعين عامًا من حكم ضباط الجيش طالعة بالخسارة المشفية على مصر والمصريين، خسارة محضة. وما يقال عن مصر يقال -بصورة أو بأخرى- عن كل بلدان الشرق الأوسط غير الخليجية.
في إبريل من هذا العام الحالي 2023 يكون قد مضى مائة عام على دستور 1923 وتأسيس الملكية الدستورية التي عاشت ثلاثين عامًا ثم سقطت على أيدي الضباط الأحرار 1953، وفي يونيو من العام ذاته 2023 يكون قد انقضى سبعون عامًا على حكم ضباط الجيش والذي مازال قائمًا حتى كتابة هذه السطور.
سقط حكم الضباط لفترة وجيزة مع ثورة 25 يناير 2011 المجيدة، لكنه ما لبث أن عاد في صورة أشد قسوة مع الجمهورية الجديدة 2014، وما بعدها، وحتى كتابة هذه السطور وإلى أجل لا يعلمه إلا الله، فهي استأصلت بذور وجذور كل البدائل الممكنة والمحتملة استئصالًا كاملًا، وهي من نوع الليل الذي لا يعقبه نهار، ومن نوع الظلام الذي لا يعقبه نور، وهي حالة سياسية فريدة منغلقة على ذاتها، وأغلقت على المصريين أبواب الاحتمالات والتوقعات إلا المجهول منها.
***
الطبعة الأخيرة من حكم الضباط أو ما يسمى الجمهورية الجديدة هي خلاصة سبعين عامًا من حكم عسكري متعدد المذاقات ومختلف الألوان جرب كل شئ إلا الديمقراطية، وبدد كل شئ إلا إخلاصه للطغيان والاستبداد وحق كل ضابط في الحكم الفردي المطلق من لحظة جلوسه على كرسي الرئاسة ، هذه الطبعة وصلت إلى حالة من الانسداد الكامل:
1 – انسداد سياسي حيث الرئيس والحكومة والبرلمان تتسع الفجوة الضخمة كل يوم بينهم وبين الشعب، فلا هم يعبرون عن الشعب، ولا الشعب يفهمهم، وحيث تفتقد السلطة إلى مشروع سياسي تلتقي عليه مع الشعب، هي فقط سلطة حكم بالمعنى التسلطي للحكم دون معناه الرسالي أو الأخلاقي، هي -بعبارة موجزة- سلطة سيطرة وضبط وربط وليست سلطة تفاهم وحوار وتوافق وتراحم بينها وبين الشعب الذي تحكمه، سلطة تأسست في لحظة ساد فيها الضباب والخوف من عدم كفاءة الإخوان وغموض تحالفاتهم المحلية و الاقليمية والدولية.
2 – ثم انسداد اقتصادي حيث اضطربت الإدارة المالية للبلاد بما هو أسوأ من اضطرابها تحت حكم الخديوية القديمة من بعد وفاة محمد علي باشا 1849 حتى خلع الخديو إسماعيل 1879 وهو الاضطراب الذي أفقد البلاد مناعتها أمام الأطماع الأوروبية بينما الاضطراب المالي تحت قيادة الجمهورية الجديدة يضع مستقبل البلاد تحت رحمة المطامع الخليجية ذات الوفرة المالية الهائلة، فبعد تسع سنوات من حكم الجمهورية الجديدة تراكمت الديون وتعطلت المشاريع وارتفعت الأسعار وساد الركود وتعذر على الناس الحد الأدنى من مقومات الحياة.
3 – ثم انسداد اجتماعي حيث احتقان أهلي وشعبي زائد عن الحد تحت ضغط تسع سنوات من سياسات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية توجت بدور كبير للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في رسم السياسات، بما أدى إلى انسحاب الدولة من دعم القطاعات الاجتماعية ذات الوضع المنكشف.
هكذا أصبحت الصورة: إدارة سياسية منفصلة عن الشعب، إدارة مالية مضطربة، مجتمع محتقن لا يمنعه من الانفجار غير قبضة النظام الذي يحكم بالحديد والنار.
هذا الانسداد الثلاثي يمكن رصده عبر ثلاث خطب لرئيس الجمهورية، تكشف كيف بدأت الجمهورية الجديدة ثم كيف تطورت ثم كيف انتهت، كيف انتهت بالفعل.
– الأولى في 24 فبراير 2016 قبل اللجوء إلى الاستدانة التي بلغت بعد ذلك حد الإدمان، في هذه الخطبة حث الرئيس المواطنين على التبرع لمصر ولو بجنيه واحد، حيث قال “لو كلنا، لو كل يوم عشرة مليون، من التسعين مليون الذين معهم تليفون موبايل، تبرع لمصر بجنيه، يعني عشرة مليون جنيه في اليوم، يعني ثلاثمائة مليون جنيه في الشهر، يعني أربعة مليار جنيه في السنة”.
حتى هذه اللحظة كانت مصداقية النظام على درجة معقولة عند الكثيرين وكانت الاستجابة لمثل هذا النداء واردة التحقيق، خاصةً أن الغرض المعلن لهذه التبرعات، كما ورد في الخطاب تقديم خدمات محددة لبعض المواطنين مثل علاج مرضى فيروس الكبد الوبائي ومثل بناء تجمعات سكنية لائقة لساكني العشوائيات، فكرة التبرع على غرابتها كانت مقبولة طالما كانت لأغراض حميدة مشكورة.
– الثانية في 14 سبتمبر 2019 كان النظام جرب الاستدانة الخديوية كما جرب المشروعات ذات الفخامة الخديوية حتى لو لم تكن أولوية ضرورية عند عموم الشعب، ثم كان النظام مارس الطغيان في انتخابات الرئاسة 2019 ثم وهذا هو الأخطر كان قد عدل الدستور بما أفقد الناس أي أمل في أي مستقبل، في هذا الخطاب اضطر الرئيس أن يواجه لغطًا شعبيًا واسعًا أثاره مقاول شاب كان يعمل في مشاريع النظام ثم انشق عليهم ثم هرب ثم أذاع من الأسرار ما أثار الشبهات حول طهارة الحكم في إنفاق المال العام، قال الرئيس: “من حقكم تعرفوا كل حاجة، من حق كل أم كبيرة مصدقاني وتدعو الله لي، ومن حق كل أب كبير مصدقني ويدعو الله لي، لا، ابنكم إن شاء الله شريف وأمين ومخلص”. تصفيق حاد، ثم قال الرئيس: “والله الكلام مثلما قلت كدة ليس ردًا على أحد -يقصد المقاول الشاب- لكن هذا تأكيد على معاني معروفة عني من زمان قوي، الجيش يعرف عني كدة، لما تقول كلام على قائده الأعلى يهز الثقة فيه، لا، هذا كلام خطير”.
ثم قال الرئيس: “طب قصور رئاسية، آه، أمال إيه، أنا عامل قصور رئاسية، وهعمل، هي ليا؟”. تصفيق حاد، ثم قال الرئيس: “أنا بعمل دولة جديدة، هو أنتم فاكرين لما تتكلموا بالباطل هتخوفوني واللا إيه؟، لا، أنا أعمل وأعمل وأعمل، بس مش بعملوا ليا، مش باسمي، مفيش حاجة باسمي، لا، باسم مصر”.
تصفيق حاد، ثم قال الرئيس: “يا خسارة، ياخسارة، أنا مش زعلان، أنا مش زعلان، أنا متوقع دا”.
في هذا الخطاب.. في ذاك اليوم من خريف 2019 كانت الجمهورية الجديدة هوت من عنفوان قوتها إلى خريف مبكر جدًا، تساقطت أوراق مصداقيتها على الأرض، فتساقطت الثقة فيها مع الريح، التناقض حاد جدًا بين دعوة الشعب للتبرع بجنيه في 2016 ثم الاعتراف -الاضطراري- بتشييد قصور رئاسية في الخفاء، لا يعلم الشعب شيئًا عنها إلا ما أفشاه المقاول الشاب. وحتى يومنا هذا لا يعلم الشعب عنها شيئًا غير ما اضطر رئيس الجمهورية للبوح به على كراهة ومضض.
– الثالثة في 8 يناير 2023 حيث وصلت الخديوية الجديدة إلى أزمة مالية طاحنة. حيث قال الرئيس: “الظروف صعبة، وأنا أتكلم بصراحة، ودا مش معناه أن الدولة والحكومة مش هتقوم بدورها، لكن عاوز أقول الظرف صعب جدًا، أنا شايف الناس لما بتتكلم، مش بيخوفوا بعض، بيقولوا كلام غير منظم، كلام غير مرتب، كلام ناس متعرفش حاجة، وأننا بتكلم كدة بصراحة عشانكم يا مصريين، يا جماعة اسمعوا منا، ليس لأننا أصدق من غيرنا، لكن احنا قد نكون مدركين لحجم التحدي أكتر من غيرنا، الأرقام والبيانات وحتى الحلول بتبقى مطروحة من الدولة، وبالتالي أي اجتهاد من الآخرين، مش مكروه، ومش مرفوض، بس ممكن يعمل بلبلة ويزعج الناس أكتر من الظروف اللي في مصر والعالم كله ضاغطة على الناس، لو احنا تكلمنا كلام خوفنا بيه الناس أكتر طب النتيجة هتكون إيه؟ هل لمصلحتنا؟ هل احنا كدولة وشعب منقدرش نصمد أمام التحدي؟.
ثم قال الرئيس: “لو ظروف مصر صعبة هنتخلى عنها؟ لو ظروف مصر صعبة أهل مصر هيتخلوا عنها؟ هو احنا دخلنا حروب ضيعنا فيها أموال مصر؟ هو احنا دخلنا مغامرات ضيعنا فيها أموال مصر؟ لا، لا، لا، ياجماعة، دي مش أزمتنا، دي أزمة العالم كله”.
هنا وصلت الجمهورية الجديدة إلى انسداد مالي مكتمل الأركان، حيث ذهبت الأموال في بناء عاصمتين من المقاس الإمبراطوري الباذخ في بلد لا يوفر لتلاميذ المدارس العدد الكافي من الفصول والمقاعد. صحيح مصر لم تدخل حروبًا، لكن الدولة تبنت مشروعات باذخة غير ذات عوائد وغير ذات أولوية، مشروعات بددت من الأموال ما يفوق مئات المرات مجمل ما أنفقته مصر في حرب فلسطين 1948 ثم العدوان الثلاثي 1956 ثم حرب اليمن 1962 ثم النكسة 1967 ثم حرب أكتوبر المجيدة 1973، قصور رئاسية متعددة، مقرات متعددة للبرلمان، مقرات متعددة لمجلس الوزراء، مقرات متعددة لدواوين الوزارات، جوامع أكبر من الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، كنائس تضارع المقر البابوي في الفاتيكان، كباري تعبر من فوق كباري، قطارات تتوازى مع قطارات، عالم سحري مقتبس من أساطير ألف ليلة وليلة.
***
في 1875م أصبح من الواضح أن حكومة الخديوي إسماعيل لم تعد قادرةً على سداد ما عليها من ديون، ثم في 8 إبريل 1876 أعلنت حكومته تأجيل سداد ما عليها من التزامات لمدة ثلاثة شهور، من هذه اللحظة شاعت المخاوف بين الدائنين، وبدأت حكوماتهم للتحرك على مستويين: السيطرة على موارد البلاد لصالح الدائنين، إزالة أي ممانعة تحول دون هذه السيطرة وكان ذلك معناه السعي لخلع إسماعيل، وكان هذا وذاك ذروة النفوذ الاستعماري في مصر حتى قبول وقوع البلاد تحت الاحتلال العسكري الصريح، ولتبرير خلعه تواطأت القوى الاستعمارية الكبرى – ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا ومن وراء الجميع بريطانيا – ومارست الضغوط المشتركة على الخديوي حتى أجبرته على تشكيل لجنة دولية – مصرية مشتركة للتحقيق في أسباب الأزمة المالية، تتمتع اللجنة بكل الصلاحيات، بما في ذلك تفتيش كل الوثائق، واستدعاء واستجواب كبار الموظفين المصريين.
كان طبيعيًا أن تنتهي اللجنة إلى تحميل الخديوي المسئولية الكاملة عن مأزق مصر المالي، وهو -في الحقيقة- تحقيق استعماري تغافل عن دور بيوت المال والمرابين الأوروبيين في صناعة الأزمة، فعلى مدى ثلاثة عقود بين 1849 – 1879 كانت مصر منهوبة للأوروبيين في ظل خديوية مهترئة. ثم إسماعيل كانت له طموحات توسعية عظيمة في إفريقيا، وكانت -بالضرورة- غير مرغوب فيها من قوى الاستعمار الأوروبي، فقررت إزاحته -تحت ستار فشله المالي- للتخلص من مشروعه الإفريقي.
لم تصل الأزمة الراهنة لهذا المستوى، وما زالت مصر قادرة على الوفاء بالتزاماتها الدولية حتى كتابة هذه السطور. لكن المشكلة الأكبر هي انعكاس الأزمة على حياة المصريين.
نموذج الحكم الذي جاءت به الجمهورية الجديدة أقرب ما يكون إلى ديكتاتورية لويس الرابع عشر 1638 – 1715، حيث الحاكم هو الدولة والدولة هي الحاكم، هذه النظرية لم تصلح حتى في ذاك الوقت البعيد، ووضعت فرنسا طوال القرن الثامن عشر تحت شبح الثورة حتى انفجرت 1789، اضطراب مالية فرنسا الذي كان أعظم أسباب الثورة بدأ مع حروب لويس الرابع عشر.
صحيح، أزمة مصر المالية الراهنة لم تنتج عن حروب ولا عن مغامرات عسكرية، لكن هذا عذر أقبح من ذنب، إذ نتجت عن ميول خديوية متأخرة، الحكم المطلق هو العنصر المشترك في صناعة الأزمة المالية سواء في حروب أو في عواصم لا لزوم للتسرع في تشييدها.
يقول المؤرخ الدكتور محمد صبري السوربوني في كتابه “الثورة الفرنسية ونابليون” الصادر في طبعته الأولى عام 1927 “إن الحكم المطلق ومساوئه بدأت تبدو جليًا من عصر لويس الرابع عشر، ولم توجد في فرنسا منذ ذلك الوقت حكومة حازمة بصيرة تحدث الإصلاحات الأساسية اللازمة.. كان لويس الرابع عشر يقول (الحكومة أنا)، وقد أقام حكمه المطلق على هذه القاعدة، فاستأثر بكل سلطة، وقضى على الحريات الدينية، حيث اضطهد البروتستانت، والحريات السياسية، والحريات الشخصية، وسخر الشعب ودماءه وأمواله في الحروب جريًا وراء مجد كان في طياته البؤس والشقاء”.
قناة “صدى البلد” شديدة الولاء والتحيز والتعصب للجمهورية الجديدة، بثت في 8 يناير 2023 -وعلى غير عادتها- صرخات المواطنين في الأسواق، تكشف عن عمق الأزمة المالية، المشاهد تشبه ما يحكيه المؤرخ محمد صبري السوربوني عن بؤس المواطنين في عهد لويس الرابع عشر:
1 – ففي عهد لويس الرابع عشر -حسبما ينقل السوربوني عن مصادر فرنسية- كان الشعب عرضة لجشع أرباب المال، وضحية للضرائب الجائرة، والمطالب الحكومية الفادحة التي تنشأ عنها مضايقات مرهقة، وقد أصبح الكثيرون بلا مأوى، وامتلأت المستشفيات بالمرضى، وأقفرت البلاد من السكان، والواقع أن استبداد لويس الرابع عشر وحكومته قد ولد في النفوس كراهية الحكم المطلق، وأخذ هذا الشعور يزداد فيها تأصلًا بسبب انحطاط الملكية وسقوط هيبتها في القرن الثامن عشر”.
2 – ثم بعد تسع سنوات من الحكم المطلق في الجمهورية الجديدة، تخلت قناة “صدى البلد” عن استغراقها في تعظيم الرئيس وتمجيده والتفتت لصوت الشعب في شجاعة نادرة منها ومن غيرها من كل منابر الإعلام المصري في عهد الحكم المطلق الذي ميز الجمهورية الجديدة، وفيما يلي نماذج مما أذاعته القناة على ألسنة المواطنين من أحد الأسواق العامة بالصوت والصورة:
– أنا مش عارفة أأكل عيالي، أنا مطلقة ومعي أربع عيال، في أولى ثانوي، وفي تالتة إعدادي، واتنين في تانية ابتدائي، ومحدش بيساعدني عليهم، بشتغل بألفين جنيه ـ والمرتب لايزيد.
– كل حاجة غالية، فراغ غالية، لحمة غالية، خضار غالي، الرز كان بـ 8 ج بقى بـ 10 ج ثم النهاردة بـ 20 ج، المكرونة بـ 20 ج، العدس ب 47 ج.
– الأسعار كلها مولعة الفرخة كانت بـ 38 ج النهاردة ب 60 ج.
– أنا راجل بتاع فول وطعمية، كيلو الزيت بقى بـ 60ج، كيلو الفول بـ 30 ج، طبق الفول بـ 20 ج، كيلو الطحينة كان بـ 40 ج بقى بـ 80 ج، طب الناس الغلابة اللي بتعتمد على الفول والطعمية تجيب منين وتاكل بكام؟
– من الصبح بلف في السوق، مش لاقي حاجة بـ 50 ج، كل اللي معي 50 ج، عندي واحد وستين سنة، ومعنديش معاش، ولا قرش دخل، آكل منين.
– الفقير كان يجيب كام كيلو بطاطس وأزازة زيت ويعشي العيال، النهاردة الزيت والبطاس بـ 100ج، الفقير يجيب منين.
من يقارن ما اعتادت قناة “صدى البلد” وغيرها ممن قنوات الإعلام الموجه لكيل المدائح الرئاسية على مدى تسع سنوات بمثل هذه الشهادات الحية من المواطنين يعرف حجم الفجوة الواسعة بين الجمهورية الجديدة والشعب.
***
مصر في المائة عام الأخيرة جربت الثورات الشعبية كما جربت الانقلابات العسكرية والمحصلة لا تشرف أحدًا.
ثم مصر – الآن بالذات – لا طاقة لها بثورة ولا انقلاب كما لا طاقة لها باستمرار الجمهورية الجديدة.
ليس أمام مصر إلا ما دعاها إليه خالد محمد خالد في كتابه “الديمقراطية أبدًا”.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.