تشهد العاصمة المصرية حالة من الحراك على صعيد ملف الأزمة الليبية في ثلاثة ملفات رئيسية هي القاعدة الدستورية والمناصب السيادية وتوحيد السلطة التنفيذية، ويمثل ذلك جهودًا من جانب القاهرة لإثبات سيطرتها على خيوط اللعبة هناك، واحتضان الأطراف اللليبية، وترسيخ نفوذها كفاعل رئيسي في الساحة الليبية، وعدم إخلاء الساحة لتركيا لتتحرك منفردة في أحد الملفات الهامة التي تمثل امتدادا للأمن القومي المصري.
وشهدت القاهرة، الاثنين، لقاء جمع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي مع المشير خليفة حفتر، يُعد الثاني من نوعه بينهما ، منذ اجتماعهما في الحادي عشر من شهر فبراير/ شباط 2021، حين زار المنفي بنغازي. وهو الأمر الذي يشير إلى أهمية اجتماع الرجلين في العاصمة المصرية.
اقرأ أيضًا: 3 سيناريوهات تنتظر ليبيا وسط صراع كيانات منتهية الصلاحية
وفي وقت سابق، تحديدًا الخميس الماضي، التقى رئيسا مجلسي النواب عقيلة صالح والأعلى للدولة خالد المشري في القاهرة، وأكدا في اللقاء على الإعلان عن خارطة طريق جديدة قريبا في حضور رئيس مجلس النواب المصري حنفي الجبالي.
وبمحازاة ذلك يجتمع في القاهرة أعضاء اللجنة المشتركة من مجلسي النواب والأعلى للدولة لإنجاز القاعدة الدستورية، والتي من المقرر أن تجري بموجبها الانتخابات الرئاسية والنيابية المرتقبة.
تشهد ليبيا منذ مطلع العام الماضي، أزمة سياسية خانقة تتمثل في صراع بين حكومتين، الأولى حكومة فتحي باشاغا التي كلفها مجلس النواب والثانية حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة تأتي عبر برلمان جديد منتخب كما يقول.
ولحل تلك الأزمة أطلقت الأمم المتحدة مبادرة تقضي بتشكيل لجنة مشتركة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للتوافق حول قاعدة دستورية تقود البلاد إلى انتخابات في أقرب وقت ممكن.
عقبات رغم التفاؤل
ورغم التفاؤل باللقاءات الليبية النوعية التي جرت على الأراضي المصرية، في خطوة تمثل اختراقا حقيقيا من جانب القاهرة لمناطق ظلت لفترة ليست بالقصيرة حكرًا على تركيا، بحكم سيطرتها على مكونات معسكر غرب ليبيا، حيث تتمركز قواتها والمرتزقة التابعون لها هناك، إلا أن هناك عقبات يجب تجاوزها من أجل الوصول لحل حقيقي للأزمة.
أولى هذه العقبات، أن مكونات كلا المعسكرين الليبيين سواء الشرق أو الغرب، لا يتفقان على رؤية موحدة لحل الأزمة أو تصور واحد لخارطة الطريق التي يسعى المجتمع الدولي لإنجازها في أقرب وقت ممكن، وعلى رأسها إجراء الانتخابات خلال العام الجاري.
ففي معسكر غرب ليبيا تبدو العلاقة بين عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنهية ولايتها، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، متوترة للغاية، حيث وصلت حد تبادل الاتهامات بالسعي وراء المصالح الشخصية التي تتجاوز مصلحة الدولة الليبية.
ولا تلقى تحركات المشري الأخيرة قبولًا لدى الدبيبة، الذي اتهم رئيسي مجلسي الدولة والنواب بعقد صفقات “مشبوهة” لتقاسم السلطة وتعطيل إجراء الانتخابات.
كما اتهم الدبيبة، “المشري وصالح” بمواصلة التسبب في إحباط الشعب الليبي بتجاهل ضرورة إجراء انتخابات “حرة ونزيهة”، وقال إنهما منشغلان دائمًا بالبحث عن طرق جديدة للتمديد لنفسيهما وتقاسم السلطة.
اقرأ أيضًا: أزمة ليبيا.. سيناريوهات الحل والحرب
ويعتبر الدبيبة أن مجمل تحركات المشري وصالح، هدفها الرئيسي هو تشكيل حكومة انتقالية تحل محل حكومته.
في المقابل قال المشري في تصريحات تلفزيونية مؤخرا إن الدبيبة سيُقاتل لمنع أي خطوة تؤدي بالليبيين إلى الانتخابات وسيصرف المليارات لأجلها، داعيا إياه إلى مناظرة علنية على الهواء مباشرة، ومشددا في الوقت ذاته على أنه حال تعذر إجراء انتخابات في ظل وجود حكومتين ستُشكّل سلطة جديدة هدفها إجراء الانتخابات.
ولا يختلف الحال كثيرا في معسكر الشرق الليبي سواء داخل مجلس النواب الذي لا تسير الأمور فيه على وتيرة واحدة، فهناك فريق لا يتوافق بشكل أو بآخر مع تحركات رئيس المجلس.
يعبر عن هذا الفريق، النائب سالم قنيدي الذي أكد أن إعلان القاهرة لا يؤسس لإنهاء المراحل الانتقالية وإجراء الانتخابات، مضيفا في تصريحات صحفية، أن عقيلة صالح يسيطر على القرار داخل مجلس النواب ويسعى للتمديد وعقد الصفقات مع المشري.
ويعتبر ذلك الفريق وفقا لقنيدي أن مشروع الدستور الذي صاغته هيئة منتخبة هو الأولى باعتماده وعرضه للاستفتاء الشعبي، مؤكدا أن عقيلة والمشري تجاوزا صلاحياتهما بالخوض في المسار الدستوري .
وعلى جانب آخر، لا تسير الأمور بشكل جيد بين صالح، وخليفة حفتر، الذي يسعى لمنع تمرير أية شروط في القاعدة الدستورية تنتقص مما يراه حقا له في الترشح للانتخابات الرئاسية.
وكشفت تقارير من شرق ليبيا عن ضغوط يمارسها حفتر ضد صالح للتمسك بأحقية ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية للانتخابات.
ويصطدم نجاح أي اتفاق بين رئيسي مجلسي النواب والدولة بضرورة حسم مسألة ترشح حفتر بوصفه مزدوج الجنسية الليبية والأمريكية، في الوقت الذي يواجه فيه عرض شروط الترشح على الاستفتاء الشعبي صعوبة بالغة لوجود تجربة فاشلة في طرح مشروع الدستور الجاهز منذ 2017 لوجود أطراف ترفضه وخصوصا أنه يمنع صراحة ترشح مزدوجي الجنسية.
غياب الجدول الزمني
أما ثاني العقبات التي تجعل التفاؤل بإعلان القاهرة حذرا، هو أنه كغيره من الاتفاقات التي جرت طيلة السنوات الماضية، حيث يغيب الجدول الزمني المحدد لخطوات خارطة الطريق التي أعلن رئيسا مجلسي النواب والأعلى للدولة، أنهما بصدد التوصل إليها قريبا، وذلك في ظل سلسلة من الخطوات الإجرائية المعقدة التي يجب أن تمر بها لحين الوصول لخريطة نهائية تؤسس لسلطتين جديدتين (تشريعية وتنفيذية) في نهاية المطاف.
ووفقا للمسار الإجرائي المحدد، فإنه من المفترض بعد أن يتم الانتهاء من القاعدة الدستورية التي تواجه بالأساس أزمة في حسم شروط الترشح للانتخابات الرئاسية والنيابية، إحالة الوثيقة الدستورية للمجلسين لإقرارها طبقًا لنظام كل مجلس، على أن يعقب ذلك إعلان خارطة طريق محددة لاستكمال الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية، سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية وتوحيد المؤسسات، وذلك كله بعد أن تمر بحوار مجتمعي يضمن لها حد أدنى من التوافق.
بطء مسار التقارب المصري التركي
العقبة الأكبر وربما تكون الأهم في مسار حل الأزمة الليبية والتوصل لاتفاق سياسي يضع حدا لها، يرتبط بالأساس بالمواقف الإقليمية المتناقضة، وفي مقدّمتها تلك المصرية والتركية ، حيث أنهما من اللاعبين الأهم والأبرز على الساحة الليبية، لما يملكان من أوراق نفوذ في ظل ارتباط مصالحهما المباشرة بالأوضاع في ليبيا.
ففيما كانت القاهرة تشهد حراكا ليبيا، عُقد في تركيا اجتماع آخر ضمّ سياسيين محسوبين على التيّار الإسلامي، وآخرين موالين للفصائل المسلّحة، إلى جانب شخصيات مدنية، في محاولة للتوصّل إلى رؤية مشتركة يتمّ تقديمها لرئيس البعثة الأممية في ليبيا عبد الله باتيلي، تمهيداً لعقد مؤتمر ليبي يُراد منه خلْق مسار جديد للدفع بالانتخابات البرلمانية والرئاسية قُدماً، بعيداً عن البرلمان الحالي، وهو ما ينافي تماماً ما جرى التفاوض عليه في القاهرة، حيث تعتقد أنقرة أن استيلاد جبهة مناهضة لتلك التي يدعمها المصريون وخليجيون، من شأنه أن يُكسبها ورقة ضغط أساسية في الوقت الذي بات فيه التيار المدعوم مصرياً يضمّ رسمياً رئيس المجلس الأعلى للدولة الذي كان محسوباً على تركيا لفترة طويلة.
وتأتي تلك الخطوة في الوقت الذي استقبل فيه المجتمع الدولي وقطاعات كبيرة من الليبيين، المصافحة التاريخية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في قطر على هامش حفل افتتاح كأس العالم الماضي، واللقاء المطول الذي تبعها، بتفاؤل خاصة في ظل تأكيدات المسئولين المصريين أن ليبيا تمثل العقبة الرئيسية في مسار تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، وفي ظل تمسك مصر بضرورة خروج كل القوات الأجنبية بما فيها التركية والمرتزقة التابعين لهم من ليبيا.
الخلاصة، يمكن القول أن ماشهدته القاهرة من حراك ليبي، يصب في خانة استعادة القاهرة لجزء من نفوذها، وتقليل مستوى التفاوت بين الدورين المصري والتركي، لكن في النهاية لم يتوفر بعد المناخ اللازم لحل الأزمة الليبية، وسط تناقض المواقف الإقليمية التي لاتزال تتصارع من أجل مصالحها على الأراضي الليبية.