أيام قليلة وتهل علينا ذكرى ثورة 25 يناير الخالدة.
المؤكد أن يوم 25 يناير 2011 هو يوم من أيام المصريين المجيدة، فلم تكن الثورة مجرد موجة غضب، ولا هي كانت رغبة جامحة في العصيان، بل كانت لحظة فريدة لم تتكرر كثيرا في تاريخ المصريين الحديث بأكمله.
اقرأ أيضا.. في أزمة الاقتصاد الخانقة: السياسة أولاً
الشعب المصري يناضل في الميادين ضد رئيس حكمه بالحديد والنار والفساد والاستبداد لمدة 30 عاما فيسقطه ويسجنه، لحظة خالدة لها ما بعدها، وستشكل نفسية أجيال وأجيال قادمة لا زالت تحلم بأن تلحق مصر بعصرها، وتخرج من عبودية الخضوع للحكم الفردي المطلق، ومن سيناريو طويل وممل من توريث الشعب من ديكتاتورية قديمة لديكتاتورية جديدة، ومن استبداد لآخر، ومن استبعاد الناس من حقها في اختيار من يحكمها عبر دستور وانتخابات نزيهة وحرة، وبرلمان منتخب انتخابا شفافا، وقضاء كامل الاستقلال يصون الحقوق ويحمي الحريات، وصحافة مهنية ونزيهة تكتب وتكشف المسكوت عنه وتفضح كل صور الفساد والانحراف، ورأي عام فاعل وضاغط يراقب ويسائل ويحاسب.. ويجدد الثقة في المسئولين أو يحجب عنهم صوته في الانتخابات التي يتم عن طريقها تداول السلطة واحترام الدستور.
بكل تأكيد يمكن النظر لثورة 25 يناير على أنها كانت لحظة اختيار.
اختار المصريون في يناير 2011 وبحضور مدهش في الميادين، وبأثمان فادحة دفعوها من دماء شهدائهم أن يكونوا أحرارا، رفعوا الشعارات الأربعة الكبرى التي عبرت ببساطة وعمق مذهل عن “الشعب الذي يريد”، كتبوا فصلا جديدا مبهرا نبيلا من فصول التاريخ عنوانه: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
لا زلت من المقتنعين أنه لا خوف على ثورة يناير مهما زادت وعظمت مساحة التشويه والتجاهل والإساءة، فالأحداث الكبرى في التاريخ لا تنتهي بهذه البساطة، والثورات العظيمة، لا تنهزم أو تستسلم مهما كان الهجوم والتشويه، وانتصارها التاريخي يمكن أن يحدث في فترة زمنية قصيرة، ويمكن أن يحتاج إلى سنوات وسنوات، لكنه انتصار حتمي ومؤكد، فبرنامجها قد وضعه الشعب نفسه بملايينه، وأهدافها قد اختارها من دفعوا الثمن مقدما برضا وحب، هذا مما لا يمكن هزيمته مهما حاول خصومها.
على مدار السنوات الماضية اختارت السلطة الحالية أن تحكم على عكس ما أرادت ثورة يناير بالضبط، تجاهلت كل من ضحى أو حلم بمستقبل مختلف، سمحت وتسامحت مع أصوات نشاز مغرضة تسيء إلى يناير ورموزها وأفكارها، خاضت معركة حقيقية ضدها عبر كبار المسئولين فيها أحيانا، شكلت ما يمكن أن نعتبره “ثورة مضادة” لـ25 يناير وكل من تمسك بها أو حلم بوصولها إلى بر الأمان: بر العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
لم تكتف السلطة الحالية بأن ترتد على أحلام يناير وطموحاتها الكبرى عبر التجاهل والإساءة، بل حولت شعاراتها الكبرى إلى العكس بالضبط:
تحول العيش إلى معاناة غير مسبوقة يعيشها المصريون، وغلاء مستوحش يلتهم دخولهم الفقيرة أصلا، وعدم قدر على استكمال الحياة بفعل ضغوط اقتصادية رهيبة.
حاصرت الناس من كل اتجاه، وانهيار في سعر العملة المحلية لم يسبق أن عاشته مصر من قبل، وانسحاب كامل للدولة من حياة المواطنين لتتركهم فريسة للغلاء والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، ثم فقر كامل يزداد كل يوم بعد تراجع قيمة العملة وارتفاع سعر الدولار ولجوء الدولة لجيوب المواطنين لتسديد كل الفواتير المتراكمة وكل الديون المؤجلة، تلك التي أنفقت على مشروعات ليست إنتاجية ولم تساعد في التصنيع ولا التصدير ولا كل ما يعود على المواطن بالنفع وعلى البلد بالتقدم.
وتحولت الحرية إلى حصار مرعب للمجال العام كما لم يحدث من قبل، وقيود غير مسبوقة على الحريات العامة: الرأي والتعبير والاعتقاد والصحافة والإعلام والتظاهر السلمي، ثم ملاحقات لا تنتهي لآلاف من سجناء الرأي الذين لم يفعلوا أكثر من خلافهم المشروع والدستوري مع السياسات الحالية، ثم تأميم كامل وشامل للإعلام لتتحول الصحافة إلى نشرات رسمية وصدى صوت للسلطة ورجالها، ثم سيطرة كاملة على الجامعات والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية بصورة لم تشهدها مصر أبدا.
ثم تحولت العدالة الاجتماعية إلى تفاوت طبقي كبير، فهناك تعليم الفقراء وتعليم الإغنياء، ومستشفيات الفقراء التي تخلو أحيانا من “الشاش والقطن” والأدوات والأجهزة.
التي تساعد في إنقاذ حياة الناس وصحتهم، ومستشفيات الإغنياء التي هي أشبه بالفنادق ذات الخمس نجوم ينفقون فيها الملايين هم وأسرهم، ثم تحمل الناس عبء الضرائب التي أرهقت ميزانياتهم البسيطة، في مواجهة الأغنياء الذين يرفضون تحمل نصيبهم المستحق من الضرائب، ثم عادت الواسطة لتنمو وتنمو لتدفع بأبناء الكبار إلى المقدمة على حساب أبناء الفقراء، وقد كانت كارثة لجان أبناء الأكابر في الثانوية العامة هي النموذج الأبرز لهذا الانقسام الفج الذي يدفع ثمنه الفقراء وأبناؤهم.
كل ما سبق هو اختيارات للسلطة الحالية في مواجهة مسار ثورة يناير التي أرادت أن تنقل حياة الناس إلى الحرية والعدالة والكرامة، لكنها في الأصل سياسات ضد حركة التاريخ، فما حققته يناير لا يمكن العودة إلى ما قبله أبدا إلا استثناء، وهو ما يعني أن كل اختيارات جاءت مناقضة لاختيارات ملايين يناير هي استثنائية بطبعها، لن تدوم، ببساطة لأن أحدا لا يمكنه الوقوف ضد الزمن، والتطور سينتصر في نهاية المطاف، لكن بعد أن نكون قد أهدرنا من عمر البلد سنوات كانت كفيلة بنقلنا إلى مساحات أخرى أكثر أمنا وتقدما وحرية.
يناير الخالدة هي فاتحة الكتاب ومفتتح الطريق، وضربة البداية لمستقبل رسمت 2011 خطوطه العريضة وسيتكفل الزمن بباقي الخطوات حتى محطة الوصول، فلا أحد يمكنه هزيمة التاريخ، ولا قوة يمكنها هزيمة التطور الذي سيحدث ولو كره الكارهون.
كل عام وأهل يناير بخير وقوة وقدرة وأمل لا ينتهي في غد تستحقه مصر بكل تأكيد.