احتدم الجدل على صفحات التواصل الاجتماعي على خلفية تدوينة لرجل الأعمال الشهير المهندس نجيب ساويرس، الذي اعتاد إثارة الجدل بتدويناته واسعة الانتشار مؤخرا، والذي ضرب مثلا بحكم بينوشيه في تشيلي، باعتباره أحد نماذج نجاح أنظمة الحكم العسكري، وذلك النجاح (وفقا للسيد نجيب) مرجعه إلى استعانة بينوشيه بأولاد شيكاغو Chicago Boys لتولي شئون الاقتصاد.
اقرأ أيضا.. صندوق القناة
تباينت ردود أفعال المتابعين بين مؤيد لرأي السيد نجيب ومعارض له، وانقسمت آراء الطرفين بين قاطع بأن أولاد شيكاغو كانوا نموذجا للفشل في تولّي الحقائب الاقتصادية لدولة شيلي خلال فترة حكم “بينوشيه” وحتى اقتراب نهاية حكمه بعد أن قام بإقصائهم بنفسه على خلفية إخفاقات اقتصادية واضحة، وبين قاطع بأن “أولاد شيكاجو” حققوا نجاحا كبيرا في تحوّل تشيلي الاقتصادي والسياسي فيما بعد.
والحقيقة أنني أتناول تلك القضية بتواضع شديد، حيث انقسم عليها كبار الاقتصاديين بدرجة أقل من اليقين الذي امتلكه روّاد مواقع التواصل في مصر! فالتجربة التشيلية شديدة الثراء في تحولاتها، وتجربة أولاد شيكاغو تحديدا أثارت جدلا عنيفا بين كبار الاقتصاديين منذ بدايتها وحتى اليوم. فهذا “ميلتون فريدمان” الاقتصادي الشهير والحائز على جائزة نوبل، يطلق وصف “المعجزة” على تجربة أولاد شيكاغو الذين هم بعض تلامذته، والمؤسسون الأوائل لليبرالية الجديدة في أمريكا اللاتينية، بل وفي العالم أجمع إذا ما نظرنا إلى حدة التغيير الذي فرضته تلك الليبرالية بقوة وتحت حماية البطش الديكتاتوري لبينوشيه.
وربما اتفق مع رأي “فريدمان” اقتصادي آخر كبير حائز على جائزة نوبل، وهو “فريدريش هايك” الذي زار تشيلي في فترة حكم بينوشيه، واعتقد أن بعض البلاد لا يمكن تغييرها إلا بقوة الديكتاتورية المستنيرة، مستمدا قناعته من حجم النمو الكبير الذي أحدثته مدرسة أولاد شيكاغو في تشيلي، ذلك النمو الذي أسس على ركني القطاع المالي والتصدير، وذلك على حساب القطاع الصناعي، وسياسة الانكفاء على الذات التي تبنتها تشيلي قبل الانقلاب في سبتمبر من العام 1973.
لكن الاقتصادي “أمارتيا سين” الحائز على جائزة نوبل يعتبر أن ما يسمى بـ”التجربة النقدية” التي استمرت حتى عام 1982 في شكلها النقي، قليل من يزعم بكونها ناجحة.
في كتابه “الجوع والعمل العام” الصادر عام 1991، أكد “سين” على فشل تلك التجربة في أن تؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام وشامل.
أولاد أو فتيان شيكاغو هم مجموعة من الاقتصاديين الذين تعلموا الاقتصاد على يد “هاربرجر” في جامعة شيكاغو متأثرين بتعاليم “ميلتون فريدمان” وتحت إشرافه، كواحد من أهم أعمدة الاقتصاد الحر على مر التاريخ. ومنهم من تلقى العلم في تشيلي بنظام تعليمي مشترك مع جامعة شيكاغو، ليتخرجوا جميعا محمّلين برسالة واضحة لتغيير هذا البلد، بل وعدد من دول أمريكا اللاتينية الأخرى.
التغيير كان حتميا ومؤيدا من الولايات المتحدة بشكل كبير، وكانت نواة ذلك التغيير هو مشروع “اللبنة” Brick الذي وضعه الأولاد عشية الانقلاب، والذي أصبح لاحقا مشروعا اقتصاديا مهيمنا خلال حكم “بينوشيه” بعد انقلابه الشهير وحتى نهاية حكمه عام 1990.
إرث أولاد شيكاغو هو قضية مثيرة للجدل في تشيلي، فقد تضاعف حجم الاقتصاد تحت إدارتهم واستمر في النمو على الأسس التي أرسوها، إذ قفز إجمالي الناتج المحلي الإجمالي من 14 مليار دولار في عام 1977 إلى 247 مليار دولار في عام 2017. ومن ناحية أخرى، فقد أصبح التفاوت الاجتماعي والطبقي مذهلا في البلاد حيث أن ما يقرب من ثلث الدخل القومي يتركز بيد 1% من السكان، مما يجعل تشيلي واحدة من أكثر دول العالم في تركّز الدخل وعدم المساواة.
قام الأولاد بفرض تخفيضات جذرية في الإنفاق العام والاستثمار الاجتماعي، مما أدى إلى انخفاض الناتج الصناعي بنسبة 28% في عام 1975، في حين انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12.9%. بعد ذلك، قام نظام بينوشيه بقيادة انفتاح اقتصادي سريع، تضمّن عددا من السياسات منها: تحرير الأسعار من الدعم والتشوهات، وتخفيض الرسوم الجمركية من 94% (كحد أقصى) إلى رسم شامل بنسبة 10% فقط، وإلغاء عدد من الضرائب، وتقليل النقابات العمالية إلى الحد الأدنى. وقد شهدت تشيلي في عهد بينوشيه خصخصة حوالي 95% من الشركات العامة،علما بأن عملية البيع قد شابها الانحياز إلى دائرة مقربة من رجال الحكم، وظهر ما يعرف برأسمالية المحسوبية، ونمو مجموعات اقتصادية شديدة التركّز والترابط.
كانت عقيدة التحرير الاقتصادي غير المقيّد بأي التزامات اجتماعية، هي مدار فلسفة أولاد شيكاغو في الحكم، لدرجة أنه عندما انفجرت أزمة ديون أمريكا اللاتينية في عام 1981، أعلنوا تبنّي سياسة “عدم فعل أي شيء” Do nothing policy بقناعة منهم بأن الاقتصاد الحر سوف يتكيف ويصحح من عيوبه ذاتيا. لكن النتيجة كانت وفقا لأستاذ الاقتصاد التشيلي “باتريسيو ميللر” انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للدولة بنسبة 15%، وارتفاع البطالة إلى ما يزيد عن 30%، وخسارة البنك المركزي نصف احتياطيه الدولي، وغرق تشيلي في أسوأ موجة ركود منذ الكساد الكبير.
خلال الحقبة الديكتاتورية لدولة تشيلي، حقق الناتج المحلي الإجمالي نموا سنويا متوسطا بنسبة 2.9%، مما جعل بينوشيه في المرتبة الثامنة من بين الحكومات العشر التي مرت على تشيلي بين عامي 1958 و 2018. وبلغ معدل التضخم السنوي 79.9% خلال ذات الفترة، وهو ثاني أعلى معدل تحقق بين تلك الحكومات. كما بلغ معدل البطالة 18%، وهو أعلى رقم في أي حكومة تشيلية خلال السنوات الستين الماضية! وانخفض الإنفاق العام على التعليم من 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1974 إلى 2.5% في عام 1990، كما انخفض الإنفاق على الصحة إلى 2%. كانت الدولة التي سلمها بينوشيه فقيرة وغير متكافئة، إذ بلغت نسبة الفقر 68٪، وكان مؤشر “جيني” لعدم المساواة في توزيع الدخل القومي قد بلغ 0.57، وهو من أعلى المعدلات في العالم.
على الرغم من ذلك، فإن بعض إصلاحات فتيان شيكاغو وضعت بذور التنمية الحديثة في دولة تشيلي، ومن أبرزها: التحرير الاقتصادي، وتعزيز الاستثمار الخاص، واستقلالية البنك المركزي. وقد حافظت الحكومات الديمقراطية التي تلت بينوشيه على تلك الأسس الاقتصادية، وعززتها باتفاقيات التجارة الحرة، وزيادات ضريبية صغيرة لتمويل الإنفاق الاجتماعي.
كانت نتيجة ذلك أن الفترة بين عامي 1990 و1998 شهدت نموا للناتج المحلي الإجمالي لتشيلي بنسبة 7.1% سنويًا، وانخفض التضخم إلى 11.7%، وانخفض معدل البطالة إلى 7.0%، بينما انخفض الفقر بشكل مطرد ليصل إلى 8.6% في عام 2017. يظن البعض إذن أن “معجزة تشيلي” التي وصفها “فريدمان” وقصد بها فترة حكم “بينوشيه” تحققت بالفعل أثناء الحقبة الديمقراطية، ولكن مستفيدة من الأسس التي أرساها أولاد شيكاغو في عهد بينوشيه، ما جعلها تحافظ على معدلات مرتفعة من عدم المساواة أيضا.
يبلغ حاليا متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تشيلي 25 ألف دولار سنويا، لكن 50% من العمال التشيليين يكسبون أقل من 6320 دولارًا سنويًا. وفقًا لقاعدة بيانات عدم المساواة العالمية، فإن أغنى 1% في تشيلي يحصلون على 28.1% من إجمالي الدخل القومي، مما يضعها في المرتبة الثالثة من حيث عدم المساواة في العالم، ولم تتجاوزها سوى جمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق، وتتعادل مع المكسيك. تهيمن حفنة من العائلات على الاقتصاد في تشيلي، وتسيطر شركات قليلة تنتمي إلى تلك المجموعات العائلية على أسواق سلع وخدمات حيوية مثل الصيدليات والمصارف والمواد الغذائية وخدمات الهاتف.
رغم تحسنه عن فترة الحكم الديكتاتوري، لا يزال النموذج الاقتصادي لتشيلي ريعيا، ويتمحور حول التعدين وصيد الأسماك. بلغت صادرات معدن النحاس 50% من إجمالي صادرات الدولة. تمتلك تشيلي واحدا من أدنى معدلات الاستثمار في البحث والتطوير في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (0.35%). كذلك كانت الإنتاجية والنمو في مسار هابط على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية.
أصيب الاقتصاد بأعراض: الركود التضخمي، وعدم المساواة، ومعارضة الإصلاحات الاجتماعية مثل الإصلاح الخاص بنظام المعاشات التقاعدية.. كل ذلك أدى إلى الانتفاضة المدنية الكبرى التي انفجرت في عام 2019 وأسفرت عن دستور جديد يتخلّص من كثير من بقايا إرث “بينوشيه” الاقتصادي.