في كتابه الهام ثورة بلا ثوار: كي نفهم الربيع العربي، يتساءل آصف بيات، إذا كان ما نجم عن ثورات الربيع العربي هو ثورات فعلا، بالمعنى الذي كان للثورات الرديفة في سبعينيات القرن الماضي. يلاحظ أن الثورات الأخيرة لا مثيل لها في الافتقار إلى الإيديولوجيا وميوعة التنسيق وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكرية لديها، أمور لم يسبق لها مثيل تقريبا.
اقرأ أيضا.. ظاهرة صلاح جودة.. الشعبوي الذي انحاز للناس وأقلق شبحه جهاز سامسونج
لكن الأشد إدهاشا بالنسبة إلى بيات، هو افتقارها إلى أي نوع من النزعة الجذرية التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثل الديمقراطية العميقة والمساواة وعلاقات التملك المنصفة والعدالة الاجتماعية، بهتت أو كانت موضع خُطب، أكثر مما كان يحفزها اهتمام صادق يرتكز على رؤية استراتيجية أو برامج ملموسة.
فراغ السلطة مثلا، لم تملئه منظمات شعبية، ولم تفض إلى تحول جذري سريع للنظام القديم.
كانت تلك الثورات القديمة تقطع الصلة بنمط علاقات القوة العالمية، حيث تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ، باستثناء نيكاراجوا التي تبنت نظام ديمقراطية متعدد الأحزاب (ثورة إيران، نيكاراجوا، ثورات الخليج التي واجهت ردات فعل عنيفة الثورات المقاومة للاستعمار، موزمبيق، أنجولا، جنوب أفريقيا، غينيا بيساو، ثورة البرتغاليين على الديكتاتورية الاستعمارية) من خلال قادة ذوي شعبية واسعة، بمشاعر معادية للإمبريالية، مناهضة للرأسمالية، ومنادية بعدالة التوزيع.
افتقرت الثورات العربية إلى مرساة فكرية مشتركة، والثورات في المعتاد توحي وفي الوقت نفسه، والكلام لبيات، تستوحي من بعض النتاجات الفكرية، مجموعة من الأفكار والمفاهيم والفلسفات، تكون ملهمة للاوعي الفكري لدى المتمردين، فتؤثر في نظرتهم أو خيارهم الاستراتيجي ونمط القيادة.
الثورة الإنجليزية، ما بين عامي 1640 إلى 1660، حين تحدى البرلمان الإنجليزي الملك تشارلز الأول، كانت مرتبطة بالنظريات السياسية لدى فلاسفة مثل جون ميلتون، في شأن حرية التعبير، وتوماس هوبز في شأن الحقوق الطبيعية. أما الثورة الأمريكية، فاستلهمت من أفكار توماس بين ومونتسكيو وجان جاك روسو. ألهم فولتير الجانب الجمهوري في الثورة الفرنسية.
كان مفكرون مثل فاتسلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا وآدم ميشنيك بولندا، وغيورغي كونراد المجر، يرمزون إلى الوجه الفكري من الثورات الأوروبية الشرقية.
أما الثوار الإيرانيون، فاستوحوا من الأدبيات الماركسية واللينينية، والمفكرين الإسلاميين على الأخص من المفكر الشعبي الثوري والإسلامي الماركسي علي شريعتي.
لم يبد أن ثمة مفكرا صاحب رؤية قد رافق الربيع العربي.
افتقرت الثورات كذلك إلى نمط الراديكالية في النظرة السياسية والاقتصادية، في مقابل اهتمام بعموميات حقوق الإنسان والمحاسبة السياسية والإصلاح القانوني، ولم تتطرق إلى مسألة السوق الحرة وعلاقات حيازة الملكية والعقلانية النيو ليبرالية، وهو شأن اشترك فيه كل من الأصوات البارزة العلمانية والإسلامية، الذي تعلموا مع الوضع الحالي لاقتصاد السوق الحر كأمر مسلم بيه.
لم تكن هناك نظرة نقدية حقيقية إلى العالم، مما لا يخدم إلا بالكلام هموم الجماهير الحقيقية في شأن العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع، لم تتغير بنية السلطة وأنماط الحكم عن الأنظمة القديمة، فظلت المؤسسات وقاعدة نظام مبارك منيعة، وآوت قوى الثورة المضادة.
حركات احتلوا التي انتشرت في مئات المدن بالعالم، استلهاما لنموذج التحرير، كانت إعرابا عن السخط حيال هيمنة الشركات على الحكومة، ومن أجل فصل المال عن السياسة، وجميعها عبرت عن اعتراضها على عواقب السياسات النيو ليبرالية، وعدم الثقة في الديمقراطية النيو ليبرالية، التي جردت فيها النخب السياسية المتساوقة مع المال والأعمال، الديمقراطية من جوهرها.، فنزل المعترضون بأنفسهم ليمارسوا السياسة بعدما فقدوا الثقة في المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، لكن حركات “احتلوا” رفضت أن تركز على مطلب معين، أو تتقدم ببديل معقول.
منطق “لا مطلب، بل كل المطالب”، انتقد طبقة الواحد بالمئة من الأغنياء، لكنها تركوا الرأسمالية التي أنتجت هذه الطبقة، بلا قيود.
ضد أي أيديولوجيا، ازدراء أي تنظيم قوي أو قيادة معترف بها، وبلا مسودة برامج بديلة، لقد امتاز هذا الموقف الما بعد أيدولوجي، بالمرونة، وبديمقراطية مباشرة، وبنوع من الابتكار في التحشيد، غير أنهم تعرضوا لعملية محفوفة بالمخاطر والالتزام غير المضمون والرسالة المبهمة والاستراتيجية الغامضة والانهيار السريع للقدرة على التحشيد.
الميدان، يقول بيات “كان أشبه بكوميونة مساواة، ساحة اختلطت فيها مظاهر الحياة اليومية العادية في صراع استثنائي من أجل الثورة، لكنها وقفت عند عتبة المشاعر”
تمرد دون بدائل، كأنها لم تكن ضد الحكومة، بل ضد أن يكون الثوار محكومين.
لم يبد الثوار معرضين عن السياسة، بل عن نوع خاص من السياسة هو سياسة الحزب الملتزم.
لا يشير بروز نحو 100 حزب سياسي في تونس وبضع عشرات في مصر إلى الإحجام عن السياسة، بل إلى رغبة في سياسة لها مغزى.
انتهى آصف بيات إلى وصف ما حدث بأنه ليس ثورة بالضبط، وليس إصلاحا بالضبط، بل مزيجا معقدا أسماه الثورة الإصلاحية، التي هدفت فقط للضغط من أجل إجبار الحكام على إجراء تغيير، فعجزوا عن تصور أشكال تنظيم وحكم مختلف.
لم تكن ثورات سبعينات القرن الماضي مجرد أعمال جماعية مدعومة من أجل إجبار السلطات على عمل إصلاحات بأسلوب منظم، بل خاضت أعمالا مباشرة لإعادة تنظيم المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي قولبت حياة الشعب الجماعية. مسارات راديكالية لم تجد سوى القليل من المداخل إلى الربيع العربي>