مع بداية تحضير إثيوبيا للملء الرابع لسد النهضة، يدور النقاش عن أزمة المشروع الذي يثير مخاوف لدى مصر والسودان (دولتي المصب) بشأن الخسائر المتوقعة في الموارد المائية، والتي تُضاف إلى أزمة الشٌح المائي الواقع بالأساس، ومن ناحية أخرى، يمثل السد لإثيوبيا، مشروعا يدعم وحدتها الداخلية، وتعوّل عليه أديس أبابا لمواجهة معدلات الفقر المرتفعة.
اقرأ أيضا.. سد النهضة| إثيوبيا “تفرض الملء الرابع” ومصر تتمسك بالدبلوماسية والسودان متذبذب
ولكن، هل تتجاوز أزمة سد النهضة مسألة الأمن المائي والتنمية للدولتين المصرية والإثيوبية؟
يجيب عن هذا السؤال جاشاوا أيفرام الباحث الإثيوبي في معهد الشؤون الخارجية، في مقال له على موقع معهد “كارنيجي” للأبحاث، مؤكدا أن هذا النزاع لا يدور فقط حول الموارد المادّية، بل يطال أيضًا هوية الدولتَين بحد ذاتها.
يقول الكاتب، الذي يدرس في جامعة أديس بابا، إنه مع تسارع وتيرة التغيّر المناخي، دخل ما أسماه “نزاع النيل” مرحلة جديدة من التعقيد، ما دفع بدول المنطقة إلى التنافس على المياه والغذاء وأمن الطاقة.
جاء بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير، وهو مشروع للطاقة الكهرومائية غير الاستهلاكية تقوم أثيوبيا بإنشائه على نهر النيل، ليُفاقم تعقيدات العلاقة بين إثيوبيا ومصر، حيث تعتبر الأولى أن المشروع هو ضرورة وجودية لها، فيما ترى فيه مصر تهديدًا وجوديًا لها.
أزمة هوية
منذ البدء في بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير في عام 2011، أكّدت القاهرة أن المشروع يشكّل تهديدًا للاستقرار في مصر والمنطقة، وبصورة خاصة للأمن المائي المصري. أما إثيوبيا أصرّت على أنه مشروع إنمائي وليس مشروعًا سياسيًا مرتكزًا على الأمن.
وعلى الرغم من هذا الخلاف في وجهات النظر، من الواضح أن سعي الطرفَين المتناحرين إلى الحفاظ على أمنهما الوجودي، أو الحفاظ على هوية الدولة، هو عاملٌ محرّك للنزاع.
ربما ينعدم الأمن الوجودي حين تتسبب تطورات داخلية وخارجية باختلال في استمرارية الهويات ووجهات النظر السائدة المتجذرة. لذا قد يُقال إن مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير يهدد استمرارية العالم الذي بنته مصر حول رؤيتها للنيل ككائن حي لا ينفصل عن تاريخ البلاد وثقافتها وهويتها الحضارية. وهكذا، قد تُضطر مصر، في ضوء التطورات المتعلقة بالمشروع، إلى إعادة تعريف هويتها الوطنية المتمحورة حول نهر النيل.
ما الذي يمثله المشروع؟
يقول الكاتب إن القاهرة، التي وصفها بـ”المتخوّفة” من هذا الاحتمال، عمدت إلى إضفاء طابع أمني على المسألة، مبديةً معارضتها للمشروع فور إعلان إثيوبيا عنه في عام 2011. وتصاعدت حدّة النزاع في عام 2013 حين قامت إثيوبيا بتحويل مجرى النهر لبناء السد- في خطوةٍ اعتبرها المصريون، تجاوزا للخطوط الحمراء. وفي نهاية المطاف، طرحت مصر مسألة النزاع على سد النهضة في مجلس الأمن الدولي.
تواجه أديس أبابا مشقات أيضًا في فرض الأمن المادي وغير المادي. ففي إثيوبيا، لا يعتبر سد النهضة جزءًا من البنية التحتية التي تولّد الكهرباء فحسب، بل هو أيضًا رمزا للوحدة في مواجهة الفقر والتخلف المتصوَّر. ويُقدَّم على أنه مشروع سيادي يضاهي انتصار إثيوبيا على إيطاليا في معركة “عدوة” في عام 1896.
لا يتحقق هذا النصر الحديث ضد معتدٍ أجنبي، بل ضد عدو داخلي هو الفقر المدقع. ساهم سد النهضة أيضًا في تغيير نظرة الرأي العام إلى النيل (“أباي” باللغة الأمهرية) من نهر يسرق الموارد الإثيوبية القيّمة إلى قوّة للتنمية الإثيوبية. فالنهر الذي كان مصدرًا للانقسامات في الماضي تستخدمه النخبة الحاكمة الآن لتوحيد الشعب تحت مظلة “هوية أثيوبية جديدة” ذات مرتكزات اجتماعية، وفي صلبها سد النهضة.
علاوةً على ذلك، يمتد هذا النزاع على الهوية إلى أبعد من إثيوبيا ومصر. تصوّر إثيوبيا السد بأنه مشروع إفريقي، نظرًا إلى أن نهر النيل يمرّ في 11 بلدًا إفريقيًا، ويرى البعض أن سد النهضة يدعم انتقال إفريقيا نحو المعايير المراعية للبيئة. أما مصر فترى أن هذه الاعتبارات نفسها تشكّل تهديدًا للأمن المائي العربي. تقع المحاولات المتضاربة لإضفاء الطابع الإفريقي والعربي على النيل في واجهة الصراع بين عوالم النيل ذات المرتكزات المختلفة.
ختامًا، ليس الخلاف بشأن سد النهضة مرتبطًا فقط بالجوانب المادية لأمن الموارد. بل إنه أيضًا نزاع بين الهوية المصرية القديمة المتمحورة حول النيل والهوية الإثيوبية الجديدة المتمركزة حول النيل – والتي هي قيد البناء. والمفاوضات في سياق هذا الصراع المبني على الهوية هي لعبة غالب ومغلوب. لذا، التوصل إلى اتفاق بين الدولتَين حول الجوانب المادية يتطلب بذل جهود للنأي بنهر النيل عن الاعتبارات الأمنية في سياقٍ مشحون بالهويات المتنافسة.