تتنافس أمريكا والصين على القارة الإفريقية، سياسيا واقتصاديا. إذ تتلاحق الجولات والزيارات التي تعكس هذا التنافس بينهما، فما أن اختتمت جولة وزير الخارجية الصيني تشين جانج في إفريقيا 16 يناير/كانون ثاني الجاري، حتى أعلنت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، جولتها التي بدأت في اليوم الثاني مباشرة ١٧ يناير/كانون ثاني، وتستغرق 10 أيام، تشمل دول السنغال وزامبيا وجنوب إفريقيا.
اقرأ أيضا.. بعد الاتفاق مع تشاد.. خريطة التوسع التركي في إفريقيا وأهدافه
انتقد المسئولون الأمريكيون مرارا استراتيجية الصين في تحويل المنطقة إلى ساحة تحدي لواشنطن، والنيل من مصالحها التجارية والجيوسياسية، وتقويض الشفافية والانفتاح، وتهديد علاقاتها مع الشعوب والحكومات الإفريقية.
وتستهدف وزيرة الخزانة الأمريكية تعميق العلاقات الاقتصادية مع دول القارة، عملا بمخرجات القمة الأمريكية الإفريقية الأخيرة، وتأكيد مركزية الولايات المتحدة في الساحة الإفريقية.
كيف تستفيد إفريقيا؟
قد يدفع التنافس بين القوتين إلى خلق آثار إيجابية للقارة الإفريقية، يمكن الاستفادة منها، ولكن على جانب آخر قد يخلف آثارا سلبية، يعززها ضعف لدى حكومات القارة الإفريقية يقلل قدرتها على التفاوض والتعاون والاستفادة من حالة التزاحم عليها.
يشير الباحث الاقتصادي حازم حسنين، إلى أن هناك تضاربا كبيرا بين مصالح أمريكا والصين في هذه المنطقة، هو بالأساس نزاع اقتصادي وليس سياسيا، ويستهدف -في تقديره- الحصول على أكبر قدر من الامتيازات من هذه الموارد.
كما يمثل التنافس فرصة للاختيار بين البلدين وتجنب الوقوع في فخ الديون والتبعية، كما تستطيع إفريقيا تعظيم مكاسبها عن طريق استيراد الخبرات وتحسين البنية التحتية للمواني والمشروعات المشتركة واستثمار رأس المال البشري وأنظمة الاستثمار وغيرها.
يقول “حسنين” إن العلاقة مع أمريكا والصين تقوم على المصالح المتبادلة، ولكن هناك نقاط ضعف تخص القارة الإفريقية، تجعل موقفها التفاوضي ضعيفا، وهي الفساد وعدم الشفافية، ما يفقدها الكثير من المكاسب الاقتصادية.
لذلك يدعو “حسنين” إلى الاستفادة من التنافس، في مجالات التعاون الاقتصادي سواء على صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر، أو من خلال آليات المنح والمساعدات غير المساهمة في تطوير البنية التحتية. كما يدعو إلى ضرورة تعامل الدول الإفريقية مع أمريكا والصين بوصفهما شريكين اقتصاديين في المقام الأول.
رسائل ومستهدفات الخزانة الأمريكية
تحمل زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية عدة رسائل من حيث دلالة التوقيت والحالة السياسية الإفريقية في الوقت الراهن، وعودة أمريكا لترتيب أوراق سياستها الخارجية.
وتستهدف وزيرة الخزانة خلال الجولة مناقشة آليات تنفيذ الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإفريقيا بشأن الأمن الغذائي التي تم إطلاقها في القمة الأمريكية الإفريقية السابقة، والتي كشفت رغبة واشنطن في توسيع التجارة والاستثمار في إفريقيا، وأطلقت حزمة بقيمة أكثر من 15 مليار دولار من الالتزامات والاتفاقيات والشراكات التجارية والاستثمارية الثنائية، بما في ذلك الطاقة المستدامة والأنظمة الصحية والأعمال الزراعية والاتصال الرقمي والبنية التحتية والتمويل.
كما كشف خطاب وزيرة الخزانة الأمريكية في السنغال عن شعورها بالتضامن مع إفريقيا وتأكيدها دور حاضنة الأعمال ومساحة العمل المشتركة في داكار التي توفر الائتمان والمساعدة الفنية الخاصة بقطاع رواد ورائدات الأعمال الشباب، أيضا شاركت رؤية واسعة النطاق للمشاريع التجارية المحتملة في إفريقيا.
وحذرت يلين خلال الزيارة من مخاطر استغلال النمو في الدول الإفريقية، مشيرة إلى استثمارات الصين باعتبارها تتضمن شروطا غير عادلة وتثقل كاهل الدول الإفريقية بالديون.
التنديد الأمريكي بسياسة الصين
تحتل الصين مكانة راسخة في القارة بفعل حجم التجارة المتبادلة والذي يقدر بنحو 254 مليار دولار، وهو ما يفوق بكثير حجم التجارة بين الولايات المتحدة وإفريقيا، والتي بلغت 64.3 مليار دولار، بالإضافة إلى ذلك، ساعدت آلية القروض الصينية في إبقاء بكين كدائن رئيسي بالنسبة للدول الإفريقية منذ بداية القرن وحتى عام 2020.
ويمثل المقرضون الصينيون نسبة 12 % من الدين الخارجي الخاص والعام لإفريقيا، والذي زاد أكثر من 5 أضعاف من عام 2000 إلى عام 2020 بقيمة تصل إلى 696 مليار دولار، وبفعل العواقب الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كورونا، تقوضت قدرة العديد من الدول الإفريقية على خدمة ديونها السيادية.
وهو ما تحاول الولايات المتحدة الترويج له عن طريق اتهام الصين بإلحاق الضرر بالدول النامية من خلال تقديم الائتمان للمدينين، مع العلم أنها تفتقر إلى الملاءة المالية لتسديدها “مصايد الديون”، إذ حذر كبار المسئولين في الولايات المتحدة بشكل منتظم البلدان الإفريقية من مخاطر القروض الصينية، وأشارت وثيقة وزارة الخارجية لعام 2020، بعنوان “عناصر التحدي الصيني”، إلى خطورة برنامج التنمية الصيني وفخ الديون.
وفي هذا الصدد قالت يلين: “يتعين على الدول أن تكون حذرة من الصفقات اللامعة”.
كما تسلط زيارتها إلى زامبيا الضوء على مسألة عبء الديون، حيث تعيد زامبيا التفاوض مع الصين بشأن ديونها البالغة 6 مليارات دولار، وحثت يلين المجتمع الدولي على تقديم إعفاء الدول النامية من الديون.
دبلوماسية القروض
تعتبر الصين الشريك الاقتصادي الأول للدول الإفريقية، فإلى جانب حيازتها على المركز الأول في ميزان التبادل التجاري مع الدول الإفريقية، تمتلك الصين شبكة متشعبة من مشاريع البنية التحتية التي تقع ضمن مبادرة الحزام والطريق.
وتعتبر دبلوماسية القروض من أهم الإشكاليات التي تهدد النوايا الصينية في إفريقيا، والتي بدورها شكلت نقطة ضعف توظفها القوى المنافسة الأخرى، وقد تباينت طبيعة وأهداف الإقراض الصيني للدول الإفريقية بشكل كبير مع مرور الوقت، بما في ذلك الإقراض المدعوم بالنفط، وقروض البنية التحتية التقليدية والتمويل المرتبط بالعلاقات السياسية والاستراتيجية.
وفي خضم الاتهامات التي واجهت الصين بشأن مسألة الديون، وٌضعت بكين في موقف دفاعي، دفعها نحو إظهار المرونة في بعض الحالات، ووافقت بكين مرتين على إعادة هيكلة الديون المستحقة على الكونغو الديمقراطية في عام 2019 ومرة أخرى في عام 2021.
كما أعلن الرئيس الصيني شيء جين بينج في المؤتمر الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي 2021 أن الصين ستوجه إلى الدول الإفريقية 10 مليارات دولار من حصتها في التخصيص الجديد لصندوق النقد الدولي لحقوق السحب الخاصة، كما أعلنت الصين في منتصف أغسطس/ آب الماضي عن إعفائها عن 23 قرضًا لـ 17 دولة إفريقية.
تعليق خدمة الديون
الصين ترد على الاتهامات الأمريكية
وخلال زيارة وزير الخارجية الصيني تشين جانج في يناير/ كانون الثاني الجاري، دحض المزاعم الخاصة بأن الصين تخلق “فخ ديون” في إفريقيا في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، وأشار إلى التزام الصين بمساعدة إفريقيا في تخفيف عبء ديونها، ودورها في مبادرة تعليق خدمة الديون لمجموعة العشرين، كما أظهر التضامن في علاج الأسباب الجذرية للديون.
وفي السياق ذاته، أكد دور التعاون التمويلي بين الصين وإفريقيا في مجالات مثل تطوير البنية التحتية والقدرة الإنتاجية، بهدف تعزيز قدرة إفريقيا على التنمية المستقلة والمستدامة.
ومن الضروري الإشارة إلى عدم المبالغة في تقدير مدى الإعفاء من ديون الصين، إذ إنه في نهاية عام 2020، ألغت الصين 113 مليون دولار فقط من إجمالي الديون الإفريقية، بالإضافة إلى أنه كثيرا ما يتم تخصيص الإلغاء للقروض الصينية دون فوائد، ولكن في حالة الدول الفقيرة، غالبا ما يحدث أي إلغاء فارق في التخفيف عن ميزانية الدولة.
التنافس قد يقوي الاستبداد
قد يكون للتنافس عيوب أيضا، حيث يسمح بتوفر متنفس للحكام المستبدين والعدوانيين، بكين لا تأبه لاستبدادهم، والغرب يتجاهل هذا الاستبداد، بل قد يكافئه مقابل الابتعاد عن بكين أو على الأقل عدم الاقتراب منه أكثر مما ينبغي، يبدو الأثر السلبي في حالة إثيوبيا تجاه دولتي المصب، مصر والسودان، حيث لا ترفض الصين نصحها، بل تتحفظ على الوساطة، أما واشنطن، فيبدو واضحاً في ردود أفعالها الباهتة على مذابح نظام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضد التيجراي وتنصله من نتائج الوساطة الأمريكية في أزمة سد النهضة، أنها تفضل إرضاءه مهما تمادى حتى لا يقترب أكثر من بكين.
أولويات التنمية
وأوصى كاندي يومكيلاه، المدير السابق لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، الحكومات الإفريقية أن تحدد كيف يمكن لعروض الشركاء المتنافسين أن تتماشى بشكل أفضل مع أولويات التنمية الوطنية، أي ترجمتها إلى مشاريع من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على مستوى المعيشة.
ويتطلب التعاون تعزيز قدرة الحكومات الإفريقية على التعامل مع الصين وروسيا وتركيا والهند، وتعزيز المزيد من التعاون الثلاثي أو الرباعي بين الشركاء الجدد والتقليديين لا سيما في مشاريع البنية التحتية.