“اجلس على حافة النهر وانتظر، فسيأتيك التيار بجثة عدوك يومًا ما”، هكذا تقول الحكمة الصينية وهكذا تبدَت الأزمة مُجددًا عندما انكشفت الحقيقة على وَقْعِ الأرقام المُحَدَثة وسط أجواء مأزومة بالأساس، حيث الاقتصاد العالمي يضطرب بسبب الأزمة في شرق أوروبا وما حملته من تبعات، وحيث فضائح الوثائق الحكومية التي كان يُحتفَظ بها في بيوت المسئولين، وحيث ترتيبات إعادة التموضع الإقليمي والتحالفات الجديدة في المحيط الهادي وإفريقيا والخليج العربي التي تكاد أمريكا أن تفقد مكانتها بها كمناطق نفوذ تاريخية.
اقرأ أيضا.. “إسلاميكُوين”.. “بونزي” يعود ثانية في جلباب قصيرٍ ولحية
كانت الحقيقة هي أن حجم الدين العام الأمريكي قد تجاوز السقف الدستوري المُقدر بـ31.4 تريليون دولار والذي كان الكونجرس قد اعتمدَه في ديسمبر 2021 باتفاق بين السيناتور “ميتش ماكونيل” زعيم الأقلية الجمهورية وبين والديمقراطيين الذين كانوا يسيطرون على كل من البيت الأبيض والكونجرس بغرفتيه النواب والشيوخ وقتذاك.
اختلفت التركيبة بعد انتخابات التجديد النصفي التي جرت في نوفمبر الماضي ليتقاسم الفريقان السيطرة، فحاز الديمقراطيون على أغلبية بمجلس الشيوخ بينما تمكن الجمهوريون من مجلس النواب حتى كان ما كان يوم الخميس الماضي حين وجهت السيدة “جانيت يلين” وزيرة الخزانة الأمريكية رسالة إلى السيد “كيفين ماكارثي” (الجمهوري) رئيس مجلس النواب أفادته فيها أنها، ورغم توقعها بأن السيولة الحكومية لن تنفد قبل خمسة أشهر، ستقوم باتخاذ إجراءات استثنائية لضمان عدم التخلف في سداد الديون إلى أن يتم رفع سقف الدين العام مرة أخرى واضعةً إدارتها تحت رحمة الجمهوريين المنتظرين هناك على حافة النهر.
كانت الإجراءات الاستثنائية التي ستتبناها الوزيرة “يلين” بالتوازي مع مفاوضات زيادة سقف الدين العام، تتمحور حول ملمح أساسي يتمثل في خفض الإنفاق الحكومي سواء بالإحجام عن أية تمويلات لاستثمارات جديدة أو بالإيقاف المؤقت لأية تمويلات تتعلق بإعادة الاستثمار بحيث يتم توجيه ما هو متاح من سيولة لسداد الفوائد ومدفوعات الديون كأولوية قصوى تفرضها مقتضيات الواقع الأليم، إذ بلغ حجم الدين العام الأمريكي لحظة كتابة هذه السطور صباح السبت 21 يناير 2023 ما يقدر بنحو 31.501 تريليون دولار أمريكي في الوقت الذي وصل الناتج المحلى الإجمالي إلى نحو 25.629 تريليون دولار وهو ما يغطى نسبة 81.4% فقط من إجمالي الدين العام.
توجد ثلاث مستوياتٍ للنظر في الأزمة الحالية:
على المستوى الاقتصادي والاجتماعي محليًا، يمكننا القول بأن الإجراءات التي أعلنتها الوزيرة “يلين” والتي تحمل عنوانًا رئيسيًا هو “التقشف العام”، من شأنها أن تلقي ظلالًا شديدة الوطء على الاقتصاد الأمريكي المُنهك هيكليًا والذي كانت بوادر تعافيه قد بدأت في الظهور مؤخرًا بعدما انخفض معدل التضخم وارتفع عدد الوظائف الجديدة وبدأ الاحتياطي الفيدرالي في دراسة تثبيت سعر الفائدة، فالإحجام عن ضخ أموال جديدة في شرايين الاقتصاد سيفضى إلى انخفاض في النمو تصل قيمته إلى نحو 5% بما يؤدى إلى موجة جديدة من الركود الاقتصادي تصحبها عودة لمعدلات التضخم المرتفعة وخسران نحو 3 مليون وظيفة وارتفاع في تكلفة الرهون العقارية وتقلص في مدخرات التقاعد ومزايا المحاربين القدماء والرواتب الفيدرالية.
على المستوى السياسي محليًا، سيكون أثر هذه الإجراءات موجعًا للحزب الديمقراطي، إذ إنها ستُثبِت أن الجمهوريين كانوا على حقٍ في اعتراضاتهم وتحفظاتهم التي سبق أن واجهوا بها خطط الرئيس “بايدن” التوسعية الضخمة لمواجهة فيروس كورونا ثم لتطوير البنى التحتية ودعم الخدمات الصحية والضمان الاجتماعي وحماية المناخ وإسقاط ديون الطلاب بخلاف الإنفاق العسكري الهائل، وهو أمر سيغير في كثير من حسابات الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح الجمهوريين.
لذلك فالحزب الديمقراطي مَعنىٌ بشكل كبير بأن يَنْتُج عن الإجراءات الاستثنائية التي حددتها الوزيرة “يلين” علاجٌ مناسب -وإن كان مؤقتًا- للأزمة على أن تُراعى في نفس الوقت مصالح أعضائه وفئات المناصرين المستفيدين من سياساته الاجتماعية ضمانًا لاستمرارية تصويتهم لمرشح الحزب الذي لم يتحدد اسمه بعد، حيث يَغلُب الظن أن الحزب لن يدفع بالرئيس “بايدن” لفترة رئاسة أخرى لأسباب لا تتعلق بتغيير في السياسات قدر ما هي مُتصلةٌ بحالة الرجل الصحية. ربما يُطرح قدرٌ من المرونة نفسه لتحقيق توازنٍ ما بين الأثر المالي الحاد لإجراءات الوزيرة “يلين” الاستثنائية وبين تنازلٍ محسوب بدقة شديدة لمطالب الجمهوريين الذين طال انتظارهم على حافة النهر.
وأظن رغم تأكيد الجمهوريين بأنهم سيعملون مع الديمقراطيين على تلافي أسوأ السيناريوهات وهو التخلف عن سداد الديون، أنهم سيستخدمون المفاوضات بشأن رفع سقف الدين العام كأداة للضغط لأجل تمرير سياسات أكثر حدة لتفعيل تخفيضات ضخمة في الإنفاق العام بالموازنة من ناحية وتخفيضات بالضرائب التجارية من ناحيةٍ أخرى.
على المستوى الاقتصادي عالميًا، سيكون من شأن امتناع الكونجرس عن رفع سقف الدين العام الأمريكي أن يُضعف التصنيف الائتماني لأمريكا خصوصُا في ظل العجز الضخم بالموازنة العامة بفعل ارتفاع أعباء الدين وهو ما يؤثر بالسلب على اقتصادات الدول التي قامت بالاستثمار في أدوات الدين الأمريكية بما سيضعف من قدراتها على الاستثمار في مناطق أخرى من العالم هي في أشد الحاجة لذلك في ضوء الظروف والأزمات التي يمر بها العالم حاليًا. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أربع دول فقط تتضمن “المنافس الرئيسي” لأمريكا -حسب التعبير المستخدم في وصف الصين بإستراتيجية الرئيس “بايدن” للأمن القومي- تمتلك ما يقرب من 10% من الدين العام الأمريكي حيث تأتي اليابان في المقدمة بنحو 1.3 تريليون دولار ثم الصين بنحو 1 تريليون دولار ثم بريطانيا بنحو 0.6 تريليون دولار ثم سويسرا بنحو 0.3 تريليون دولار، حيث من المتوقَع أن تنخفض قيمة تلك الإستثمارات إن تم تخفيض التصنيف الائتماني لأمريكا.
تاريخيًا، حدث أن تخلفت الولايات المتحدة فعليًا عن سداد ديونها في عام 1997 لكنها تمكنت -بسبب المحدودية النسبية لحجم تلك الديون التى بلغت 830 مليار دولار وقتذاك- من سداد غرامات التأخير للدائنين لتمُر الأزمة بسلام، لكن الأمر يختلف تمامًا هذه المرة لضخامة حجم الدين العام الأمريكي من ناحية ولالتزامات أمريكا المالية المحلية والخارجية الهائلة من ناحية أخرى. هل يغتنم الجمهوريون الذين انتظروا على حافة النهر فرصتهم التاريخية للعودة من الباب الوسيع فيقوموا بتعطيل رفع سقف الدين للمرة الثالثة والعشرين منذ 1997 ليدخل الاقتصاد العالمي كله في نفقٍ مُظلم، أم أن تسوياتٍ وتنازلاتٍ ستتم بين اللاعبين الأربعة الكبار: البيت الأبيض، والكونجرس بغرفتيه، ووزارة الخزانة، والاحتياطي الفيدرالي.. .هذا ما ستكشف عنه الشهور القليلة المُقبلة.