تحركات دبلوماسية ومخابراتية نشطة لمصر وتركيا شهدها السودان خلال الأيام الأخيرة، تعبر عن وجه آخر من المنافسة بين البلدين في القارة الإفريقية. وهو أمر لا يمكن فصله عما يدور من مواجهة غير مباشرة بينهما أيضًا في ليبيا، التي لا تزال تبحث عن استقرار، يعرقله الانقسام السياسي والصراعين الإقليمي والدولي.
وقد التقى رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، الإثنين في السودان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، في حضور مدير المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. وسبقه أوائل الشهر الجاري، رئيس المخابرات العامة في مصر اللواء عباس كامل بزيارة إلى الخرطوم تناقش فيها مع البرهان وممثلي المجتمع المدني حول الوضع في السودان، الأمر الذي أعقبته مصر بطرح مبادرتها الشاملة للتوصل إلى تسوية سياسية سريعة بالبلاد.
وهما زيارتان أبرزتا أهمية هذا البلد المضطرب لكل من مصر وتركيا، رأى الباحث في الشأن الإفريقي، عباس صالح، إن سياقهما منظور الأمن والتنافس الإقليميين في الوقت الراهن حول البحر الأحمر.
منظور الأمن والتنافس
ويفسر صالح تحركات مسئولي أجهزة المخابرات في كلا البلدين بالسودان، بأنها تندرج في إطار محاولات التأثير أو رسم المعادلات الجيوسياسية والإقليمية. وهي إن كانت ذات طبيعة دبلوماسية وسياسية، غير أن أجهزة الأمن والمخابرات تضطلع بأدوار كبيرة ومهمة حيال تلك المعادلات.
إلا أن للتحركات التركية الأخيرة في الساحة الإفريقية خصوصية، إذ تكشف عن محورية الدور المصري في رسم السياسة الخارجية التركية في المنطقة من حيث الأهداف والأدوات.
وهي تحركات تبرز حرص تركيا على استخدام “دبلوماسية الاستخبارات” بدافع التأثير في المشهد الإفريقي من جهة، وكذلك مخاوفها من قدرة مصر حسم بعض القضايا العالقة في القارة بصورة قد تتعارض مع المصالح التركية، لاسيما في الملف الليبي.
مصر والسودان وليبيا
يعتبر السودان من أولويات الأمن القومي المصري. لذا لعبت مصر دورًا بارزًا في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين هناك. خاصة وأن السودان يمر بمنعطف سياسي خطير. فعقب التوقيع على الاتفاق الإطاري في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تم الإعلان عن انطلاق مشاورات المرحلة النهائية بغرض التوصل إلى اتفاق نهائي بين الأطراف السودانية. إلا أن تلك الجهود يقف أمامها بعض القضايا العالقة التي تهدد المسار السياسي. وهي: العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، ومراجعة وتقييم اتفاق جوبا السلام، وتفكيك نظام 30 يونيو/ حزيران 1989.
وبدافع إخراج السودان من أزمتها الراهنة، وأهمية تمرير الاتفاق حفاظًا على وحدة الدولة السودانية في ظل ما تعرضت لها من انتهاكات خارجية وسلسلة من الصراعات القبلية، أجرى رئيس المخابرات المصرية عباس كامل بداية الشهر الجاري، زيارة إلى الخرطوم التقى خلالها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان.
هذه الزيارة عكست أهدافًا سياسية وأمنية ذات أولوية للدولة للمصرية، وسعي واضح نحو تنسيق المواقف مع الفصائل المدنية في السودان. وقد عبر عن ذلك لقاء “كامل” مع ممثلين عن التحالف المدني لبحث العملية السياسية وحلحلة الخلافات. وعقبها طرحت مصر مبادرة شاملة للتوصل إلى تسوية سياسية سريعة في السودان، كشف عنها سفير مصر بالخرطوم، هاني صلاح.
اقرأ أيضًا: قبل مفاوضات التطبيع الكامل.. قراءة في كروت لعب مصر وتركيا
وعلى الصعيد الليبي، استضافت مصر منذ أيام اجتماع بمشاركة القائد العام للجيش خليفة حفتر، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس البرلمان عقيلة صالح. حيث تم الاتفاق على الحوار ووقف التدخلات لتسوية الأزمة الليبية.
ويأتي هذا الاجتماع عقب لقاء لرئيسي مجلس النواب عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة خالد المشري في القاهرة، أسفر عن رسم خارطة طريق لوضع الترتيبات اللازمة لاستكمال العملية الانتخابية. حيث اتفق الطرفان على إحالة الوثيقة الدستورية للمصادقة في المجلسين.
وقد أكد رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، أن مصر تدفع باتجاه تفعيل إرادة الليبيين حول من يحكمهم. وقال إن القاهرة وقفت ضد أي تدخل أجنبي داخل ليبيا واحتضنت الأطراف الليبية وسعت بكل جهة لتقريب وجهات النظر، لافتًا إلى دعم المبعوث الأممي في ليبيا اجتماع المجلسين في القاهرة.
تركيا وليبيا والسودان
على الجانب الآخر، التقى رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان، الثلاثاء الماضي، رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. حيث تشير تقارير إلى إبرام صفقة مصالحة سياسية بين الدبيبة والمشري.
وهذه الزيارة تأتي بعد أن قضت محكمة في طرابلس الأسبوع الماضي ضد صفقة التنقيب عن النفط والغاز، التي وقعتها حكومة الدبيبة مع أنقرة العام الماضي.
ولليبيا أولوية وبعد هام لدى تركيا في ضمان مكاسبها في شرق البحر المتوسط. وهي تنشط مع حكومات الغرب الليبي، التي تلقى دعمًا تركيًا مستمرًا، عل أبرزه في الفترة الأخيرة قرار البرلمان التركي في يونيو/ حزيران الماضي، تمديد التفويض الذي يسمح بنشر القوات التركية في ليبيا، لمدة 18 شهرًا أخرى.
يفرق الصحفي المختص في الشأن الليبي، عبد الهادي ربيع، بين الموقفين التركي والمصري من الأزمة في ليبيا. فيقول إن تركيا فشل العملية الانتخابية في ليبيا يخدم المصالح التركية ومكتسباتها. إذ لن ترضى أي حكومة منتخبة بوجود مرتزقة وقوات أجنبية على أراضيها، وكذا لن تقبل بسيطرة على قواعدها العسكرية والبحرية وموانيها، التي تشهد تهريب يومي للوقود. خاصة في ميناء الخمس.
اقرأ أيضًا: مصر وتركيا.. “العقدة الليبية” لا توقف مسار استعادة العلاقات
ذلك، في وقت تنطلق السياسة المصرية من وجوب استقرار جارتها، والدفع نحو الانتخابات، باعتبارها أمن قومي مصري. فالفوضى هناك تثير القلق على الحدود المصرية. وهنا أحد أبرز الاختلافات بين أهداف مصر وتركيا في ليبيا؛ فالأولى تراها أحد ثوابت الأمن القومي، لابد من الحفاظ على استقرارها، فيما تحرك أهداف الثانية لعبة النفوذ السياسي والعسكري في إفريقيا.
على الجانب الآخر ووفق “ربيع”، فإن التحرك التركي الأخير في السودان يظهر وكأنه مزاحمة للدور المصري هناك. إذ أعقبت الإعلان عن المبادرة المصرية في السودان، زيارة رئيس المخابرات التركية إلى السودان في 16 يناير/ كانون الثاني الجاري، والذي التقى البرهان ومدير المخابرات العامة السودانية الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل. حيث تم التأكيد على عمق العلاقات بين البلدين.
وقد أعلن فيدان عن دعم تركيا للاتفاق الإطاري السوداني، فيما يمكن تفسيره بمثابة استكشاف الوضع في السودان عقب توقيع الاتفاق الإطاري بين المجلس العسكري والقوى المدنية والتوجهات المستقبلية للقيادة السودانية، وأيضًا محاولة لتبين ما تمخضت عنه اللقاءات مع الجانب المصري، ومحاولة إظهار التضامن والحرص على أمن السودان.
وهو اهتمام بدا جليًا في السنوات الأخيرة في تعزيز العلاقات مع أعضاء مجلس السيادة والبرهان الذي أجرى زيارة إلى أنقرة في أغسطس/ آب 2021، التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حيث تم توقيع 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم، شملت مجالات الطاقة والدفاع والمالية والإعلام.
فالسودان، وفق “ربيع”، لا يزال بوابة مهمة للمصالح الجيوسياسية التركية في إفريقيا، تسعى من خلاله إلى منافسة نفوذ دول إقليمية مثل مصر وإسرائيل.
دلالات التحركات الأخيرة
يرى الباحث عباس صالح إن زيارة رؤساء أجهزة مخابرات تركيا ومصر إلى السودان مؤخرًا تأتي في سياق الانخراط المتعاظم للقوى الخارجية في الشأن الداخلي للبلاد، والذي يتخذ طابع التنافس أكثر من التعاون.
ولا يمكن تفسير ذلك -حسب ما يرى- إلا في ضوء حقيقة أن التسوية الأخيرة (أو الاتفاق الإطاري) لعبت فيه الأطراف الخارجية دورًا كبيرًا، في وقت البلاد مهيأة للتدخلات الخارجية من كل نوع. وبالتالي تتحرك القاهرة وأنقرة من أجل المحافظة على مصالحهما من جهة، ومحاولة التأثير في معادلات المشهد السياسي المعقدة من جهة أخرى، لتأكيد أن كلا البلدين فاعل لا يمكن تجاوزه.
ويضيف صالح أن هناك بعد إقليمي آخر في هذه التحركات. وهو أن تركيا ومصر تتشاطران الهواجس حيال احتمالات تزايد رقعة الاضطرابات والصراع في السودان، مع فشل التسويات السياسية في تهدئة الوضع بالبلاد. ما يؤثر بالضرورة على الوضع في ليبيا، المهمة أيضًا لكلا البلدين؛ مصر وتركيا. إذ كان لمجموعات المرتزقة من السودان دور كبير في تأجيج الوضع في ليبيا. ذلك نتيجة تحالفها أو استخدامها من أطراف الصراع، أو عملها بشكل مستقل كمجموعات عابرة للحدود. وفي ذلك تأثير مباشر على المصالح التركية والمصرية في الأراضي الليبية.