عادة ما تحرص الأمم والمجتمعات على مراجعة تاريخها ليس من أجل البكاء على الأطلال واللبن المسكوب، إنما من أجل التعلم من أخطائها والسعي لبناء مستقبل أفضل.
والحقيقة أن مصر من البلدان التي عرفت في بعض فتراتها مراجعة نقدية، ولكنها ظلت استثناء ولم تتحول إلى نمط تفكير سائد تبنته النظم القائمة والتيارات السياسية على السواء، فقد شهدت البلاد عقب هزيمة 67 مراجعة نقدية أقدم عليها جمال عبد الناصر ومثلت حالة فريدة في تاريخنا المعاصر، فقد امتلك الرجل القدرة والجرأة على الاعتراف بالخطأ أعقبه محاولة غير مكتملة للإصلاح.
وقد أقدم عبد الناصر عقب هزيمة 67 على أحداث تغييرات عميقة في بنية نظامه السياسي، وتم تغيير قيادات المؤسسة العسكرية وقادة أجهزة المخابرات، حيث وقع الرجل على قرار بقبول استقالة كل من الفريق أول سليمان عزت قائد البحرية والفريق أول محمد صدقي محمود قائد الطيران والفرقاء أول: أحمد حليم إمام وهلال عبد الله وعبد المحسن كامل مرتجى وجمال عفيفي، والفريق أنور القاضي، ثم وقع قرارًا بإحالة اللواءات عبد الرحمن فهمي، وعثمان نصار، وحمزة البسيوني وإسماعيل لبيب إلى التقاعد، ثم وقع قرارًا ثالثًا بتعيينه القيادة العليا الجديدة للقوات المسلحة على النحو التالي: الفريق محمد فوزى قائدًا عامًا للقوات المسلحة والفريق عبد المنعم رياض رئيسًا لهيئة أركان الحرب، والفريق طيار مدكور أبو العز قائد للقوات الجوية، والفريق صلاح الدين محسن مساعدًا للقائد العام للقوات المسلحة، واللواء بحري فؤاد محمد ذكري قائدًا للقوات البحرية.
وهو ما يعنى في النهاية أن الجيش المصري قد خلا تمامًا بعد الهزيمة من رتبة فريق أول، وفتح الباب في أكثر مؤسسات مصر -والعالم- احترامًا للانضباط والتسلسل الهرمي أمام “جيل جديد” من قادة القوات المسلحة.
وقد تحدث عبد الناصر بعد 67 عن التعددية الحزبية، وفكرة وجود حزبين كبيرين يخرجان من الاتحاد الاشتراكي -التنظيم السياسي الوحيد في ذلك الوقت- كما قرر إجراء انتخابات من القاعدة إلى القمة في كل مستويات الاتحاد الاشتراكي، وهو أمر لم تعرفه كل تنظيمات الدولة التالية.
وشهدت مصر واحدًا من أخصب الحوارات الفكرية والسياسية التي دعت إلى مراجعة كل شيء بما فيها تجاوزات الأجهزة الأمنية، وامتلأت الصحف المصرية والعربية في ذلك الوقت بكتابات على درجة كبيرة من الثراء حملت قدرًا كبيرًا من التعارض والعمق في نفس الوقت، حيث بدأ نائب الرئيس الراحل علي صبري، الذي اعتبر في ذلك الوقت أنه ممثل اليسار، في كتابة عدد من المقالات حول الميثاق الذي كان مفترضًا تعديله في عام 70 واعتبرها البعض تطرفًا يساريًا، وقال عنها هيكل -الذي اعتبره البعض في ذلك الوقت ممثلًا لتيار الوسط أو يمين الوسط- أنها ستشعل حربًا أهلية نظرًا لتطرفها اليساري.
وكتب هيكل مقالين شهيرين في الأهرام في 18 و25 أكتوبر 1968 يدعو فيهما إلى “المجتمع المفتوح”، ويطالب علنًا بحرية الصحافة ويطرح ضمنًا فكرة تعدد الأحزاب، ورد عليه محمود أمين العالم بمقالات تناقش فكرة المجتمع المفتوح في الدول الاشتراكية.
وعارض كثير من السياسيين والوزراء آراء هيكل في الجمهورية وبدأ هذا الجدل كأنه أمر طبيعي مقبول بين أكثر صحافيّ مصر قربًا لجمال عبد الناصر وبين كتاب وسياسيين آخرين، حيث كانت المهارة المهنية والتوجه السياسي لكل كاتب هما الفيصل الأساسي في المبارزة الفكرية التي جرت، وليس قرب هذا الكتاب أو الصحفي من جمال عبد الناصر ونظامه.
وقد امتلأت صحيفة الأهرام بكتابات نخبة من كبار الكتاب والسياسيين التي دار أغلبها حول ضرورة التغيير والمراجعة النقدية وقدمت أفكارًا جديدة وبديلة لما حدث نذكر منها كتابات أحمد بهاء الدين عن الدولة العصرية، وكتابات لويس عوض وهيكل، والتي انتقدت بشكل علني أسلوب الاعتقال وزوار الفجر وعدم وجود حدود واضحة لدور أجهزة الأمن.
ولم يقبل جانب كبير من الرأي العام بمراجعة القيادة السياسية الرسمية لأخطائها، وشهدت البلاد تحركات على أرضية مدنية تقدمية للعمال والطلاب تنادي بمحاسبه المسئولين عن الهزيمة، وتطالب بإصلاحات سياسية وديمقراطية عميقة، فكانت مظاهرات 1968 الشهيرة التي خرجت من الجامعات والمؤسسات السياسية القائمة مثل منظمة الشباب، وقادتها قوى مدنية يسارية وليبرالية، وليس جماعات إرهابية أو قوى ظلامية كما جرى في فترات تالية.
والمؤكد أن نافذة المراجعة النقدية التي فتحها عبد الناصر عقب هزيمة 1967، هي التي فتحت الباب أمام حرب الاستنزاف العظيمة وانتصار 1973 المجيد، بحيث أصبح الاعتراف بالخطأ هو نقطة الانطلاق لتصحيح المسار وتحويل الهزيمة إلى نصر.
وقد يرى البعض أن حجم كارثة 67 هو الذي فرض على النظام السياسي المراجعة، لأنها ليست مجرد خطأ في بعض السياسات يمكن المكابرة فيها أو تجاهلها، وهو كلام صحيح، لكن من الملفت أن مصر والعالم العربي شهدت هزائم كثيرة لم تؤد إلي مراجعة من أي نوع فهزيمة صدام حسين في حرب تحرير الكويت لم تؤد إلي قيامة بمراجعة من أي نوع، بل لم يعترف من الأصل بالهزيمة واعتبر ما جرى “انتصار” في معركة “أم المعارك”، كما أن فشل مشروع الإخوان المسلمين ودخولهم في مواجهات دموية مع النظم الملكية والجمهورية لم يؤد في أي لحظة إلى مراجعة نقدية تقر بالأخطاء الذاتية، وتبحث في أسباب الفشل، وليس إلقاء اللوم على الآخرين من نظم وقوى سياسية مخالفة.
بقيت القوى التي راجعت إطارها الفكري وممارستها العملية في مصر والعالم العربي محدودة، منها مراجعة بعض جماعات العنف والتطرف مثل الجماعة الإسلامية والجهاد، اللذان قدما مراجعات في تسعينيات القرن الماضي للأسس الفقهية التي بررت ممارسة العنف والإرهاب، وخرج للنور ما عرف بمبادرة وقف العنف، وهناك جانب من التيار القومي والناصري الذي قدم مراجعة أخرى اعتبر فيها أن غياب الديمقراطية عن مشروع يوليو هو أحد أسباب هزيمته في 67 ورفض التنازل عن الديمقراطية تحت أي مبرر، كما قدم جانب من التنظيمات الشيوعية أيضًا مراجعة نقدية لكثير من تراثه الفكري وأصبح تبني الديمقراطية هو أساس موقفها السياسي بجانب الاشتراكية.
وبقيت خبرة مراجعة النظم القائمة لتوجهاتها وتصحيح أخطائها غائبًا على مدار نصف قرن، وبدت أهمية المراجعة الحالية من كونها ستنطلق من الخيارات الاقتصادية التي بررت التجاوزات السياسية، فكانت مقولة التنمية الاقتصادية قبل السياسية رائجة في منتصف العقد الماضي، وكانت النتيجة هي ضعف معدلات التنمية الاقتصادية بالأرقام التي ليس فيها وجهات نظر.
فمن الواضح أن هناك تناقص في معدلات الانتاج وأرقام التصدير (من غير الغاز) وتراجع متسارع في قيمة الجنية المصري أمام العملات الأجنبية، وأخيرًا هذا الانهيار في القوى الشرائية لأغلب المصريين صاحبه ارتفاع غير مسبوق في الأسعار وتراجع ملحوظ في مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة وخاصة في مجالي الصحة والتعليم، ما يتطلب مراجعة طريقة التفكير التي حكمت هذه التوجهات.
هناك اختيارات في السياسة والاقتصاد أدت إلى الأزمة الحالية وهي تحتاج إلى مراجعة بالجراحة وليس بالمسكنات.