تعتبر الهوية الحضارية المحتوى الأساسي لأي صورة بيئية جاذبة للسياحة، إذ أنها تمثل كل ما يربط الناس بمكان أو مساحة معينة، وهو أمر بالغ الأهمية للمدن التي تشهد ما يطلق عليه الخبراء “عملية التحضر السريع”. فهذا “التحضر أو التحضير السريع” قد يكون في أحيان كثيرة مناقضا في جوانب عديدة منه للحضارة والهوية الحضارية، التي استقرت للأماكن والمدن .
في السنوات الأخيرة، مثَل البناء والعمارة المحور الأساسي للتنمية الحضرية، والتي لم تراع المخطط لها دائمًا فيما يتعلق بالوظائف أو الجماليات، خاصة أن تنمية المدن نفسها حدثت بعيدا عن هويتها الحضارية والتي باتت تتغير باستمرار وبشكل غير متجانس.
اقرأ أيضا.. مَن يشتري شقق التجمع والقاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية؟.. الإجابة: 17 ألف مصري فقط
في الآونة الأخيرة، بدأت العديد من المدن والبلدان في تعديل سياساتها لتأكيد تحول التخطيط الحضري من التنمية “المتزايدة” إلى إعادة تطوير السكان والعمارة معا، ما أدى إلى ازدهار أنشطة التجديد الحضري من الوظائف أو الصور الجمالية.
مفهوم المجتمع وذاكرته
في بعض الأحيان، تكون العلاقة بين التخطيط الحضري والهوية الحضارية معقدة، ويرجع ذلك في الأساس إلى حقيقة أن الهوية الحضارية تتطلع دائما إلى الوراء، أو إلى “ما كان”، وهي الأسباب التي شكلّت المدينة على ما هي عليه اليوم. لكن التخطيط الحضري يركز بدلا من ذلك على الحاضر وبشكل أكبر على المستقبل، كما أنه يتحدى الماضي بشكل متكرر.
في مصر وبالنظر إلى مدينة أسوان، يمكن اعتبارها نموذجا. هي البوابة الرئيسية لجنوب مصر، كما أنها مصدر ومورد لعائد اقتصادي مهم، إذ تمتاز بعدد كبير من المميزات الجغرافية والجوية، تجعلها وجهة سياحية مهمة، ومقرا لعدد من مشروعات الطاقة.
تتميز أسوان أيضا بكونها مدينة تاريخية، تضم تنوعا سكانيا كبيرا، كما أنها من الناحية المعمارية تضم منازل مميزة للنوبيين بالإضافة إلى كورنيش النيل الذي يعكس هوية المدينة التاريخية.
أسوان من المدن التي لا تحتاج إلى تخطيط حضري، بقدر حاجتها إلى تنمية حضرية تتماشى مع هويتها التاريخية الحضارية، وهو ما تغفله دائما السلطة التنفيذية في المحافظة. لكن يجب أن يتم التمييز هنا بين التخطيط الحضري والتنمية الحضارية، حيث يتضمن الأخير العديد من الجوانب تشمل العمليات المكانية والسكانية الديموجرافية، والاقتصادية والاجتماعية، وأثر كل ذلك على هيكل المدينة.
وتعتبر محافظة أسوان مثالا لأزمة المدينة بين التنمية والحفاظ على الهوية كمدينة سياحية وأثرية تعتمد على مظاهرها الطبيعية من نهر النيل والنخيل والحدائق الخضراء. المدينة شهدت مؤخرا عددا من مشروعات التخطيط العمراني تحت مسمى التطوير في إطار الاستعدادات لكونها عاصمة الثقافة الإفريقية، ولكن في المقابل كان هناك نقاش مجتمعي حول ما آلت إليه المدينة في الوقت الحالي.
تنمية أم حفاظ على التراث؟
يتحدث الدكتور أحمد صالح، عالم مصريات ويعمل حاليا مديرا لآثار معابد أبو سمبل والنوبة، عن ما تم في أسوان من تخطيط عمراني، قائلا: “حدث تشوه لمدينة أسوان منذ سنوات بعيدة، فمثلا طريق الكورنيش القديم تم تشويهه بإقامة محلات بمواصفات لا تنتمي إلى هوية المدينة، كما أدت تلك المحلات إلى إخفاء معالم المدينة القديمة، مثل بيت الكاتب عباس العقاد، بالإضافة إلى البيوت ذات الطابع المعماري القديم”.
يضيف: “البر الغربي لأسوان له طبيعة خاصة، والذي يسكنه في الأغلب النوبيون فقط، كانت البيوت لا تبنى بأكثر من طابق واحد، بفناء واسع، وبالطوب البلدي، في تكيف مع درجات الحرارة العالية، ووفقا للتقاليد حتى لا يتم كشف الجيران، ونتيجة للتهجير اتجه أغلب النوبيين للعمل في الخارج طلبا للرزق، وعادوا ليتجهوا إلى البناء الحديث، ذا الطوابق المتعددة”.
كذلك يضيف: “هناك فيلا معروفة باسم فيلا زينب، على كورنيش النيل خرجت منها ثورة 1919، أهملها المسئولون حتى أصبحت اليوم فيلا مهجورة، قد تتعرض للهدم في أي لحظة”.
يختتم صالح: “هناك مسئولين دمروا جبانة المماليك، من أجل فتح شارع جديد، أو عمل كوبري جديد، المسئولون غير مهتمين بالحفاظ على التراث مقابل الإنشاءات الخرسانية الجديدة”.
ويحدث هذا وفقا لمخططات المحافظة بدون معنى جمالي واضح أو ملامح هوية تعبر عن المدينة الأثرية والسياحية، ففي الأساس لم يحدث حوار أو نقاش مجتمعي مع المواطنين والأكاديميين، أو العاملين في السياحة حول كيفية تطويرها عمرانياً.
مجزرة الأشجار.. الحضارة والخرسانة
أسوان تتسم بدرجات حرارتها المرتفعة، لذا ما حدث من تطور تخطيطي في ميدان محطة أسوان كارثي بكل المعايير، فأولا حدثت مجزرة للأشجار والحدائق المنتشرة حول الميدان، حيث يستظل الناس تحتها في انتظار القادمين من السفر أو العكس، أو حتى يخرج المواطنون في المساء للجلوس في الميادين للترفيه عن أنفسهم حتى لا يتكلفوا رسوم جلوسهم داخل الكافيهات التي انتشرت على طول الكورنيش بأسعار لا يستطيعون تكبدها، فبدلا من الأشجار تم إقامة أعمدة وباكيات خرسانية على جانبي الميدان.
بالإضافة إلى التشوه البصري في تقليد للإضاءة المبهرة لمدن مصرية جديدة لا تتمتع إلا بالسياحة الشاطئية فقط وأسوان تعتمد على مناظرها الطبيعية التي تقع عليها عين السائح منذ خروجه من المحطة، من نيل ونخيل وخلفها قبه الهواء في البر الغربي على جبل ذات رمال صفراء، كل هذا اختفى خلف الخرسانات المقامة، تشكيل طبيعي للبيئة لم يتدخل فيه إنسان، وبعيد تماما عن تطور وتنمية المدينة وفقاً لاختيارها كعاصمة الثقافة الإفريقية.
كذلك كان يستخدم أحجار الرصف في رصف الشوارع والأسواق، كالمدن الأوربية القديمة، حاليا تم استبدالها بالأسفلت منذ فترة بعيدة، وفي عملية التخطيط الحضري الأخير تم استبدال أحجار الرصف في الأسواق بالرخام وهو انتهاك وتشويه لتاريخ هذه الأسواق وما تتمتع به من شهرة عالمية.
التنمية الحضرية والحاجة للحوار
وهوية المدينة ليس لها تأثير خارجي فقط، كما لو اختُزلت بسهولة إلى صورتها الهيكلية، فالهوية الحضارية هي إلى حد كبير ظاهرة داخلية تربط الناس بمدينتهم. ما يمكن تسميته بـ”روح المدينة”، أو السمعة التي تتمتع بها المدينة لدى سكانها وزوارها.
فالهوية الحضارية هي بناء اجتماعي، ليست المباني أو الشوارع أو الحدائق فقط، ولكن الناس يطورون أفكارهم عن المدينة – وليس فقط بطريقة هيكلية، وهذا يعني حتمًا أن هوية المدينة ليست متجانسة أبدًا، ولكنها بالأحرى متنوعة ومنافسة مع المفاهيم الأخرى.
من ناحية أخرى، هناك حاجة إلى إجماع اجتماعي معين للتحدث عن الهوية الحضارية. ومع ذلك، فإن هذا الحديث لا يزال متغيرًا، ويجب تكييفه مع المواقف والتطورات المختلفة، لذا فهناك دور أصيل يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة في تنمية المدن في إطار الحفاظ على الهوية البصرية والتاريخية لها، وهو لن يأتي إلا بإقامة حوار اجتماعي، وإلى أي مدى يمكن رؤيته من خلال مشاركة وجهات النظر المختلفة التي يجب أن تبلور مشروعات التخطيط الحضرية في المستقبل، كما أن هناك حاجة إلى مشاورات واسعة و”الكثير من المقاعد على طاولة” لخلق شعور بالملكية المشتركة أو الرؤية المشتركة لتنمية المدينة مع الحفاظ على هويتها.
الخلاصة كيف نصوغ مزيجا ومركبا عضويا لا تنفصل أو تنفصم مكوناته، تنسجم وتمتزج فيه الحضارة والهوية الحضارية مع التنمية والتخطيط الحضري.