في حياة دوستويفسكي لحظتان، طرق فيها الباب عن زائر غامض، أحدهما حملت يده الحياة والفرح، والثانية يد حملت الموت.
في ليلة بمايو 1845، ينتهي دوستفوسكي من مخطوطة روايته الأولى “الفقراء”.
كان الأديب الروسي، قد تقاعد من عمله بالجيش، حيث تخرج بمرتبة ملازم من مدرسة الهندسة الحربية، كي يتفرغ لعمله الأدبي، واستأجر مع صديقه جريجورفيتش الذي بدأ معه طريق الأدب من خلال حلقات القراءة التي كان ينظمها دوستفوسكي، في أثناء فترة دارسته، لكل من شيللر وجورج صاند وبلزاك وفيكتور هوجو وبوشكين.
لم يطلع صديق دراسته على سره، إلا عندما انتهى، حيث قرأه عليه طيلة تلك الليل بشيء من الشك والخشية، يذهل جريجورفيتش مما قرأه، ويأخذ الصديق المخطوطة دون ليختبرها عند نيكولاي نيكراسوف، الشاعر الوطني المعروف آنذاك.
بعد يومين، بلا خبر من نكراسوف، قضاهما دوستفوسكي وقد اعتصره الشك والقلق، يطرق الباب، ليجد صديقه جريجورفيتش ومعه رجل لم يره من قبل، ينهال عليه بالتحيات والقبل والعناق، إنه نكراسوف وقد قرأ الرواية، مذهولا بها، ظل يتكلم مع دوستفوسكي في غرفته حتى الساعات الأولى من الصباح، وقد أطلق عليه أمل روسيا.
كانت تلك طرقة الحياة التي انفتحت لأديب روسيا العظيم.
يأخذ نكراسوف المخطوطة، ويذهب بها لأهم ناقد روسي في عصره: فيساريون بيلنيسكي، وعلى باب مكتبه يلوح بالمخطوطة قائلا “لقد نشأ جوجول جديد” في إشارة لأب القصة الواقعية في روسيا نيكولاي جوجول، ليرد عليه بيلنيسكي مستخفا: إن الجوجولات تنمو عندكم كما ينمو الفطر. في الأغلب لم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها الناقد عن أديب يعتبره أحدهم هو جوجول الجديد قبل أن يظهر أنه مخيب للآمال، لكن لما قرأ المخطوطة تغير موقفه كليا، وعندما قابل دوستفوسكي الشاب المرتبك الخجول غير الواثق مما خطت يداه، سأله” إن كان يفهم ما الذي أبدعه بالضبط”.
ما رآه بيلينسكي إنها أول محاولة ناجحة في الأدب الروسي لكتابة رواية اجتماعية، بشكل لا يقدر عليه إلا فنان أصيل.
لم تكن رواية الفقراء هي عمله الأول، سبقته مسرحيتان قلد فيهما أساتذة خياله في الأدب، شيللر وبلزاك، ولم تصلا إلينا الآن، ولم تكن الفقراء أو حتى الراوية التالية لها “الشبيه”، خالية من أثر أديب روسيا العظيم”جوجول” ومعطفه الشهير، لكن على الأقل عثر دوستفوسكي أخيرا، على صوت وحمل ذلك العمل، بذور الشخصيات والأزمات التي سيعالجها لاحقا.
تذيع شهرة دوستويفسكي في الأوساط الأدبية قبل أن تنشر الرواية، ويتسابق كبار الكتاب من بينهم تورجنيف والأرستقراطيون من رعاة الأدب والفنون لصداقته، يكال له مديح بغير حساب، ويصبح نجم الصالونات الأدبية، يرتبك الكاتب الشاب، ويتحول من متشكك غير واثق، إلى مغرور شديد الزهو بنفسه.
بعدها بوقت قصير ينتهي من روايته الثانية: الشبيه، لكنها لا تنجح، فيكتب بتعجل قصصا جديدة، كلها تخيب ظن بيلنيسكي والمتحمسين له.
وبسرعة شديدة، تظهر الشماتة بين الأدباء لسقوطه، عقابا له ربما على زهوه وغروره، ومن رفعوه إلى السماء، يخسفون به الأرض بلا رحمة، يسخرون من غروره ودمامة وجهه، حتى نكراسوف أول المتحمسين له ينظم مع تورجنيف قصائد هجاء وسخرية منه.
في هذا الوقت يقترب من مجموعة عرفت باسم مجموعة بيترافشيكي، وهو مثقف وموظف في وزارة الخارجية، كانت المجموعة تجتمع لمناقشة الأدب وقراءة كتب منعت الرقابة تداولها، فتتهمهم تقارير المخبرين بأنهم شيوعيون يحلمون بإقامة مجتمع اشتراكي، وأنهم يخططون لإحداث اضطرابات ومذابح.
وفي فجر أحد أيام إبريل عام 1849، يطرق باب دوستويفسكي للمرة الثانية، لكن تلك المرة لا تكون طرقة الحياة أو المجد، بل طرقة تستدعي الموت. يقتحم ضباط ورجال درك حجرته، ويساق بالأغلال إلى قلعة القديس باول حيث أخطر المجرمين في روسيا، دون أن يدرك أي جريمة قد اقترفها، ويقبع في حبس انفرادي لمدة 8 أشهر، حتى يمثل أمام المحكمة بتهم على غرار أنه حضر قراءة “قصة جندي” المحرضة على الثورة.
في ديسمبر 1840، يساق فجرا مع تسع من زملائه من زنازنينهم إلى ساحة، يلبسون الأكفان وتعصب أعينهم ويكبلون بالحبال، ليسمعوا حكم الإعدام رميا بالرصاص، وقرع الطبول.
يصف الكاتب الألماني ستيفان زيفايج، تلك اللحظة في كتابه بناة العالم، قائلا:” لقد ضغط كل مصيره في حفنة من الانتظار والتربص، وضغط يأس لا نهاية له ورغبة في الحياة لا نهاية لها في جزيء واحد من الزمن”
قبل أن ينفذ الحكم يظهر رسول من طرف القيصر، ويقرأ حكم العفو الذي يبدل الإعدام إلى حكم سجن بالأشغال الشاقة في سيبيريا، كنوع من “الرحمة والرأفة من جلالة الإمبراطور”.
كان الإعدام مسرحية وهمية، أصابت أحد السجناء بالجنون وفقد عقله، لكن تلك اللحظة لن تفارق خيال دوستفوسكي أبدا.
لأربع سنوات طويلة، في ظروف صعبة وطقس شديد البرودة، نفذ دوستويفسكي حكم السجن في سيبيريا مع أكثر سجناء روسيا عنفا، فضلا عن العمل البدني المرهق الذي لم تكن تتحمله صحته، أجبر على قضاء الأربع سنوات والأغلال تكبل ساقيه.
كانت تجربة شديدة السوء بالمقاييس كلها، لكن من وجهة نظر أخرى، كانت هي اللحظة التي خلقت دوستويفسكي العظيم الذي نعرفه الآن، وحولته من مجرد كاتب مزهو بنفسه، والتي كادت أن تجعل منه “بريما دونا” في الصالونات الأدبية ينتظر المدح، إلى كاتب يركز على طبيعة المعاناة البشرية ومشكلة الجريمة وصراع النفس الإنسانية، الحياة التي أرته تجربة إعدام، اقترب منها إلى حافة الموت، أعادته إلى الحياة، وقد أبصر حقائق كونية كبرى، دفعت فيه روح تليق بكاتب قد أدرك عن حق مهمته في هذا العالم.
بعد الإفراج عن عنه وإجباره على الالتحاق بالجيش كجندي لمدة سنوات أخرى في مقاطعة نائية، كان قد خسر كل شيء صحته ومجده الأدبي الواهي في ذلك الوقت، كل شيء في حياته كان محطما، عدا شيء واحد: حبه للحياة.