أنا مثلك تماما حزين على خسارة منتخبنا لكرة اليد أمام السويد وخروجه من ربع نهائي كأس العالم 2023، ومثلك كنت أتمنى أن نكسر النحس (أو أشياء أخرى) هذه المرة، أشعر بنفس المرارة لأننا منذ عشرين عاما لم نستطع تجاوز دور الثمانية، رغم تعدد البطولات وتجدد الأجيال، وتكرار الفوز ببطولات العالم للناشئين والشباب في هذه اللعبة الجماعية المهمة، وبالتأكيد تمنيت أن نفوز أخيرا بالميدالية المفقودة، ولا يهم لونها؛ ذهب، فضة أو برونز. فنحن نشعر أن هذا الجيل، والأجيال التي سبقته على مدار ربع قرن، يستحق أحدها على الأقل أن يتوج بأحد المراكز الثلاثة الأولى، وأن تودع باسمه ميدالية تاريخية في خزائن الاتحاد المصري لكرة اليد. لقد ظننا أن احتراف لاعبينا في أبرز الأندية الأوروبية خلال السنوات الأخيرة، سوف يكمل العنصر الناقص، لكن كما اتضح، في المونديالين الأخيرين، كما في أولمبياد طوكيو، أننا لا زلنا نصطدم بحاجز ما قبل الميدالية، لا يهم إن كان حاجز اسكندنافيا أو فرنسيا أو إسبانيا، إنه لا يزال يعيقنا في كل الأحوال.

اقرأ أيضا.. نحن لا نتحمل ألا ندعم صناعة الكتاب

لكنك مخطىء إن ظننت أنني أحاول البحث في أسباب عدم قدرتنا على تجاوز الحاجز الأخير، فغيري بالتأكيد من هو أقدر على ذلك، سيقولون لا نمتلك حارس مرمى من مستوى عالمي، وسيقولون لم نتعاقد مع مدربين مناسبين، وسيقولون إن إصابة هذا اللاعب أو ذاك قبل المونديال كانت من سوء حظنا، أو أن اعتزال هذا النجم لم نستطع تعويضه. وسيذهب آخرون إلى تفسيرات أبعد، نفسية واجتماعية، سيقولون إن طبيعة اللاعب المصري، أو نفسيته، أو قدرته على الأداء الجماعي، هي السبب في كذا وكيت، وقد يكونون محقين في هذه النقطة أو تلك، لكن كل ذلك ليس موضوعنا، فالواقع أنني أحلم بخسائر، كخسائر منتخب اليد، في بقية مجالات حياتنا!

إن “خسائر” منتخب اليد، و”عجزه” عن الوصول إلى ميدالية، لا يغير في حقيقة أنه حافظ ويحافظ منذ سنوات، على مكانته بين الدول الثماني الكبار في اللعبة. وهو، المنتخب الوحيد من خارج أوروبا الذي حافظ على هذه المكانة، وهو وإن كان لا يزال عاجزا عن الوصول إلى المرحلة الأخيرة، إلا أن أبطال تلك المرحلة، كالدنمارك والسويد وغيرهما، يعملون ألف حساب لهذا المنتخب الاستثنائي، القادم من القارة السمراء لينافسهم طوال أكثر من عقدين من الزمان على المراكز المتقدمة، وهو مالم تقدر عليه قوى أخرى عريقة في اللعبة، وكلها – أيضا – من أوروبا.

فماذا لو أننا كنا نحقق مراكز منتخب اليد، أو حتى أقل منها قليلا في بقية المجالات، لنتخيل مثلا، أننا ضمن المراكز الثمانية، أو حتى العشرة الأولى في جذب السياحة، سوف يعني ذلك أن نجذب حوالي 40 مليون سائح سنويا كما تفعل الدول التي تحتل المراكز من السابع إلى التاسع في ترتيب الجذب السياحي في العالم، وهي المسكيك، تايلاند، ألمانيا. (متوسطات أرقام 2019)، بينما تحتل مصر المركز الرابع والثلاثين في الجذب السياحي بأرقام تراوحت بين 13 مليون إلى 11 مليون سائح، لقد تأثرت أعداد السياح في جميع أنحاء العالم في الأعوام الأخيرة بسبب جائحة كورونا. لكن الترتيب لم يتغير كثيرا، لازالت مصر تحتاج إلى مضاعفة عدد سياحها ثلاث مرات، لتصبح في مركز مماثل لمراكز منتخبنا لكرة اليد في بطولات العالم، ولتضاعف دخلها من السياحة من حوالي عشرة مليارات دولار، إلى ثلاثين أو أربعين مليار دولار، ساعتها سيكون تسديد ديوننا الخارجية مثل “قطعة من الكيك” كما يقول التعبير الإنجليزي، وفي وقت وجيز لن يكون لدينا أي ديون.

ثم ماذا لو تخيلنا، أن ترتيبنا في قائمة الدول المصدرة للسلع والخدمات، مماثل لترتيب منتخبنا لليد، وأننا نصدر، بما يقارب 450 إلى 500 مليار دولار سنويا، كما تفعل هونج كونج أو إيطاليا أو هولندا وغيرها من الدول في أواخر قائمة الدول العشرة الأعلى تصديرا، بدلا من 53 مليار دولار (وهو من أعلى الأرقام في تاريخنا إن لم يكن أعلاها) التي صدرنا بها في 2022، بينما استوردنا بما يساوي حوالي 81 مليار دولار. ألم نكن، لو كنا في مركز هونج كونج، أو حتى المكسيك التي صدرت بأكثر من 400 مليار دولار وحققت فائضا تجاريا في 2022. ألم نكن لنعيش في مستوى اقتصادي آخر؟

ماذا عن ترتيبنا في التعليم، في الرعاية الصحية، في معايير جودة الحياة، إن مجرد تخيل أننا نحتل في مجال واحد من هذه المجالات التي ذكرناها والتي لم نذكرها، مركزا ضمن الثمانية الأوائل، لكفيل بأن يغير حياتنا جذريا.

لكن ما الداعي لمثل هذه الافتراضات الخيالية؟ وما وجه المقارنة بين فريق لكرة اليد، وهي لعبة في النهاية، وبين مجالات صعبة ومعقدة كالاقتصاد والتعليم والتجارة؟ دعني أجيب من فضلك.

إن كرة اليد لعبة، لكنها لعبة جماعية، أي تختلف جوهريا عن اللعبات الفردية التي قد لا تحتاج سوى عزيمة لاعب ومدرب، ورعاية قد تكون من اتحاد أو حتى رجل أعمال، لتحقق إنجازا وتحصل على ميدالية. أما الألعاب الجماعية فهي شأن آخر، إذ لا يمكن تحقيق  ترتيب عالمي فيها، ثم المحافظة على هذا الترتيب طوال هذه السنوات، من دون تخطيط شامل، وإدارة واعية، وتعاون هائل بين مختلف الأطراف، وإبداع وابتكار، ونحن نعرف أن هذا كله، وليس الصدفة، وليس الحظ، هو ما وضع كرة اليد المصرية في مكانة شبه دائمة، منذ نهاية التسعينيات، بين كبار اللعبة في العالم.

نعرف أن التخطيط بدأ منذ بداية الثمانينيات، تابعنا القرارات الجريئة بدفع جميع  اللاعبين غير الدوليين فوق 32 عاما إلى الاعتزال مع فتح المجال لهم ليكونوا مدربين ومحكمين وإداريين، تابعنا الأفكار المبتكرة للعثور على المواهب التي تلعب باليد اليسري، رأينا الاهتمام بالأشبال والناشئين الذين أصبحوا أجيال المستقبل، عاصرنا كيف تحولنا من “كومبارس” في بطولات أفريقيا، إلى كبار في بطولات العالم.

بدون التخطيط، بدون الجرأة في التنفيذ، بدون الاجتهاد الإداري والابتكار، لم تكن كرة اليد المصرية لتصبح الوحيدة التي تنافس أقوى فرق أوروبا طوال ثلاثة عقود، ولم نكن اليوم لنحزن لأننا نريد كأس العالم، الكأس شخصيا، لا مجرد الوصول إليها!  بالعناصر نفسها، بالتخطيط والجرأة والتنفيذ والابتكار والتعاون، يمكننا يوما ما أن “نحزن” لأننا فقدنا المركز الخامس في السياحة وأصبحنا في السادس، أو أن صادراتنا خرجت من قائمة أكبر 15 دولة مصدرة، أما بدون هذه العناصر، أما بثقافة الصدفة، فسنبقى نصارع، كما ترى، في كل المجالات.