منذ أيام قليلة أقدم البعض في السويد وتحت حماية قوات الأمن، على حرق نسخ من القرآن الكريم، العمل أو الفعل المعني سبق أن تكرر كثيرًا، من خلال أعمال مشابهة أو من خلال صور مسيئة للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد شكلت كل تلك الأعمال نوعًا من الاستفزاز المتعمد من قبل مجموعة من الناس.
في هذا الموضوع نناقش الأسباب المحتملة وراء هذه الأعمال، وعلاقة تلك الأعمال بالبيئة المحيطة بها داخليًا وخارجيًا، والسبل الكفيلة بمواجهة هذه الأعمال في المستقبل.
أولا: لماذا يقدم هؤلاء دوما على تلك الأعمال؟
مما لا شك فيه أن هناك أسبابا تجعل البعض يقبل بشكل متواتر، سواء في السويد أو الدانمارك أو فرنسا على تلك الأعمال الخرقاء.
1- هناك اعتقاد لدى بعض مارقي الفكر، أنهم بفعلتهم تلك إنما يريدون أن يثبتوا للناس داخل بلدانهم وخارجها، أنهم يتمتعون بحرية الرأي والتعبير، وأنهم بذلك غير مقيدين بأي قيد، وهم أحرار وأسوياء.
2- يرى هؤلاء أن بلدانهم بلدان ديمقراطية، تتيح لهم فعل مثل تلك الأمور بحرية كاملة، وأن تلك البلدان تختلف البتة عن البلدان النامية التي يتسم حكامها وشعوبها بالتخلف والرجعية ومعاقبة المتظاهرين ولا تسود فيها أدنى درجات قيم حرية الرأي والتعبير.
3- نظرًا لما يتسم به القائمين بتلك الأعمال من عنصرية تجاه المسلمين، فهم يرون أن أبلغ الوسائل لإثارتهم هي إسقاط مقدساتهم أو النيل منها، وهي بالتحديد في هذا الزمان القرآن الكريم ورسول الإسلام والمساجد وحجاب المرأة المسلمة. بالطبع هم هذه المرة وجدوا أقصر طريق لذلك عبر حرق المصاحف، باعتبار المصجف قدس أقداس المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وبغض النظر عن التزامهم بالشعائر الدينية أو عدم التزامهم بها.
4- إن سعي هؤلاء خلال حرق المصاحف وغيرها من أعمال، يرتبط بالرغبة في استفزاز مشاعر المسلمين، وإثارة حميتهم، رغبة في إخراج كافة ما يجيش بخاطرهم كرد فعل وكغيره على مقدساتهم. بعبارة أخرى، يسعى هؤلاء إلى توريط المسلمين في اتخاذ مواقف متطرفة، قد تصل إلى حد ممارسة العنف بالقتل أو حرق المنشآت أو تهديد أصحابها بالملاحقة البدنية، وبذلك يدعى القائمين بحرق المصاحف بصدق حدسهم، في إن المسلمين أصحاب عقيدة عنف وتخلف، وأنهم يتسمون بالرجعية والبربرية. وقد حدث ذلك بالفعل عدة مرات أشهرها الهجوم على مجلة شارل إيبدو في 7 يناير 2015. وتهديد صحيفة “يولاندس بوستين” الدانماركية.
ثانيًا: علاقة تلك الأعمال بالبيئة المحيطة داخليًا وخارجيًا
لا شك أن القائمين على تلك الأعمال تحركهم نوازع مرتبطة بالبيئتين الداخلية والخارجية.
ولعل أبرز ما يرتبط بتلك الأعمال هو استشراء حالة كراهية الأجانب في تلك البلدان، وهذا الأمر يرتبط عادة بأمور وأفكار عنصرية، تجعل القائمين على هذا الأعمال يتمسكون بكراهية كل ما هو أجنبي، بسبب الخلاف في الثقافة والفكر واللون والمعتقد والطبقة الاجتماعية، وغيرها من الأمور التي تشكل أطرًا مرجعية للإنسان. ولا شك أن هذه الفوارق تبدو أيضًا على علاقة بالحاجات الاقتصادية للفرد في المجتمع، إذ بمجرد شعوره أن هناك من يستفيد من مقدرات الدولة التي ينتمي لها بالجنسية، وأن تلك الاستفادة تؤثر على مستوى معيشته، بسبب شراكة هؤلاء الأجانب في مصدر رزق المواطن، كل ذلك يؤثر بشكل واضح على رد فعل هؤلاء تجاه الأجانب. وبالطبع أثرت على تغذية تلك الأفكار العنصرية المتطرفة بشكل إيجابي نمو التيارات السياسية العنصرية المعارضة للأجانب على النحو الذي برز في حصول عديد الأحزاب السياسية المتطرفة على أصوات معتبرة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2022 في عديد البلدان الأوربية.
أحد الردود التي يتبناها القائمون على الأعمال المسيئة في أوروبا، هي أن الطرف الآخر له مطلق الحرية في تناول معتقدات الطرف الأول، وأنه لن يؤاخذ قانونًا إذا ما قام بأي عمل ضد الرموز المسيحية. هذا الكلام بالطبع مردود عليه بأن هذه التصرفات ليس من الوارد أن تحدث على الإطلاق، أي أن إحراق الإنجيل أو تشوية صور المسيح أو العذراء مريم هي من الأعمال التي تتنافى مع كون المسلم مسلمًا صحيحًا.
اقرأ أيضا.. أزمة الأحزاب المصرية.. آليات للمواجهة
بعبارة أخرى، فإن رد هؤلاء المارقين على أن المسلمين من حقهم أن يقوموا بتشوية رموز المسيحية، هو أمر غير قائم أصلا، لأنه يسقط عقيدة المسلم، فهي عقيدة تشترط الإيمان بكافة الرسل والأنبياء دون تفرقة بينهم. هنا يحضر المرء ما قاله فضية الأمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في إبريل 2022 من عدم جواز لمس المسلم للإنجيل أو التوراه دون أن يكون على طهارة، باعتبار هذين الكتابين مقدسين يسري عليهما ما يسري على المصحف الشريف. كما استنكر شيخ الأزهر غضب بعض المسلمين من تقديم الطعام في نهار رمضان لغير المسلمين، وغضب البعض من بناء الكنائس، معتبرًا أن ذلك الأمر منهي عنه. وذكر أن المسلمين ليسوا وحدهم في هذا العالم، ومن ثم فإن العلاقة بين الأمم والشعوب أساسها التعارف والتعاون وليس الصراع أو حمل الناس على الإسلام بالقوة أو الإساءة إلى أديانهم ومعتقداتهم.
وخارجيًا، أثرت صورة الإسلام السياسي لدى الكثيرين في أوروبا، على كراهية كل ما هو إسلامي أو رمز إسلامي. إذ ارتبط الإسلام في ذهن هؤلاء بأعمال العنف التي قام بها نفر قليل من المنتمين للأفكار المتطرفة، خاصة تلك التي اشتهر بتبنيها كل من تنظيم داعش وتنظيم القاعدة، لا سيما أعمال العنف المسلح التي طرقت أبواب باريس ولندن وبرلين وبروكسيل وعديد العواصم الأوروبية. ما جعل كثيرا من الأوروبيين يتوجسون من كل ما هو إسلامي أو رمز إسلامي، فهم يخشون منه أن يكون مصدرًا لتهديد الأمن أو الإستقرار. وجعل القلة منهم تبادر بأعمال استفزازية غرضها إظهار التمايز في الفكر والثقافة، عبر الإساءة لكل مقدسات الآخر (الإسلامي) بالصور أو الرسم أو حرق الرموز… إلخ. بغية كيد وإغاظة الطرف الأخر، وإظهار عدم الخوف منه، أو الإمعان في عمل يحسبه البعض بطولي أمام ذاته وأمام الأخرين من أنصار فوبيا الإسلام.
ولعل أكثر ما يبدو غريبًا في السلوك العدواني من قبل هؤلاء تجاه الأخر، هو أن ما يبرر من أن تلك الأعمال المسيئة ترتبط بحرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد، يصطدم بأمرين، أظهرهما السلوك اليومي لهؤلاء، أحداهما قديم والآخر حديث.
الأمر القديم، هو أن تلك البلدان قد سنت عديد القوانين التي تمنع المساس باليهود ومعتقداتهم، وذلك عبر احترام رموزهم، وعقاب كل من يشكك فيها بالكلمة أو الصورة أو الرسوم. هنا تظهر لدينا مجموعة من القوانين التي تعاقب كل من يشكك في المحرقة اليهودية أو الهولوكوست، أو أن يصدر منه أيه أفعال تنتمي لمعادة السامة، ولا يحتج للقيام بذلك، بمبادئ حرية الرأي التعبير، أو خلافه. (محاكمة روجية جارودية أمام المحاكم الفرنسية بسبب مؤلفه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” في يناير 1998).
الأمر الحديث هو ما برز من حكومات ومواطني البلدان الأوروبية عقب الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبرابر 2022، ولا زالت رحاها تدور حتى اليوم. فتصرفات العنصرية في التعامل مع الجنس الأوروبي والجنس غير الأوروبي من اللاجئين القادمين من أوكرانيا، وجلب المرتزقة الأوروبيين من البلدان المجاورة لأوكرانيا لساحات الحرب وهو ما كان ساسة أوروبا أنفسهم ينتقدوه في حروب المنطقة العربية، والدروع البشرية التي كانت تسلك في حرب أوكرانيا والتي كان يوصفها هؤلاء أنفسهم في منطقتنا بالبربرية، وحجب الصحف والمعلومات البنكية وغيرها وغيرها من أمور، تؤكد كل تلك التصرفات أن تلك الشعارات هوت ولم يعد لها ذكر عندما تتعارض مع مصالح تلك البلدان المستنزفة لثروات العالم الثالث والمؤيدة للصهيونية.
ثالثا: السبل الكفيلة بمواجهة تلك الأعمال
بالتأكيد هناك سبل كفيلة للوقوف في مواجهة تلك الأعمال، بحيث تجعل من يقوم بها يفكر مرة وأكثر قبل القيام بها. بالطبع لا يمكن أن تكون المواجهة عبر العنف، لأن هذا الرد هو ما يريده البعض. لكن هناك طرق شتى للمواجهة:
1- مقاطعة البضائع والسلع التي توردها تلك البلدان إلى الأسواق. فسلاح المقاطعة هو سلاح موجع، لأنه يمس الشأن الاقتصادي والاستثماري لتلك البلدان التي تدرك تمامًا أن الشعوب المخاطبة بالكيد في معتقداتها، هي شعوب استهلاكية، ومن ثم فإن المقاطعة هي سلاح جيد جدا. وقد أفلح الأزهر، عندما أعلن شيخه الأمام الأكبر أحمد الطيب منذ يومين، عن ضرورة استغلال سلاح مقاطعة البضائع السويدية للرد على تلك الأعمال الاستفزازية.
بالتأكيد تحتاج المقاطعة إلى دعاية، وتحتاج إلى عمل جماعي حتى تأتي ثمارها. كما أنها لا يجب حتى تنجح أن تتوقف عملها على الأفراد، إذ كلما كانت الدولة نفسها تقف في وجه منع الواردات من تلك الدول كلما كانت المقاطعة أنجع وأقوى.
2- تبنى البلدان العربية والإسلامية تحت لواء الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي) سياسة وسلوك جماعي من شأنه دعم المقاطعة، وإيصال صوتها عبر هيئة الأمم المتحدة بما يشجب ويعارض ويستنكر تلك الأعمال، بحيث تصبح تلك الأعمال مجرمة من وجه نظر القانون الدولي، وأن هذا التجريم لا يتعارض مع حرية الرأي التعبير.
3- مقاطعة الأنشطة الثقافية التي تروج لها تلك البلدان التي تدافع عن تلك الإساءات، من مؤتمرات ومعارض وغيرها من الأعمال الفنية والإبداعية، وبذلك تدرك هذه الدول أن ما تقدم عليه له ثمن. على أنه يجب أن نلفت الأنظار على أهمية ألا تمس تلك المقاطعة مصالح مصر أو البلدان المقاطعة، فمثلا يجب الحيطة بأن لا تطال الأنشطة المرتبطة بسياحة مواطني تلك البلدان في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية.
4- مواجهة الرسوم المسيئة بأعمال مضادة غرضها نشر التعريف بالنبي محمد والأفكار والمبادئ الاجتماعية الواردة في القرآن، والتي تحض على حقوق الإنسان واحترام الآخر، وذلك باللغات الأوروبية المختلفة، ولا مانع من تغيير أسماء الشوارع التي تقطن فيها سفارات وقناصل تلك البلدان صاحبة الأعمال المسيئة بأسماء ذات دلالات إسلامية..إلخ.