منذ أن توفيت مهسا أميني في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي بعد أن ألقت شرطة الآداب الإيرانية القبض عليها بزعم ارتدائها الحجاب بشكل غير صحيح. تهز الاحتجاجات البلاد.
في الماضي، كانت الإدارة السعودية ستحاول استغلال هذا بالشكل الأمثل. بينما الآن هناك أدلة كثيرة على أن الإدارة السعودية الحالية عقلانية، لا ترغب في سقوط الجمهورية الإسلامية. وبدلًا من ذلك، تسعى إلى إضعاف طهران بما يكفي لانتزاع تنازلات جيو سياسية رئيسية، وفق تقرير حديث لطلال محمد، زميل معهد دراسات الشرق الأوسط، والمستشار المستقل في العلاقات الحكومية والجيوسياسية، نشرته “فورين بوليسي”.
اقرأ أيضًا.. “وضع ثوري بلا ثورة”.. ماذا بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات في إيران؟
يقدم “طلال” تحليلًا للأوضاع في إيران، حيث تركزت الحركة الشعبية في البداية على مطالب إلغاء الحجاب الإلزامي وحل شرطة الأخلاق، ووسعت نطاقها في الأشهر الأخيرة للسعي إلى حقوق الأقليات، وفي بعض الحالات نادت المظاهرات بتأسيس دول مستقلة للجماعات الكردية والبلوشية والأذرية والعربية في إيران. أعطى موت “أميني” منصة مشتركة لمظالم هذه الأقليات المزمنة منذ فترة طويلة، كما دفعت بعض جماعات المعارضة الإيرانية للمطالبة بتغيير النظام الذي يمكن أن يفسح المجال أمام جمهورية إيران الإسلامية.
في المناطق ذات الكثافة الكردية في إيران، كانت هناك مواجهات مسلحة بين الحرس الثوري الإيراني والجماعات الانفصالية الكردية. كما استهدفت طهران قواعد انفصالية كردية في العراق المجاور واتهمت هذه الجماعات بالسعي للانفصال عن إيران. كما اتهم النظام الإيراني الحكومة السعودية بالتأثير على النشاط الانفصالي داخل إيران وتمويله وتوجيهه.
الخصمان اللدودان منذ 1979
السعودية وإيران خصمان لدودان منذ الثورة الإسلامية عام 1979 التي أطاحت بالنظام الملكي في إيران. في ذلك الوقت، دعا آية الله روح الله الخميني إلى تصدير الثورة، ما أدى إلى إثارة الرعشات في العمود الفقري للعائلة المالكة السعودية. منذ ذلك الحين، شكلّت سلسلة من المواجهات المباشرة وغير المباشرة بين طهران والرياض المشهد الجيو سياسي للشرق الأوسط وفي القلب منه منطقة الخليج. لكل قوة منهما اليوم العديد من الوكلاء الذين يشكلّون مناطق نفوذ إقليمية. معظم الجماعات التابعة لإيران (وليس كلها) شيعية، بينما الجماعات المرتبطة بالسعودية سنية.
شكّل التنافس السعودي الإيراني جزءًا كبيرًا من تاريخ الشرق الأوسط الحديث. دعمت الرياض الرئيس العراقي السابق صدام حسين في حربه التي استمرت ثماني سنوات مع إيران في الثمانينيات. في عام 1982، ساعدت طهران في إنشاء وتمويل وتدريب ميليشيا حزب الله، والتي مارست سيطرة متزايدة على السياسة اللبنانية منذ ذلك الحين.
أدى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وسقوط صدام حسين إلى سعي إيران لممارسة نفوذ شيعي على البلاد في صراع استمر من نواحٍ عديدة حتى يومنا هذا. كما حددت المواجهة السعودية الإيرانية أيضًا صراعات ما بعد الربيع العربي في سوريا واليمن. من ناحية أخرى دعم إيران للديكتاتور السوري بشار الأسد والحوثيين في اليمن كان حجر الزاوية في التنافس بين طهران والرياض في عالم اليوم.
اقرأ أيضًا: “وضع ثوري بلا ثورة”.. ماذا بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات في إيران؟
ورغم أن الدولتين شهدتا فترات من الانفراج والتقارب في التسعينيات، إلا أن الرئاسة الإيرانية لمحمود أحمدي نجاد في الفترة 2005-2013، والصعود المستمر لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وانتخاب الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي في عام 2021، قضت جميعها على أي تقدم في هذه الجبهة.
وبدلًا من ذلك كثف كلاهما خطابهما تجاه الآخر. دفع إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر المتظاهرين الإيرانيين في عام 2016 لاقتحام السفارة السعودية في طهران، الأمر الذي كان بمثابة نقطة تحول في التاريخ الدبلوماسي للدولتين.
ورغم أن إيران والسعودية أجرتا محادثات منذ عام 2021 في العراق، إلا أن الجزء الأكبر من علاقتهما لا يزال عدوانيًا. في عام 2017، هدد محمد بن سلمان صراحةً بمواجهة إيران من خلال نقل الحرب إلى طهران: “لن ننتظر أن تكون المعركة في المملكة العربية السعودية. بدلا من ذلك، سنعمل حتى تكون المعركة عندهم في إيران”. بعد ذلك بعامين، في عام 2019، أعلن الحوثيون المتحالفون مع إيران في اليمن مسئوليتهم عن قصف منشآت شركة أرامكو النفطية السعودية في أراضي المملكة. الآن، تهدد طهران المملكة العربية السعودية بحرب مباشرة، حيث حذر قائد الحرس الثوري الإيراني من أن الرياض “ستدفع الثمن” بسبب دعمها المزعوم للنشاط الانفصالي.
الرياض ردت حتى الآن على اتهامات إيران بالتدخل في الاحتجاجات بصمت حذر. في غضون ذلك، منحت الذراع الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة في المملكة وقتًا سخيًا لبث المظاهرات. إذ بثت قناة إيران الدولية التي تمولها السعودية ومقرها لندن مقاطع فيديو وصور من داخل إيران واستضافت شخصيات معارضة وأعضاء في الميليشيات المناهضة للحكومة وانفصاليين أذريين وأكراد.
لا تريد زوال الملالي
في هذا السياق، قد يفترض المرء أن المملكة العربية السعودية تسعى في نهاية المطاف إلى زوال نظام الملالي “رجال الدين” في إيران. لكن الأمر ليس على ما يبدو.
في عام 2015 وقبل وفاته طلب العاهل السعودي الملك عبد الله، من الولايات المتحدة “قطع رأس الأفعى”، في إشارة إلى برنامج إيران النووي. لكن كل هذا قد يكون واجهة لفظية فقط، إذ أن هناك أدلة كثيرة على أن الإدارة السعودية الحالية عقلانية، ولا ترغب في سقوط الجمهورية الإسلامية. بدلاً من ذلك، تسعى الرياض إلى إضعاف طهران بما يكفي لانتزاع تنازلات جيو سياسية رئيسية. قد يشمل ذلك تنازلات إيرانية بشأن برنامجها النووي، وعدم التدخل في الشؤون العربية، ووقف الدعم لحلفائها الإقليميين مثل حزب الله والحوثيين وحماس.
هناك سببان يجعلان الانهيار الشامل للنظام الإيراني ليس في مصلحة الرياض. الأول يتعلق بالهوية السعودية. إذ يمكن القول إن القوة السعودية موجودة فقط بسبب وجود إيراني مغاير. إذ مثلما ترمز طهران للكثيرين إلى القيادة الشيعية العالمية، فإن الرياض تضع نفسها على أنها رمز للقيادة السنية.
اقرأ أيضًا: كلام في الأزمة الإيرانية!
بدون إيران على رأس الشيعة، فإن الهوية المفترضة للمملكة العربية السعودية باعتبارها الحامي السني للعالم لا تعد موجودة.
ثم هناك خطر تأثير نظرية الدومينو. فإذا نجحت الاحتجاجات الإيرانية وأدت إلى زوال الجمهورية الإسلامية، فقد يكون لها تداعيات إقليمية شبيهة بالربيع العربي في بعض الدول العربية، ولا سيما الخليج.
هناك أسبقية لهذا: احتجاجات الحركة الخضراء الإيرانية عام 2009 كانت بمثابة مقدمة للربيع العربي بعد ذلك بعامين. في ذلك الوقت، حاربت دول الخليج – ولا سيما المملكة العربية السعودية – بقوة لقمع الاحتجاجات في بلادهم. ردت الرياض على المظاهرات في المنطقة الشرقية ذات الكثافة الشيعية في البلاد بمزيج من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
وفي البحرين، كان التهديد أكبر عندما أرسلت مجموعة من دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية قوات لقمع الاحتجاجات التي يقودها الشيعة. اليوم، يمكن أن تلهم احتجاجات إيران المستمرة بالمثل النساء في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية والأقليات في الشرق ذي الكثافة الشيعية على وجه الخصوص للتظاهر.
ماذا إذا سقط؟
ورغم أنه من غير المحتمل، إلا أنه من الجدير التفكير في ما يمكن أن يعنيه سقوط النظام الديني لمستقبل الحكم في إيران. إذا تم الإطاحة بقادة رجال الدين، فمن المرجح أن تكون الدولة إما محكومة من قبل القيادة العسكرية للحرس الثوري الإيراني أو تصبح مجزأة على غرار سوريا أو ليبيا. يمكن أن يتخذ هذا التقسيم أشكالًا مختلفة، ما يؤدي إلى إنشاء حكومات متنافسة (كما في حالة طرابلس وبنغازي في ليبيا) أو تقسيم إقليمي على أسس عرقية.
قد يشهد السيناريو الأول صراعا على الشرعية بين الجماعات التي تفضل إيران الجمهورية وتلك التي تطالب بعودة النظام الملكي المخلوع عام 1979. ويمكن أن يشمل السيناريو الثاني دولا إقليمية عرقية تحكمها حكومات كردية وعربية وأذرية وبلوشية.
في كلتا الحالتين سيكون لهما تداعيات أمنية خطيرة على الرياض ومنطقة الخليج الأوسع. يمكن أن تكون إيران بقيادة الجيش في مواجهة شديدة مع الرياض.
بعد أيام قليلة من تهديد الحرس الثوري الإيراني للسعودية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أبلغت الرياض واشنطن أنها تلقت معلومات استخبارية تفيد بأن إيران تستعد لضرب المملكة. ورغم أنها لم تتحقق بعد، فإن المحنة تذكرنا بضربات أرامكو السعودية في عام 2019.
اقرأ أيضًا: من الشاه إلى الفقيه.. «الحجاب» راية تمرد وعصيان على أنظمة إيران
أدى الربيع العربي إلى تفتيت دول الشرق الأوسط الرئيسية مثل سوريا وليبيا وساعد في ولادة جماعات إرهابية، مثل داعش، التي زعزعت استقرار المنطقة. شيء مشابه يمكن أن يتكشف مع الفصائل الانفصالية الإيرانية إذا تم إضعاف طهران. قد يؤدي ذلك إلى خطر واضطراب في وقت تقوم فيه دول الخليج بتطوير مشروعات عملاقة لتنويع اقتصاداتها بعيدا عن الوقود الأحفوري. تعتمد هذه المساعي على الاستثمار الأجنبي الذي يتطلب تماسك الدولة واستقرارها.
ورغم صلاته بالجماعات المسلحة الإقليمية مثل حزب الله والحوثيين، يسعى النظام في طهران إلى موازنة نفوذه الإقليمي مقابل نفوذ دول الخليج العربية والجيش الأمريكي. وهذا يسمح لها بالحفاظ على صورتها كقوة إقليمية وحماية مصالحها مع انتزاع التنازلات من جيرانها. وقتها قد يؤدي الانهيار الكامل للجمهورية الإسلامية إلى إضعاف هذه الجماعات المسلحة التابعة، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى تصعيدها وحينها قد تكون أكثر خطورة على الرياض وجيرانها.
كما أنه وبدون قيادة مركزية، يمكن أن يتحول أعضاء هذه الجماعات إلى مرتزقة منفردين، ما قد يزيد من زعزعة استقرار المنطقة. هذا النوع من التقلبات المتزايدة يمكن أن يجدد الحركات التي يقودها الشيعة في جميع أنحاء المنطقة، كما هو الحال في جنوب العراق -على الحدود مع المملكة العربية السعودية- وبين الحوثيين في اليمن.
بدلًا من استفزازها للانهيار، تفضل المملكة العربية السعودية نزع فتيل إيران ببطء دون الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة. في الوقت الذي تواجه فيه طهران معارضة عالمية لردها “العنيف” على حركة الاحتجاج المستمرة، وتواجه كذلك اتهامات بالتعاون مع روسيا في أوكرانيا، والاتفاق النووي غير المستقر، هنا يبدو أن نهج الرياض يعمل.
يريد محمد بن سلمان أن تكون إيران ضعيفة بما يكفي لإجبارها على تقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي ونفوذها الإقليمي، لأن طهران المفككة ستلحق الضرر بالمملكة أكثر مما تنفع.