لم يكن أقلنا تفاؤلاً أو أكثرنا تشاؤما يتوقع أن يكون حال المجتمع المصري على الوضع الذي هو عليه الآن، فمن بعد شعار ثوري يحمل (عيش – حرية – عدالة اجتماعية) لم يتبق لنا سوى التحسر على زمن قد مضى وعمر ضاع والانتحاب على أيام كانت حتى قبل الثورة، فبعد أن ضاقت بنا السبل في البحث عن العدالة الاجتماعية، أظن أننا قد ضللنا طريق الثورة أو أنها ضلت منا، فقد كانت هناك حالة من الحلم التشريعي كانت تستهدف تغيرات مجتمعية على كافة المستويات تقتضي تحقيق ما فقده الشعب خلال سنوات طوال، عانى فيها الشعب من تسلط حكومي على مجريات التشريع من خلال قوتها النيابية المتحكمة في المسار، وهو الأمر الذي كان أحد نتائجه مقولة الرئيس المخلوع مبارك: “خليهم يتسلوا” وذلك كان بمناسبة الاعتراض على النتائج الانتخابية الخاصة بالبرلمان، وهو ما أدى إلى وجود إحدى المجموعات التغيرية التي دشنت فكرة البرلمان الموازي، بغرض الضغط الشعبي للبحث عن الديمقراطية حتى نرى تغيرات في الإطار التشريعي الذي يتماشى مع الاحتياجات المجتمعية بشكل حقيقي.
اقرأ أيضا.. عدم الطعن على عقود الدولة.. فقه تسبيب الضرورة من “الدستورية العليا”
إن القانون ومنظوماته أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوى الاجتماعية على اختلافها في المجتمعات المعاصرة, ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع وإقرار المصالح للقوى الغالبة بلا نزاع. وأن الوصول إلى توازن ما في المصالح هو تعبير أكثر تعقيدا عن أن الدولة وسلطاتها وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلي مستوى يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوى الاجتماعية والسياسية المسيطرة ـ وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي ـ إلى مصالح أكثر اتساعا تتصل بقوى اجتماعيا أوسع نطاقا, أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة,
وهذا المعنى ما مؤداه أنه يجب أن تتم الصناعات القانونية بطرق أكثر تقربا من المجتمعات المخاطبة بها، لا أن يتم تنحيتها جانبا، على الرغم من كونها هي الفئة المخاطبة أو المعنية من صناعة هذا القانون، وهذا ما تتجلى صورته الكبرى في كثرة التعديلات التي تنال التشريعات، وهو الأمر الذي يصيب صناعة القانون نفسها بتخمة تجعل من القوانين غابة لا تستطيع متابعة تطوراتها، حتى من معظم العاملين في مجال القانون نفسه، وهذا الأمر لا ينتج سوى من طريقة صناعة التشريع، وهي تلك الطريقة التي يُطلق عليها الفقهاء والباحثين بالطرق الفوقية لصناعة القانون، وهي ما تعني أن تتم صياغة القوانين من قبل المجالس المختصة بها دونما أي ارتباط بين القوانين والاحتياجات المجتمعية، أو دونما عرض أمر القانون على الفئات المجتمعية المخاطبة به، وهذا ما يجعل المنتج القانوني في صورته النهائية ليس مرضيا عنه بصورة مجتمعية ولو توافقية، قد توحي بطول عمر هذا التشريع، وعدم الحاجة إلى التطرق إلى تعديله عقب تغير النظام الحاكم أو تغير مجموعة المشرعين نفسهم، هذا بخلاف المشاكل التي تنتج عند تطبيق القانون نفسه، فكلما كان القانون أكثر توافقا مع الاحتياجات أو الطموح المجتمعي، كلما زاد عمره وصلاحيته داخل المجتمع، ولكن كلما كانت الصناعة بعيدة عن رغبات المجتمع، كلما كان هناك المزيد من المشكلات العملية وقت أن يدخل القانون حيز النفاذ، إلى أن ينتهي الأمر بأن تناله يد التعديل التشريعي مرة جديدة سواء كان ذلك تحت ضغوط مجتمعية، أو بناء على عرض القانون على الرقابة الدستورية، ولما كان النظام القضائي المصري يعمل بنظام الرقابة الدستورية اللاحقة على نفاذ القانون، وهو ما يعني أن يتم تطبيق القانون مرات عديدة حتى يتم عرضه على المحكمة الدستورية العليا، لتقول كلمتها النهائية بخصوص مدى صواب وصلاحية القانون، وهذا ما يعني أن يتحمل المجتمع ثمن أو قيمة تطبيق القانون في حالة الحكم الدستوري بعدم دستوريته، وهذه التكلفة المجتمعية، ليست من قبيل الترف الاجتماعي، وإنما هي تشكل بطريقة تراكمية مدى احترام المجتمع للقانون، ومدى تفاعله معه، أو بالمعنى المقابل مدى الارتباط بين القانون وبين الاحتياجات أو التطلعات المجتمعية.
ولكن وبعد مرور اثنا عشر عاما على ثورة يناير، وكما هو واضح من ضياع غالبية معالم الحلم التغيري، بل قد ازداد الأمر سوءً، وضاقت الأحوال على المصريين بشكل كامل وتغيبت لغة الإصلاح التشريعي بحثاً عن حماية ولو طفيفة لحق المصريين على أقل تقدير في العدالة الاجتماعية، ولو في نموذج بسيط يرفع بعض الكد والشقاء عن شكل الحياة التي بات شكلها الغالب وقالبها الأعم هو الانحدار إلى الفقر بشكل متسارع، وتزايد وتيرة الغلاء، وما يصاحب ذلك من نماذج سلوكية تساهم بشكل أكبر في تجذر الاحتياجات المجتمعية، ذلك على الرغم من تعاقب ثلاثة مجالس تشريعية بعد ثورة يناير، وإن كان أولهم لم يكمل مدته، إلا أنه قد ساهم في خضم الحياة السياسية بصورة أو بأخرى، ومن خلال ثلاثة مجالس نيابية لم يحظ الشعب بعنايتها أو بنصيب متكامل من حقه في أن تكون هذه المجالس ممثلة بشكل حقيقي لاحتياجاته، معبرة عن مشاكله، ساعية إلى إجبار السلطة التنفيذية لتغيير سياساتها والتعامل مع القضايا المجتمعية بشكل يعبر عنها وعن الشعب، إلا أن الأمر حتى الآن لم يزل كما هو وكأن كما عبر الخال الأبنودي (وكإن لا ثورة ولا حسنين).
وإذ لاشك في كون النظم القانونية المحترمة يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، ويفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني المختلفة والمصالح المتباينة، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.
وللأسف المبكي فإن حالتنا التشريعية لا تقل ضبابية عن حالتنا الاقتصادية، وعن حالة الوهن المجتمعي التي بات عليها غالبية الشعب المصري، بعد أن تفاقمت الأمور وزادت حدة الأسعار، وباتت الفرصة مواتية لمجلس النواب لإعمال رقابته الحقيقية على تصرفات السلطة التنفيذية، بحسبه الرقيب عليها، لم نجد صوت يعلو في الأفق مطالباً ولو ببصيص من التغيير الذي قد يوحي ببعض الأمل.
وكأن الشعب قد قام بثورته ليعاقب بها نفسه من خلال ما أورثته إياه السلطات المتعاقبة من حالة من الفقر المزري، فلنجعلها ملطمية كما يفعل الشيعة في أنفسهم. لكن لابد من أن نواجه مجلس النواب بدوره المتطلب منه، وعدم الانكفاء خلف السلطة التنفيذية في متطلباتها ورغباتها، وكأنه يتبعها أو كأن النواب ما هم إلا موظفين لدى تلك السلطة.